الهوية وسماتها الوطنية
بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
لم يتوقف المفكرون والمثقفون وعلماء الاجتماع عن البحث عن معنى ومدلول الهوية، هذا المصطلح الذي يستخدم لوصف وعي ومفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعات التي ينتمي إليها، كالهوية الوطنية أو الهُوية الإثنية أو الهُوية الدينية. مع العلم أنّ هذا المصطلح يستخدم خصوصاً في علم الاجتماع وعلم النفس.
الملاحظ أنّ علم النفس الاجتماعي يهتم بشكلٍ لافت بكلمة (الهُوية) المنسوبة إلى الضمير (هُوَ).
و(الهُوية) هي مجمل الصفات والسمات التي تميّز شخصاً عن غيره، أو شيئاً عن غيره، أو مجموعةً عن غيرها. لأنّ كلٌ منها يحمل عدة عناصر في هُويته. ولأنّ الهُوية تتألف من عناصر فهي شيءٌ متحركٌ ديناميكيٌ. يمكن أن يظهر أحدها أو بعضها في مرحلةٍ معينةٍ من المراحل، وبعضها الآخر في مرحلةٍ أخرى لاحقة.
من هنا يمكننا الحديث عن الهُوية من خلال قراءات ومقاربات متعدّدة، فنخرج بتعريفات عدة لها، قد يكون بعضها في ظاهره التناقض والتضاد، وفي باطنه الانسجام والتوافق والتكامل. فالهُوية تشير بكل المعاني إلى التميز، أي إلى ميزات الشخص أو المجتمع عن غيره، وهي في الوقت نفسه تشير إلى القواسم المشتركة بينها، والخواص المميزة التي تجتمع حولها هُوية اجتماعية ثقافية ما، لها ما يميزها عن غيرها، أي أنّ الهوية تعبر عن كل من الميزات المختلفة والخصوصية الخاصة بها، والعلامات المميزة التي تمنح الخصوصية للشخص أو المجتمع وترسم الحدود بين الديموغرافيا البشرية، والأنثروبولوجيا الثقافية، وعن الأطر الجامعة ومهمات الاشتراك.
والاتفاق عند فردٍ أو جماعةٍ أو أمةٍ ما. بشكلٍ عام، هي مجمل السمات والصفات التي تخص عنصراً فرداً أو جماعةً دون غيرهما، والهُوية بالمعنى الفلسفي تكون تراكمية فلا توجد هُوية الشخص حتى توجد هوية الجماعة والخلفية الجماعية التي يشغل الشخص أهم بناها الداخلية. ويعبر المنظور الفلسفي عن الهُوية على أنها فرصة التشابه والمطابقة، والتي تصنع باندماجهما هُوية ثقافية لشعبٍ ما، لا يشركه فيها بكل محدداتها وأطرها شعبٌ آخر، وإن اشترك معه في بعض تفاصيلها.
الجدير بالذكر أنّ للهوية مكونات رئيسية تحدّد آفاقها وملامحها في كل شخصٍ أو جماعةٍ أو أمةٍ دون غيرها.ومن أهم تلك الملامح اللغة التي هي العنصر الأساسي للهُوية، ولأنّ اللغة هي مكون رئيسي من مكونات الثقافة والمعرفة، فإنّ اللغة العربية تعتبر من أهم المقوِّمات الأساسية للثقافة العربية الإسلامية، ذلك أن اللغة العربية ليست لغة أداة تواصل فحسب، ولكنها لغة فكر وثقافة ومعرفة وعلم أساساً، وحتى الشعوب والأمم التي انضمت تحت مظلة الإسلام ومنهجه واتجاهه، وإن كانت احتفظت بلغتها الوطنية المحلية، فإنها اتخذت من اللغة العربية وسيلة للارتقاء الثقافي والفكري، وأدخلت الحروف العربية إلى لغاتها المحلية، كما أدخلت الكثير من المفردات العربية إلى لغاتها الوطنية وصارت جزءاً منها. وعلى هذا الأساس فإن الثقافة العربية هي بالتالي ثقافة الأمة العربية بامتياز، التي هي أيضاً أمة الإسلام الذي منه اكتسبت صفتها وصبغتها.
وفي حقيقة الأمر يرتبط مفهوم الثقافة بمجتمع خاص، معيَّن ومحدد الصيغة والهوية، في حين أن مصطلح الحضارة يُستخدم ليشير بصراحة إلى مجموعات أكثر شموليةً في الزمان والمكان وأكثر اتساعاً.
ولأنّ الثقافة كلمة عريقة ولها جذورها عميقة في اللغة العربية أصلاً، فهي تعني تهذيب النفس وصقلها واتباع العقلانية والمنطق والنباهة. كذلك استعملت الثقافة في عصرنا الحديث للدلالة على التطور والرقيّ الأدبي والفكري والاجتماعي للأشخاص والجماعات، مع التأكيد أنّ الثقافة ليست مجموعة من المفاهيم والآراء والأفكار فحسب، بل هي نظرية في المنهج الحياتي والسلوك بما يرسم طريق الحياة، وبما يسير وفق المستوى العام المرسوم الذي يتطبع عليه مجموعة من الجماعات،أو شعب من الشعوب، وهي السمات المميزة والخاصة لمقومات الأمة التي تتميز بها عن غيرها من الجماعات البشرية، بما تقوم به من القيم، والمبادئ، والعقائد، واللغة، والقوانين الناظمة، والسلوك، والعادات والتقاليد.
كما إنّ الهوية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنمط التنمية،فإذا كان نمط التنمية الاقتصادية والاجتماعية مستقراً، وكان سبباً للنمو والتنمية، فالهُوية تكون قويةً ومستقرةً، أما إذا كانت التنمية الاقتصادية والاجتماعية غير مستقرة، فكذلك تكون الهُوية غير مستقرة ومهتزة، ويؤثِّر عدم استقرار نمط التنمية في خلق حالة سياسية داخلية متوترة، الأمر الذي ينسجم مع حال الدول النامية ويتوافق معها، كما نلاحظ هذا من خلال تجارب الشعوب أن الحرمان والفقر المدقع قد يقضي على هُوية المجتمع، ويحوّله إلى جياع متوحشة لا مبادئ لها ولا قيم ولا انتماء. وما ثورات الفقراء والجوعى، وانتفاضات الفاسدين بغريبة عن مفاهيمنا، وهي بذلك لا تعبر عن فكرٍ أو ثقافةٍ أو رأي، وإنما عن حاجاتٍ اقتصاديةٍ ضرورية، وهي سد غريزة الجوع والحاجة إلى الغذاء .
في الختام نجد أنّ مفهوم الهُوية يشير صراحةً إلى حقيقة ما يكون به الشيء هُو هُو، أي: من حيث تحققه وتعيينه في ذاته وتمييزه بخصوصيته عن غيره من الأشياء، فهو حاضن الضمير الجمعي لأي تكتل إنساني. فالهوية ملازمة للمواطنة لا محالة، لأن المواطنين بحاجة ماسة إلى نظام سياسي واجتماعي واقتصادي، وقوانين وتشريعات ناظمة تحكم هذه العلاقة، وتبنيها على اتجاهات ومعتقدات وقيم وتقاليد وعادات وموروث تاريخي عريق يُطلق عليه الهوية.