حكايا من القرايا.. ” عاش الرمّونيّان “
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
جميل إسماعيل ثبتة، وفوزية صالح زيدان، زوجان من رمّون في محافظة رام الله… كحمامتين في عشهما… يبرجمان معاً، ويتعهدان زغاليلهما معاً، ويغنيان موالاً واحداً… تنتظره حتى يعود من الأرض، تجهز له الماء الساخن والطعام الذي يحب… يشكرها وهي تمدّ اللقمة إلى فمه… وفي أيام كثيرة، تلحقه بالفأس، وقنينة الماء والزوّادة في (سفرطاس) يحوي ما لذ وطاب… يأكلان في الأرض ما قسم الله، ثم يجمع الحطب ويشعله كي يغلي ماءً، ويجهز الشاي… بينما الحجة فوزية تتسلى بالنكش على هذه الشجرة، وقلع تلك العشبة…
كبر الأولاد وسافروا كل إلى مكان رزقه… وتزوجت البنات… ولم يبق في العش إلا الحج والحجة… العش طيّر يا حجة كان يمازحها، فترد: الله يوفقهم يا رب، ويسهل أمورهم… ويحنّن عليهم… ويبعدهم عن اولاد الحرام… يصرخ من قحف رأسه: يا رب، ثم يحثّ حماره على المشي باستقامة في التلم… ويرمي ما بقي من بذور، كي يدفنها وهو يحرث…
عاشا في حياة هناءة أربعة وستين عاماً… حياة لا يكدرها شائبة… صاغها الزوجان الحجّان معاً… عاشا على الحلوة والمرّة، حتى أصبحا مضرب المثل في حديث الناس… قبل شهر زارهما ضيف ثقيل الدم… قبل شهر أصابت الكورونا اللعينة الحج جميل، وأقعدته الفراش، يشعر بصداع، وحمّى، وضعف بالتنفس… حاولت الزوجة التخفيف عنه، وتمريضه، فنقعت الأعشاب، وغلتها، وبخّرته… وحدثته عن حكايات مرّا بها علّها تخفف عنه… وشاورته في طبخات يحبها علّها تطبخ له… لكن الرجل فقد شهيته للأكل…
بعد مرض الحج بأيام قليلة…مرضت الحجة… وبدأت تتألم كالحج ويزيد… أخذوا الحج إلى المستشفى، وسرعان ما أدخلوه العناية المكثفة لحالته الخطرة… بعد يومين من سكن الحج في العناية المكثفة… كانت الحجة في العناية المكثفة… سبحان الله… والله لولا أن هذا حدث لما صدق الناس… وكأن العش انتقل من البيت الفسيح، إلى ضيق غرفة العناية المكثفة… وتحول الكلام إلى أنين، وألم، وإبر، وعلاجات، وأجهزة تقيس الضغط والنفس… وقال شهود: عندما كان جهاز أحد الحجّيْن يقيس ضغطاً عالياً، أو نفساً ضيقاً، أو نقصاً في الأوكسجين… كان الجهاز الثاني يفعل فعل الأول… ويأتي بمثل أرقامه…
حياة واحدة، وكدّ واحد، وحكايات واحدة، وضحكة واحدة، ترويدة واحدة، وأغنية واحدة… وعش واحد… وضيف واحد… وألم واحد، وكورونا واحدة، وتحول العش من البيت السعيد إلى غرفة عناية تكبر بحجم الألم… وتظلم بفقدان الأمل… وازدادت شراسة المرض…
يا حرام… يوم الخميس الفائت مات الحج جميل إسماعيل ثبتة…
بعده بدقائق ماتت الحجة فوزية صالح زيدان… انتشر الخبر في رمّون والمنطقة، فعمّ الحزن الفضاء، ولكن القضاء شاء، أن يكتب الرمّونيّان حكاية وفاء صادقة حلوة في الدنيا… رحمهما الله، وفي الآخرة حكايتهما عند الله…
دفنا يوم الجمعة في قبر واحد… بينهما فاصل… اللهم ارحمهما وأسكنهما فسيح جنانك… يا رب العالمين… مات الحجّان بعد أن كتبا أجمل حكاية… تصلح سيمفونية جمال للأجيال…