قراءة للمثنوي.. مدخل لفكر وتصوف شيخ المتجلين جلال الدين الرومي (3)
دنيا علي الحسني | إعلامية وشاعرة عراقية
(إن الروح التي ليس شعارها الحب الحقيقي من الخير ألا توجد، فليس وجودها سوى عار،، كن ثملا بالحب فأن الوجود كله محبة وبدون التعامل مع الحب فلا سبيل إلى الحبيب).
أن العامود الفقري للتصوف بشكل عام ولصوفية الرومي بشكل خاص ماهو إلا الحب والعشق الإلهي، حيث أن الرومي يقدس الحب بمعناه الرحب الذي يبدأ بحب الله بداية وقبل كل شيء ووصلا إلى حب الذات الطاهرة الصافية وحب كل شيء في هذا العالم، طالما أن كل شيء هو تجليات لله في عقيدة وحدة الوجود.
لقد عاش جلال الدين الرومي في تجربة العشق الإلهي هذه حياة روحية ثرية وغنية بالشوق والرجاء والصبر والرضا، وقد تعلقت روحه بعشق محبوبه الأزلي إله الحب والرحمة والحق والجمال، حتى أضحت لديه كل مظاهر الألفة بين المخلوقات في هذا الكون نفحة من نفحات ذلك العشق الأسمى، وكل مافي الكائنات من أنواع الحقائق وصور الإنسجام وعلامات التناسق قبسا من ذلك الحق السرمدي وتجلى لذلك الجمال المطلق. وقد أعتبر الرومي صاحب رسالة المحب العارف الذي بلغ درجة اليقين أن ينشره بين العالمين، وأن يكون بذلك داعية حب وتسامح وسلام بين البشر، وهي قيم غراء طالما تغنى بها في أشعاره ورددها في حكاياته الرمزية، وكانت تجربته الروحية هي سبيله إلى تمثلها وإلى إدراك مافيها من أبعاد إجتماعية وإنسانية.(يقول الرومي في وصفه لتجربة العشق الصوفي أو الحب الإلهي، (إن المحبة والحب باقيان إلى الأبد،، فلا تربط قلبك بسواهما لأنه عرض زائل)،ويقول في حديثه عن هذه الوحدة: (ونظرت حولي أبحث عنه فلم أجده،، ثم تفقدت قلبي وفيه وجدته ،، ولم يكن يوجد في مكان سواه) وتلك هي الحقيقة التي تثبتها الوحدة الروحية مع الذات الإلهية، وبرأي الرومي أنه لكي ندرك تجربة العشق الصوفي في وحدة الوجود بأبعادها ونصل إلى حقيقتها يلزمنا عشق حقيقي لله، وهذا العشق الحقيقي يكون باستطاعته وأن يكون قادرا على حرق لهيب وجودنا الظاهر المادي، وعلى تحريرنا من الكبرياء والغرور الجسماني، فوحدة هذا الحب برأي الرومي الخالص المختلف عن الغراميات الدنيوية، سيكون مثل الطبيب المداوي لكل علل الإنسان واستقامته، ولا يتعافى المرء بصحبة ولا بوجود حب دنيوي، ولا بوجود مال، بل يتعافى بقدر صلته بالله ، ويتعافى بقدر رضاه ، وبقدر كونه حقيقي، بكونه جميل داخليا لا ظاهريا فقط، ويتعافى المرء بقدر صراحته وصدقه، ولينه ووده، يقول واصفا لإكسير المحبة الصوفية في المثنوي : (أن المحبة تجعل المر حلو المذاق)، (بالمحبة يغدو النحاس ذهبي الصفات)، وبالمحبة تكون الأوجاع هي الشفاء)،، ( المحبة يبعث الميت حيا)، (بالمحبة تجعل من الملك عبدا). والحب هو الحياة السماوية فوق سطح الأرض، والذي يحب بأخلاص وذلك العاشق الصادق كما يرى جلال الدين الرومي، هو من يستطيع أن يقتل هوى نفسه وأن يسيطر على رغباته وعلى غرائزه، وهو من ينحي الغرور والأنانية من نفسه جانبا ويجب على هذا المحب المخلص أن يصل إلى حالة الثمالة والسكر في العشق الإلهي لدرجة أن ينسى نفسه لكي يستطيع أن يرفعها بنفس الوقت، لتتجلى أمامها الحقيقة الخالدة في صورتها الرائعة البهية على حد تعبيره وهذه الحالة كما يرى الرومي ستوصل هذا العاشق إلى هدفه المأمول والأكبر هو الفناء في الله والإتحاد مع الواحد وبذلك يحظى هذا الصوفي العاشق الحياة الأبدية السرمدية. يقول الرومي: (عندما يضيء حب الله في قلبك فالله دون أدنى شك يكن لك الحب أيضا)، فما من تصفيق يصدر عن يدا واحدة دون الأخرى ويقول أيضا عن هذه الحالة التي يصل إليها الصوفي، الفناء في الله عدم إحساسه بهذا الجسد المادي إنما يصل إلى درجة أو مرتبه اتحاده مع هذه الحقيقة المطلقة، يصور هذه الحالة بالقول: (مكاني هو لا مكان و علامتي ليست بعلامة،، ليس هنا جسد ولا روح لأني جزء من روح الأرواح.) ويفضي بنا هذا السياق الى ركن من أركان جليل الكلام عند مولانا، فأية منزلة للروح في تفكيره؟ “امتاع الروح” إن جليل الكلام الذي صاغه جلال الدين الرومي لينحت من مادته تمثاله الابداعي قد كان نابعا من صميم الروح ومن فيض الوجدان.
فالإنسان عنده بروحه قبل كل شيء،وعندما لا تكون روح حسب قوله ليس ثم إلا طين، يقول في عبرة يستخلصها من حوار بين الحمار والثعلب: (عندما لا يكون نور في القلب لا يكون قلبا) وعندما لا تكون روح ليس ثم إلا طين)، (وتلك الزجاجة التي لا تحتوي على نور الروح هي قارورة بول لا نسميها قنديلا ونور المصباح عطية من ذي الجلال)، (وذلك الزجاج والخزف هو صنعة الخلق)، (والجدول الحقيقي هو الذي يحتوي على ماء)، (والإنسان هو الذي يكون ذا روح)، ( أما هؤلاء الذين تراهم فليسوا برجال ،، إنهم صور فهم موتى الخبز وقتلى الشهوة). وما دام الإنسان هو الذي يكون ذا روح فقد غدت الروح معيارا لإنسانيته، وغدا سموه رهينا بسمو روحه المتعالية عن رغبات الجسد وهي لا تبلغ كمالها إلا بالتحرر من قيوده والتجرد من شروط معدنه الترابي والنزوع إلى معدنها الإلهي.