اجلس وراجع دفتر الخيبات واسأل نفسك: ما الذي أخطأت فيه؟

د. أسماء السيد سامح| أكاديمية مصرية

لقد كنتَ أنتَ أكبر عدوٍّ لنفسك وليس الآخرين، عندما لم تقدّر ذاتك حقّ قدرها، ورضيت بالمتاح خوفًا من ألا يتكرّر، وعندما سمحتَ لمن لا يستحق أن يدخلَ حرمك، ويسكن قلبك، ويعيث فسادًا في أعزّ ما تملك، عندما عشتَ كفيفًا وأنت بصير، وأصمّ وأنت سميع، وحزينًا نافرًا موجوعًا مستلبًا على هامش الحياة، وأنت خليفةُ الله في أرضِه، فيما أكملوا هم طُرَقهم وأقدارهم، وَعَبروك بلا لحظة تردّد واحدة، كأن لم تُخلَق، أو تلتقي عيونكم ذات حبٍّ، واليوم أنتَ – اعترف – لا تدفع ثمن طيبة قلبك ولا حبّك ولا تضحيتك ولا إيثارك، إنما ثمن غبائك.
عندما تجلس لتراجع دفتر الخيبات، وتقلّب أوراق الهزيمة، وتحاول تحديد مساحة الجرح التي تزيد باطّراد، ووضع رُقعة جديدة على ثقوب الروح التي تتكاثر ذاتيًا، وتتساءل: هل أحبوّنا من قلوبهم حقًا؟ تكتشف كمَّ المغالطات المُرعب الذي بلعتَه سعيدًا، والمواقفَ والعباراتِ والأحوال التي كان ينبغي لك الوقوف عندها، ولم تفعل، والأوهام التي كنتَ تنسجها وتعيش في ظلّها، دون حساب أو مراجعة، والنُذر والعلامات والإشارات التي لم يكفّ الكونُ كلّه يومًا عن إرسالها لك، ولم تكفَّ يومًا عن تجاهلها! إننا وحيدون حدّ الذبح، حدّ الفجيعة، حتى ونحن وسط عشرات البشر، ونحن في قلب البهجة، ونحن في أشد لحظاتنا تحققا وانتصارًا! لقد اخترعنا المئات من وسائل التواصل الاجتماعي، وصنعنا طبقاتٍ من الحياة الافتراضية، وأصبح بإمكاننا أن نوجد في أكثر من مكان، في الوقت نفسه، ونسمع أدق، ونرى أوضح، ونتحرك أسرع، اصطنعنا الأصدقاء والأقرباء والتلاميذ والمُريدين، لكننا ازددنا وحدة ووحشة وتقوقعًا، وتراجعنا أكثر داخل أنفسنا، حتى اصطدمنا بالجدار!
إننا بارعون في خداع أنفسنا، وصنع عوالم كاملة من الأوهام والصور غير الحقيقية، أساتذة في التقمّص والتلهّي واصطناع الحالات والمشاعر، والدخول من الأبواب الضيقة والشوارع الخلفية، فنّانون في عدم الاعتراف بالواقع، والإصرار على حبس أنفسنا في فكرة، أو لحظة، أو حالة، لا عن كراهية لذواتنا، أو رغبة في التنكيل بها، لكن طمعًا في تحقق ما نحتاج إليه بشدة، وخوفًا من تغيير أوضاع اعتدنا عليها، وفزعًا من الخروج من المألوف لعشوائية الاحتمالات، ورعبًا من أكبر شبح يخيفنا جميعًا بلا استثناء، ونهرب من الاعتراف به طول الوقت: الوحدة!
وعندما نعثر على من يُبدّد هذه الوحدة، ويُثنينا عن التحديق في عينيها فترة، وينزع رأسنا من على وسادتها، يكون ذلك موقوتًا – للأسف – بقدرتنا على إثارة اهتمامه، وتلبية احتياجاته، ومنحه ما جاء إلى أرضنا من أجله فقط، وبمجرّد أن ينتهي، أو يخفت، أو يتبدّل.. ينهار كل شيء.
ويأتي المشهد الأخير عادة بصور مختلفة، بعد تفجّر لحظة التنوير في وجوهنا، وإنزال الستار، واختفاء الممثلين من خشبة حياتنا: بعضنا يظلّ يتحدث طول الوقت، دون أي سبب ولا داع ولا مبرر، كي لا يتوافر لديه وقت ليسألَ نفسَه هل هو وحيد أم “وَنْسَان”!
بعضنا يكتب بلا توقف، ويُبدي رأيه بلا انقطاع، حتى فيما لا يفهمه، لأنه يخشى لحظة يكفّ فيها عن الفعل، فينكشَف!
بعضنا يتقوقع داخل ذاته كل يوم أكثر، ويغوص في اللحم والعظم، حتى تنغلق روحه على روحه، ويغيب صوته في صوته، ، ويتحول ببطء إلى دولاب، أو شمّاعة ملابس، أو ولاعة لا نار فيها!
وبعضنا ينغرز في الشغل حتى عنقه، ويكلّف نفسه ما لا طاقة لها به، حتى لا ينظر لنفسه في المرآة، ويسألها بحرقة السؤال الفاجع، الذي غالبًا ما يكون الأخير قبل الارتطام بالأرض: ما الذي أخطأت فيه؟
والحقيقة أن من أحبّونا، ثم سلّوا ثيابهم من ثيابنا ورحلوا، أحبّونا على حَرْف، بشروط، وفق ضوابط معينة، ولأَجَلٍ مُسمّى، حتى إن لم نصارح أنفسنا بذلك، ولم يصارحونا هم أيضًا، أو فعلنا بصوت خفيض، كي لا نسمع أنفسنا، فلم ندرك قواعد اللعبة منذ البداية، ولم تسعفنا خبرتنا السابقة بالخذلان وعندما وصلنا منتصف الطريق -حيث تتخلّق الحقائق على وهج الواقع لا الرغبات والاحتياجات- وبدأتْ عيوننا تلمع فرحة وعدم تصديق، أننا قد اجتزنا كل هذه المسافة، واكتشفنا أخيرًا كنز الرحلة، كانوا قد فرغوا منّا تمامًا، وقضوا وَطَرَهم، ولم يبق إلا إعلان وصولهم خط النهاية.. نهايتنا!
إنها دائرة مُفزعة، ومفرَغة، ولا سبيل إلى الخروج منها، إلا إذا أقنعنا أنفسنا أننا غالون فعلا، ونستحق مَن هو أفضل، أننا مركز العالم حقًا، وأن الآخرين –أيًا كانوا- مُريدون فحسب، زوّار، كائنات فضائية تستكشف كوكبًا جديدا للزيارة لا المكوث، يطوفون حولنا بقَدَرٍ، ويقصدوننا لوقتٍ معلوم، وتتماس دوائرهم مع دوائرنا لغاية مُحدّدة، حتى إذا حان حينُهم، نَأوا وفارقوا وبانوا وذابوا في الفيض الأعظم، فلا يبقى لنا في الحساب الختامي، إلا أنفسنا، وفرادتنا بالوحدة، وأُنسنا بالوحشة، وما اقتنصاه عفوًا من نِتف السعادة ولذع التجربة ووهج المحاولة، بلا فرح غامر ولا حزن قاصم للظهر، بلا توقّع هادر ، بلا عشم جارح ولا أمل متوهج.
وسفينتك لبلوغ ذلك أن تسامح مَن طعنك، وأسالَ دمك، وفتّت عظامك، وأزهق روحك، لأنك إن فعلتَ، قطعتَ عنه آخر أنبوب أوكسجين يتشبث به، وآخر شربة ماء يتزوّد بها، وآخر خيط عنكبوت يتمسّك به للبقاء لم يعد له مِن سلطانٍ عليك، حتى يغادرَ جسدك رويدًا، كَسُمٍّ انتهتْ مدّةُ إقامته في دمك، ورصاصة أخرجها جراح ماهر من حبّة قلبك، فيما لو بقيتَ تكرهه، ستظل تحدّق في عينيه ليل نهار، وتتذكر خذلانه كل ثانية، فتغوص سكينه في جرحك أكثر، ويُمزّق مزيدًا من إرادتك، وينسف جميع محاولاتك للقيامة من الموت، فلا تنسى ما فعل، ولا تتجاوزه ما حييت، قبل أن تصبح أسيره للأبد!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى