حين كان التعليم قارب نجاة الفلسطيني من براثن الفاقة
سري سمور | فلسطين
الرسم بالأحجار – اللوحة للفنانة الأردنية هاجر الطيار
الصهاينة الذين اغتصبوا أرض فلسطين جاءوا من بقاع مختلفة، لكن النواة المؤسسة للمشروع الصهيوني في فلسطين قدمت من دول أوروبية متقدمة علميًّا، وتتفوق –لأسباب كثيرة- على الأقطار العربية، ومنها فلسطين، في تحصيل العلم والمعرفة، والاختراعات، في الوقت الذي كان هناك نسبة أمية عالية في البلاد التي احتلها الغزاة القادمين من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا.
واليهود في البلاد الأوروبية أنجزوا أمورًا علمية وسجّلوا براءات اختراعات في مجالات مختلفة؛ بل ساهمت مادة (الأسيتون) التي اخترعها اليهودي الصهيوني (وايزمان) في إنجازات عسكرية مفصلية لصالح الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.
وبعد بضع سنين من احتلال فلسطين من قبل بريطانيا أنشأ اليهود الصهاينة في القدس (الجامعة العبرية)، فيما لم تُطَبّق توصية مؤتمر عربي وإسلامي انعقد في القدس للتصدّي للخطر الصهيوني بإنشاء جامعة عربية في القدس، وهذا من جوانب كثيرة من التقصير العربي والإسلامي تجاه قضيتنا.
فأهل فلسطين في ذلك الظرف الصعب يواجهون مجموعة متعلمة لها باع في حقول المعرفة والاختراعات العلمية، ومدربة عسكريًّا، وتزداد تسليحًا وتدريبًا، ومدعومة بالمال الوفير، ومسنودة ومرعية من دول عظمى في العالم، فيما هم لديهم تعليم بدائي عمومًا، واليهود الصهاينة يدشنون جامعة على أرض القدس، وليس مع الفلسطينيين ما يكفي من سلاح للتصدي لعصابات هذا حالها.
وقد تنبه الفلسطينيون إلى أهمية ودور العلم في معركتهم الوجودية، فأرسل العديد منهم أولادهم إلى ما أتيح من مدارس أو (كتاتيب)، ولكن التكلفة لا تتحملها –مع قلّتها-موازنات الأهالي الذين يعيش أغلبهم على مواسم الحصاد والزراعة أو العمل بنظام (المياومة)، في ظل وجود أسر كثيرة العدد، مطلوب من رب الأسرة إعالتها، ولهذا لم يكن التعليم متاحًا لكل أفراد الأسرة الفلسطينية.
الشيخ عز الدين القسام نفّذ بمبادرة ذاتية برنامجًا لمحو الأمية، وكان هناك مبادرات أخرى، ولكنها محدودة التأثير ولا تتلقى الدعم الكافي لإحداث توازن مع الصهاينة في مجال التعليم.
فالجهل مع الضعف العسكري، وصفة جاهزة لخسارة الأرض؛ ومما يروى على سبيل الكوميديا السوداء، أن رجلاً قرأ في صحيفة فلسطينية كانت تصدر زمن الانتداب (وصول كذا قادم إلى حيفا أو يافا) فجن جنونه وأخذ يندب حظه بأن عمله سوف يبور فكلمة (قادم) تعني في الخبر فردًا يهوديًّا جاء إلى فلسطين ليستوطنها، ولكنه بفهمه البسيط الممزوج بخوفه على عمله وحرفته، خلط بينها وبين (القادم) وهي أداة خشبية كانت تستخدم في الحصاد في ذلك الزمن، وكانت مهنة الرجل صناعتها وبيعها للفلاحين!
روى القصة المضحكة المبكية أحد معارف الرجل في برنامج وثائقي تلفزيوني، وأضاف أن (صانع القوادم) صار لاجئًا وتوفيّ في مخيم عين الحلوة في لبنان!
ولك أن تتخيل حال الأمي الجاهل الساذج الذي قد (يبصم) على أوراق بيع وتنازل عن أرضه وهو لا يدري على أية وثيقة (بصم) وما يلحق بالجهلة البسطاء من معتقدات وخرافات، وأساطير حول (الليل) في زمن لا كهرباء فيه إلا في مناطق صغيرة، فيما ينشط الصهاينة ليلاً. مخاطر الجهل والأمية أوسع وأكثر من أن نحيط بها وبدورها في الهزائم والنكبات.
وكان من الملاكين أو الميسورين من تعلموا ودرسوا في سورية أو لبنان أو مصر، أو حتى في بعض الدول الأجنبية، مما زاد من نفوذ هؤلاء الناس، فصار بحوزتهم العلم والمال والجاه، وهي مقومات أو مزايا أو قدرات غالبًا استخدمت في إخضاع وتطويع البسطاء من شعبهم، ولتعزيز استعلائهم الطبقي، وليس للتصدي للخطر الصهيوني المتصاعد.
ونقطة أخرى ينبغي الإشارة إليها: الغزاة الأوروبيون لما شجّعوا التعليم في البلاد التي احتلوها، ومنها الأقطار العربية، حرصوا على فلسفة خاصة بالتعليم ذات أركان متعددة؛ منها أن يتحول المتعلم إلى إنسان يؤمن بمفهوم خاص للتحضر، يقوم على التعامل السلمي مع الأعداء، ويسعى للتفاهم معهم، هذا في أفضل الأحوال، ما لم تصبه لوثة فيراهم أحقّ منه بالأرض لأنهم أصحاب علم وثقافة. طبعا لا يمكن أن نعمّم الصورة أو نجاح فلسفة التعليم الغربي الذي دخل إلى بلادنا العربية، فعلى سبيل المثال لا الحصر تخرج فؤاد حجازي من الجامعة الأمريكية في بيروت وهو أحد قادة ثورة البراق في 1929 وشنقه الإنجليز في سجن عكا في 1930.
بعد النكبة.. التعليم بوابة أمل
جرى ما جرى ووقعت النكبة في 1948، وصار مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني يحملون صفة وهَمّ اللجوء والمأساة، واحتل الصهاينة ثلثي أرض فلسطين الانتدابية.
وهنا رأى الفلسطينيون نافذة الأمل في الحصول على قسط من التعليم، ومع افتتاح مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ومعهد خاصّ بالوكالة يخرج المعلمين في مختلف التخصصات، وازدياد مطرد في عدد المدارس والكليات الجامعية، انكبّ الفلسطيني على التعليم، فهو ما يضمن له حياة كريمة، ويؤهله إلى الحصول على دخل معقول يعينه على نوائب الدهر، ويمنحه مكانة اجتماعية جيدة.
كان منطق الأهالي الذي ساد زمنًا طويلاً؛ هو أن اللاجئ ليس له (تينة ولا زيتونة) بمعنى أنه لا يملك أرضًا يزرعها ويعيش من نتاجها، والحصول على شهادة يتيح له العمل ولو حتى في بلد آخر، فقد بدأت دول الخليج في استقبال معلمين من الدول العربية ومنها فلسطين والأردن.
وأهل الضفة الغربية من غير اللاجئين أيضًا توجهوا إلى التعليم، فما تنتجه الأرض لا يكفي، كما أن العمل في الفلاحة شاقّ ومرهق، وليس كما تصوره بعض الأهازيج والأعمال الأدبية، إضافة إلى أن نسبة ليست قليلة من أهالي الضفة الغربية لا يملكون أراض تكفي لتوفير متطلبات العيش.
إذا أردنا تلخيص الفكرة فإن التعليم عند الفلسطيني كان سُلّمًا إلى مهنة أو وسيلة عيش، فيها تعب أقلّ من الأعمال اليدوية والزراعة وما شابه، ويُدرّ عليه دخلاً يُغيّر حياته ويجعل له موقعًا في المجتمع. أعلم يقينًا أن هذه الفكرة مستفزة لبعض من يريد القول إن السعي وراء الشهادات والتعليم هو (حب وعشق وهيام بالعلم)، حقيقة الأمور بلا رتوش هكذا، فقلة قليلة جدًّا أحبوا العلم من أجل العلم.
هل معنى ذلك أن الفلسطيني غاب عنه أو تجاهل حقيقة أهمية العلم بوصفه أداة مهمة جدًّا في صراعه مع العدو؟ لا، من الناحية النظرية على الأقل، خاصة مع حرص المعلمين والأهالي، ونشطاء الحركات والفصائل، على شرح دور العلم في التصدي للمشروع الصهيوني، وتضخمت بمرور الوقت فكرة ساذجة صار حتى مثقفون وأهل رأي وربما ساسة يؤمنون بها؛ وهي أن اليهودي بالعلم الذي تعلمه، أقنع العالم بأن يكون له دولة في فلسطين لأنه (متعلم ومتحضر) وبالتالي علينا أن نحوز العلم وشهاداته كي يقتنع العالم أننا أيضًا نستحق أن يكون لنا دولة، إضافة إلى الحرص على الترتيب والنظافة في المدارس كي يراها الزائرون الأجانب وغير ذلك من الأفكار التي ليست بذي صلة.
على كلّ انتشر التعليم في الداخل والخارج، ولم يعد مقصورًا بغالبيته على أبناء الملاكين والميسورين، بل صار الفقراء ومتوسطو الدخل يشعرون بشيء من التعويض النفسي كون العديد من أولادهم وبناتهم تفوقوا في الدراسة وحصلوا على شهادات جامعية، لا سيما إذا صادف ذلك تراجع مستوى أبناء الطبقات الثرية علميًّا.
وقد صرح رئيس بلدية نابلس السابق والذي كان له نشاط وطني بارز ضد الاحتلال أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات (بسام الشكعة، توفي في 2019) بأنهم في الحركة الوطنية في الداخل الفلسطيني، كان لديهم تحفظات على افتتاح جامعات، أو أن تكون الجامعات فيها جميع التخصصات، كي لا ينعزل الشباب الفلسطيني عن محيطه العربي.
بالتأكيد ليس هذا هو السبب الرئيس في عدم وجود كافة التخصصات في الجامعات الفلسطينية المختلفة، التي كانت رسومها منخفضة وعدد طلبتها قليل مقارنة مع زملائهم أبناء الضفة الغربية الذين كانوا يتوجهون إلى الدراسة في الجامعات والمعاهد الأردنية بكثرة، وإلى دول الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية سابقًا وإلى مصر والعراق وسورية والجزائر والعديد من الدول العربية الأخرى، إضافة إلى عدد أقلّ يدرسون في الدول الغربية (كثير منهم في ألمانيا الغربية سابقًا).
كانت الجامعات معقلاً لمختلف النشاطات التي يرفضها الاحتلال وينتقم ممن يقف خلفها؛ وعليه رأي كثير من الطلبة وذويهم، أن من أراد أن يحصل على شهادة في الوقت المخصص لها (معدله 4 أعوام) فالأفضل أن يدرس في الخارج، تجنبًا لاعتقال أو تعطل الدراسة في الجامعات بسبب الإغلاقات.
فقبل انتفاضة الحجارة كانت سلطات الاحتلال تغلق جامعات فلسطينية لفترات محددة، حسب الحدث في كل جامعة؛ فقد تغلق جامعة بيرزيت شهرًا، فيما تكون الدراسة في جامعة النجاح منتظمة، ثم يقع حدث ما تغلق بسببه وهكذا.
ولكن مع بواكير انتفاضة الحجارة أغلقت سلطات الاحتلال كل الجامعات الفلسطينية، وكليات المجتمع، والمدارس لكافة المراحل، واستمر الإغلاق سنوات.
وابتكر القائمون على التعليم الجامعي أسلوب (التعويض) وهو أن يكون للجامعة شقق مستأجرة في بعض البنايات، يدرس الطلبة (من يرغب منهم) فيها بعض المساقات ويقدمون امتحاناتهم، الفكرة أفادت بعض الطلبة الذين كانوا على أبواب التخرج حين أغلقت الجامعات.
على كلّ افتتحت سلطات الاحتلال الجامعات المغلقة تدريجيًّا، منذ أواخر 1991 وعادت الجامعات بؤرة للاستقطاب والنشاط السياسي تلقائيًّا، خاصة أن إعادة فتحها تزامنت مع أحداث سياسية وميدانية كبيرة (مؤتمر مدريد، وأوسلو، وتصاعد العمل العسكري الذي تتصدره حماس والجهاد الإسلامي).