إظهار المطمور والمخبوء في ثقافة الأمكنة.. مرائي الصحراء المسفوحة لـ ” حامد فاضل “
ستار زكم | أديب وناقد عراقي
حفريات النص الإبداعي في وعاء الصحراء المهمل
يعد المكان للقاص والروائي المتميز حامد فاضل المبعث الأول في كتاباته السردية بعد ان قام بتوظيف هذا النوع من الاشتغال توظيفا ابداعيا قمة في التشويق والاثارة من خلال استنطاق الأمكنة التأريخية ومايجاورها من احداث معينة لتتحول الى مادة ووثيقة أدبية قابلة للبحث والافادة. حيث يصور لنا الكاتب في كتابه الموسوم (ثقافة الامكنة – مرائي الصحراء المسفوحة) تصويرا دقيقا عبر أستخراج الحدث من محتواه المطمور الذي تراكمت عليه السنين وتقديمه عبر نص أبداعي حكواتي يتداخل مع سرود تنحى منحا جغرافيا وبيئيا. وهذا التشاكل ربما أنفرد به الكاتب حامد فاضل بطريقة متميزة ومختلفة ففي هذا المنجر يتناول الكاتب عشرة مرائي اي عشرة فصول في كل فصل يتخذ مكانا قصيا يظهر مايتميز به المكان من مطمورات تأريخية قد تكون منسية من البعض لكنه يستخرج هذه المخبوءات بطريقة متشاكلة إن صح التعبير.
فالنص الإبداعي هنا يمد أذرعه إلى جوانب عديدة مجاورة للمكان والحدث فالتوصيفات الدقيقة لبعض الأشياء العالقة تكون حاضرة بقوة داخل حفريات النص فالكاتب هنا يحرص على تداخل عناصر الطبيعة بكل ماتحتويها من حياة نابضة مع المكان والحدث تحت ظل روافد وأشياء كانت ولازالت حاضرة في تشكل الحياة (بدءا من حياة البراري وما يحيط بها وصولا الى الحروب والغزوات ومايتشاكل معها) فالشواخص التأريخية هنا لاتنفصل تماما عن المجاور لها الذي يعتبر مادة دسمة للكاتب تزيد من صفة التشويق والاثارة . فالنص الإبداعي هنا ليس نصا مكانيا واحدا فالأصح ان نقول عنه نصا ثقافيا متعدد الأمكنة على مستوى (النص الواحد ) بدءا من (آخر المستحمات حمام زبيدة وصولا الى ساعة الله مواقيت الصحراء .
لذلك اقول ان الكاتب حامد فاضل يريد ان يقدم لنا من خلال هذه المكانات (معاينات في المنسي واللامفكر فيه) حيث إبراز المنزوي والبعيد في العمق الصحراوي من شواهد تأريخية وقلاع وحضارات متعددة ومتداخلة تقريبا وإظهارها الى السطح من خلال طريقة تكاد تكون متفردة ف بالإضافة الى إستخدامه لغة محبوكة ومعبرة في النص أستخدم الكاتب مع بعض نصوصه سردا تأريخيا عن كل مكان قد تناوله من خلال تبيان البعد الجغرافي والبيئي للمكان ما أعطى هذا التوظيف بعدا مختلفا ومغايرا للنص.
فالربط التأريخي هو مرتكز مهم اشتغل عليه الكاتب ليس لأنه أعطى النص الإبداعي دفقا أوسع وإنما يأخذنا الكاتب من خلاله نحو عمق تأريخي مدفون بعيدا عن مشارف المدن وتلصص الدارسين . فالصحراء من منظور حامد فاضل حيز ابداعي وتأريخي في آن واحد لن ينفصلا أبدا. وهذا يعود الى الإختيار الدقيق للمكان الذي شكل نقطة الانطلاق في كتاب (ثقافة الأمكنة) حيث صحراء (السماوة) حاضنة التأريخ ومعبر الترحال وميدان الغزوات وبراري الصيد والمعارك. فمن هنا يستقي حامد فاضل مداده في هذا المنجز الإبداعي.
واكثر ما استوقفني في هذا المنجز هو الكتابة الوصفية للعديد من العناصر والأشياء التي تداخلت مع نصوصه مثل (احداث الصيد/ الطيور / السهول/ التلال / المراعي/ طريق الحجيج (طريق زبيدة)/ خصومات قبلية/ الحيوانات/ الاسلحة/ الكهوف والجحور/ طريقة الإفتراس/ الماء / العطش/ الغبش/ الغسق/ الرمل/ الحصى/ طريقة عيش الحيوانات في البراري/ خبث الصحراء/ حوار فنطازي حول حديث الحيوانات) كل ماتم ذكره يقدمه الكاتب في وصف غير تقليدي . فعادة ما يكون الوصف متداخلا مع الحدث طيلة سرد النص مثال ذلك (ص 231 الجذعاء عاصمة الضب) .
أقول مايميز هذا النمط الأدبي عن قرآئن اخرى هو ان يجعل الكاتب من الصحراء ثيمة اساسية في الاشتغال السردي فالكاتب لم يذهب الى ملموسات او شواخص معينة في المدن كي يستعين من دلالاتها الفنية او المعمارية مثلا . لكنه لجأ الى عمق الصحراء البعيد وعندما يغور في هذا العراء المترامي يحتاج الى كشوفات اكثر عمقا ودلالة واستبصار كون مايبحث عنه الكاتب هو فعليا في عمق المكان والزمان بعيد كل البعد عن اعيننا . لذلك اعتقد ان ماقدمه الكاتب في مدونته هذه هو متأتي من مستويات عديدة منها.
أولا/ التوصيفات الدقيقة لبعض الأشياء التي دونها الكاتب أتت من خلال درايته بمسالك وخبايا الصحراء المتشعبة ومعرفته ببعض حيواتها المختلفة.
ثانيا/ الأحداث المدونة تستند الى ثقافة الكاتب ومرجعيات تأريخية مهمة.
ثالثا/ تداخل حسي + معرفي + ابداعي.
لذلك أعتبر ان شخصية الكاتب كانت طاغية على هذا النمط من الاشتغال الإبداعي لا لكون الاشتغال مختلف ومغاير فحسب وإنما طبيعة شخصية الكاتب الذي يمتاز بهدوء يشبه هدوء الصحراء ونظرات تنسرح بعيدا في الأفق فعندما تجالسه تشعر بخزائن ابداعية في عمق الكاتب.
لذلك …. إن تناول هذه الأشكال المكانية وإسقاطها في نصوص ثقافية تعد غاية في الصعوبة لكثرة تشظي النص الإبداعي في عدة إتجاهات فالناظر الى الصحراء لايجد إلا لفحات الشمس وسراب يخدع الحقيقة. أما حامد فاضل فله عين اخرى استطاع من خلالها ان يلمس الأشياء بطريقة سحرية ويتفاعل معها تفاعلا ابداعيا خاصا أتقنه بحبكة فائقة.
فأنت تشعر عند قراءة نصوصه السردية بكم هائل من المعلومات والأرقام والتواريخ والأسماء (العامية) وكل التوصيفات والعينات التي ذكرها في كتابه تشعرك بمنقب يعمل داخل أمكنة صحراوية متعددة فهذا الجهد الكبير كان كفيلا بأن يقدم لنا حامد فاضل كتابا قصصيا كبيرا على مستوى السردية العراقية. فتارة يستنطق حامد فاضل الحجر المغمور بين طيات الأتربة وتارة اخرى يوصف لنا الجمال والغنج الذي مر قرب هذ الحجر عبر ترحال طويل. فهذا التداخل الواسع في اكثر من نص سردي أراد منه الكاتب يقدم لنا صورة عن تعددية الأمكنة الثقافية في صحراء غلب على بعض جوانبها (ديالكتيك) الزمن.