الشاعر عبد الرزّاق الربيعي والقاص محمد سهيل أحمد (وجها لوجه)
الحنين مصدر من مصادري الشعرية !
كان لقاؤنا الأول الذي لم يتم على ارصفة العاصمة الاردنية عمّان يوم كنت اتسكع في الأزقة المحيطة بسقف السيل في تسعينيات القرن المنصرم.
لم يحصل ذلك اللقاء لظروف حياتية. ويوم قررت في نهاية عام 2018 ان اغير لفظة (عمان) نطقا وحركات، وجدتني في مقر مجلة (نزوى) المسقطية حيث التقينا للمرة الاولى على سواحل بحر العرب بسلطنة عمان.وكان لقاء عكس لي روحية رهيفة لم تتوقف يوما عن التفكير بالبلاد التي نشأت على تربتها.
وكان حوارا دافئا تناولنا فيه شتى شجون الكلمة والألفة والاغتراب. ومع مقدم المربد الأخير حصل اللقاء الثاني الذي كان قصيرا بحكم زحمة الانشغالات ولكنه، أي اللقاء، نجم عنه الحوار الثقافي الخاطف التالي الذي تحدث فيه ابو (دجلة) عن تجربته الشعرية والحياتية وذلك في صالة استقبال الشيراتون ببصرة المربد..كان لقاء غير شاف ٍ.. لكنه في كل الأحوال كان أفضل من عدمه!
وفيما يلي نص الحوار:
رغم خوضك أكثر من تجربة حياتية في أكثر من بقعة من بقاع العالم، ما زالت (نوستالجيا) المكان الأول تمسك بروحك، ھل من تفسير؟
حين يغادر الإنسان المكان الأول، فھو يغادره جسديا، أما الروح فإنھا تظل ھائمة، في المكان الذي تشكّلت به الذات، والحنين للمكان الأول لا يعني أنه الأفضل والأجمل، وقد عبر الجواھري عن ھذا المعنى بقوله:
وما ليلي ھنا أرق لديغ ولا ليلي ھناك بسحر راقي
ولكن تربة تجفو وتحلو كما حلت المعاطـن للنيـاق
ورغم أن الحنين يعطّل قوى المغترب، ويشلّه نفسيا، يقول ادغار آلان بو: “كل أنواع المعاناة تنبع من الحنين”، لكنه يعطيه قوة دافعة للإبداع، ومن ھنا، فالحنين مصدر من مصادري الشعرية التي أحافظ عليھا، وأحرص على ديمومتھا.
أي التجارب العالمية في الشعر جذبت اھتمامك؟
في بداياتي، وقد نشأت في بيئة، ومرحلة شھدت انفتاحا على الآداب العالمية أعجبت كثيرا بشعر بابلو نيرودا، ولوركا الذي أحببت مسرحياته كثيرا، كذلك قرأت بشغف شعر مايكوفسكي، ويسينين،وريتسوس، واليوت، وسان جان بيرس، وبالقدر الذي غذّت تلك التجارب مخيّلتي، وفتحت لي آفاق التعبير، أضرّتني من ناحية صياغة الجملة الشعرية، كون تلك التجارب اطلعت عليھا من خلال الترجمة، وبعضھا كان ركيكا، كما اتضح لي لاحقا، لذا تداركت نفسي، وقرأت المتنبي، والبحتري، وأبا تمام، والجواھري، وأبا نواس، وحفظت الكثير من شعرھم الذي أضاف لذخيرتي اللغوية الكثير، لذا فقراءة الشعر المترجم ينبغي أن تكون بعد أن يطلع الشاعر الشاب على تراثنا الشعري، ليتمكن من الصياغات والأساليب اللغوية الراقية.
بعد صدور الطبعة الثانية من مجلدات أعمالك الشعرية الثلاثة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت بالتعاون مع دار “سطور” ببغداد، في أي المجموعات الشعرية تجد نفسك؟
لا أراني أجافي الحقيقة، لو قلت: أجد نفسي في كلّ حرف نزفته، وكل كلمة حفرتھا، وكل سطر رسمته، فكل ما كتبت في أوراقي الشعرية، والمسرحية جاء تعبيرا عن تجربة حياتية عشتھا، لذا جاءت كلماتي معجونة بدمي، وشظايا روحي، فھي صدى لأحزاني الشخصية، وتدوين شعري لمعاناة جيلي، الذي طحنته الحروب، وأوجعته المنافي.
أما من الناحية الفنّيّة، فلكل تجربة طعمھا،ونكھتھا، وميزتھا، ولھذا لم أستبعد نصا من نصوصي القديمة، وأجزت لنفسي عفوية التجارب الأولى، وتلقائيتھا. تغيير بعض الألفاظ والجمل تبعا لتطوّر ذائقتي، ووعي الشعري، مع الحفاظ على
شعر الھايكو ياباني الإنبثاق، كيف ترى إلى التجارب المحلية التي سعت لتمثل التجربة؟
أيّ شكل شعري ھو وليدة بيئتھ، وظروفھ الموضوعية، وأيّة محاولة لنقله إلى ثقافة أخرى، تبقى تقليدا، ينتج كائنا ھجينا، ومشوّھا، وبلا طعم، ولا لون ولا رائحة، قيل أن أوّل من صنع الكرسي فنّان، أمّا من تلاه فھم نجّارون، لذا، فالتجارب التي حاولت نقل شعر الھايكو الياباني ظلت محكومة بالتقليد، وجاءت نظما باردا مع تقديري لجھود أصحابھا، وھناك استثناءات قليلة أشرت إليھا، في قراءة سابقة، لتجربة الشاعر عذاب الركابي، وثمّنت الجھد المبذول، لكن الكثير من التجارب التي كتبت الھايكو العربي، إن صحّت التسمية، لم تخرج إلى فضاءات إبداعية عالية، والبعض منھا جاءت على شكل قصائد قصيرة لا علاقة لھا بالھايكو الياباني الذي له تقاليده، وموضوعاته، واشتراطاته الفنية، لكنّھا ادّعت أنھا ترتدي عباءة الھايكو للفت الانتباه، لا أكثر.
المربد، في رأيك أو بالأحرى تجربة المرابد السابقة، مالھا وما عليھا؟
ـيبقى (المربد) تاريخا، وذاكرة ثقافية عربية وعراقية، فقد ارتبط بمكان، وزمان، وأسماء لامعة في تراثنا وحاضرنا، ولكنه في الدورات الأخيرة واجه الكثير من التحديات، في مرحلة شھدت رحيل نجوم الشعر العربي، وتراجع دور الشعر في الحياة، وتوقّف الكثير من المھرجانات، إلى جانب الصعوبات المالية، وتردي الأوضاع الأمنية، لسنوات، جعلت الكثير من المدعوين يعتذرون، لكنه صمد، وواصل انعقاده، رغم كل الظروف المحيطة، وھذه نقطة تحسب له، وللجھة المنظمة الاتحاد العام للأدباء والكتّاب فرع البصرة، لكننا نتمنى في الدورات القادمة اختيار الأسماء العربية المشاركة بدقّة أكبر، لتضيف للمھرجان لا لتسحب من رصيده.
يشكو شعرنا المحلي وحتى العربي من محدودية الوصول والانتشار، ھل من تفسيرات وحلول؟
يبقى الكتاب العربي محكوما بظروف سوء توزيعھ، وھذا يحدّ من انتشاره بشكل أوسع، كذلك ساھم تراجع المجلات الثقافية، ومحدودية توزيعھا في اتساع الفجوة، لكن قنوات التواصل الاجتماعي تقوم اليوم بدور واسع لردم الفجوات التي تحّد من انتشار النتاج الإبداعي، وكذلك تقوم معارض الكتب بدور في إيصال صوت المبدع العربي لأبعد نقطة، لذا، فالحلّ بأيدي أصحاب دور النشر، فعليھم يقع العبء الأكبر، فھم رسل الثقافة، والمعرفة الإنسانية بين البلدان، كذلك لابدّ من تنظيم الحكومات العربية للأسابيع الثقافية التي تعرّف المثقفين العرب ببعضھم البعض.