وداعاً بتوقيت غرينيتش

عليّ جبّار عطيّة | كاتب وإعلامي عراقي
كانت إذاعة البي بي سي العربية تصنف ضمن الإذاعات المعادية في أدبيات حزب البعث في العراق، وفي التقارير التي يرفعها الرفاق عن نشاطات غير المنتمين للبعث، والمشكوك في ولائهم، ويصنف مستمعها ضمن المعادين لخط الحزب والثورة، خاصةً في سنوات الحرب العراقية الإيرانية بعكس إذاعتي مونت كارلو وأمريكا اللتين كانتا تذيعان البيانات العسكرية العراقية بتركيز عالٍ!
وكان نصيب إذاعة لندن من التشويش نصيب القسم العربي في إذاعة طهران لغاية حماقة غزو الكويت في آب ١٩٩٠م، وما تبعها من حصار في التسعينيات أدى إلى ضعف أجهزة التشويش مما جعلنا نستمع ونستمتع بتغطيات الإذاعة الرصينة بوضوح!
أتذكر بعض كبار السن حين يروي حدثاً يعضده بقوله بالعامية العراقية: (إنطاها أبو لندن) أي أذاعها !


منذ أن أسست سنة ١٩٣٨م ارتبطت إذاعة البي بي سي العربية بالذاكرة الثقافية العربية، ووصل صوتها إلى المستمعين العرب في أنحاء العالم، وأحدثت نقلة نوعية في رفع ذائقة المتلقين بتنوع برامجها وثرائها فضلاً عن تقاليدها العريقة ومصداقيتها، وضمت عمالقة الأصوات الإذاعية من أمثال: محمد الصالح الصيد،وحسام شبلاق، ونور الدين زرقي، وحسن الكرمي، وكارم محمود، وماجد سرحان، وعلي أسعد، ورشاد رمضان، ومحمود المسلمي، وسامي حداد، وحسن معوض،ومديحة رشيد المدفعي، ورشا قنديل، وهالة صلاح الدين، وهدى الرشيد، وسهام الكرمي، ومن الطريف أنَّ الممثل الكبير محمود مرسي كان يعمل في البي بي سي مخرجاً إذاعياً قبل انتقاله إلى التمثيل !
كما بقيت برامجها المميزة في الذاكرة مثل: (قول على قول)، و(بين السائل والمجيب)، و(نقطة حوار) وغيرها.


ومثلما ارتبطت أصواتها الشجية والجهورية بالأذن، كذلك ارتبطت دقات ساعة بيغ بن مع إعلانها للوقت حسب توقيت غرينيتش مع نشرات الأخبار المميزة والتقارير الوافية التي نقلت لنا الأحداث أولاً بأول خاصة سنوات القتال الدامي مع إيران، وحرب تحرير الكويت، ثمَّ حرب إسقاط الدكتاتور سنة ٢٠٠٣م.
بدأ عمل ساعة بيغ بن الشهيرة في لندن، في الثالث من شهر حزيران سنة عام ١٨٥٩م، ويرجع اسمها إلى اختصار اسم بنجامين هول وزير الأشغال البريطاني آنذاك، الذي أشرف على تنفيذ مشروع الساعة وتصميم برجها، ولمّا كان ضخم الجسم، كانوا يطلقون عليه لقب بيغ بن، وقد أُطلق اسمه تكريماً له على جرس الساعة الضخم !


ومنذ عام ١٩٢٤م بدأت دقات بيغ بن تعلن الوقت عبر إذاعة الـ(بي بي سي) يومياً.
أما توقيت غرينيتش فيعرف على أنَّه نظام زمني يشير إلى التوقيت الشمسي المتوسط في المرصد الملكي في بلدة غرينيتش في لندن، ثمَّ أصبح هذا التوقيت هو المعيار الزمني الدولي.
يبلغ عدد موظفي هيأة الإذاعة البريطانية ٢٢ ألف موظف يقدمون إنتاجهم بأكثر من ٤٠ لغة، ويشغلون ثماني قنوات تلفزيونية وطنية، وأكثر من ٥٠ محطة إذاعية، ويتابعها أسبوعياً نحو ٣٦٤ مليون شخص.
لكنَّ لكل بداية نهاية، وهكذا ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية الخميس الماضي أنَّ هيأة الإذاعة البريطانية قررت وقف البث الإذاعي بعشر لغات، من بينها العربية والفارسية والصينية والبنغالية، إلى جانب إلغاء مئات الوظائف عبر الخدمة العالمية.
وقالت الهيئة في بيان: إنَّها تعتزم إلغاء ٣٨٢ وظيفة بالخدمة العالمية في إطار جهودها الرامية لتوفير نحو ٣١مليون دولار أمريكي من المدخرات السنوية لخدماتها الدولية في إطار خطّة لإعادة الهيكلة والتوجّه إلى المنصات الرقمية.


في كتابها (إعادة الظهور الاستعماري: المشروع الثقافي للإمبراطورية البريطانية المتأخرة) الصادر عن مطبعة جامعة كاليفورنيا ٢٠٢١م ، بحثت المؤرخة المتخصصة بدراسة تاريخ الإمبراطورية الحديثة كارولين ريتر في كيفية استخدام الصناعات الثقافية ضمن إستراتيجية إطالة عمر الإمبراطورية البريطانية في أفريقيا، وتقول المؤلفة: إنَّ تقنيات الراديو الجديدة آنذاك وضعت في خدمة مصالح الإمبراطورية.
دار الكثير من النقاش بشأن قدرة المؤسسة العملاقة على الحفاظ على استقلاليتها، ومدى حياديتها خاصة بعد ما يسمى بـ(ثورة الربيع العربي)، واتهامها بالإنحياز إلى رموز تنظيم الأخوان المسلمين، والتنظيمات المتشددة بشكل يثير الشكوك ، كما تنظر الحكومة البريطانية بعين السخط إلى خطاب الهيأة المناهض لسياساتها !
لعلَّ هذا يكون من أسباب إغلاق عددٍ من أقسام الهيأة ،أو السبب الاقتصادي، أو ما صرحت به مديرة الخدمة العالمية في الـ (بي بي سي) ليليان لاندور بقولها :إنَّ الطريقة التي يصل بها الجمهور إلى الأخبار والمحتوى آخذة في التغير، كما أنَّ التحدي المتمثل في الوصول إلى الناس وإشراكهم في جميع أنحاء العالم بجودة وصحافة موثوقة آخذ في الازدياد.
أحدث كتاب صدر بمناسبة مرور قرن على تأسيس الهيأة عنوانه (بي بي سي: تاريخ شعب) للمؤلف ديفيد هندي يرى بأنَّ الصراعات الحالية لـ بي بي سي (الخلافات مع الحكومة، والحروب الثقافية، والهيئات الأجنبية المنافسة، وغير ذلك) ما هي إلا مشكلات قديمة بحلل جديدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى