الاقتراض الشعري في قصيدة ” النفير “، لبدر الدريع
سعيد أحنصال | الوطن العربي – المغرب
لم يعد الشاعر البديع بدر فاضلالدريع في حاجة للتعريف به، فالقارئ العربي المتذوق للشعر الأصيل متتبع لأخباره مواكب لأشعاره، مذ شرع في النظم قبل نحو عقد من الزمن وقد بلغت قصائده حوالي السبعة عشرة، مكرسا مدائحه لآل البيت الطاهرين، على غرار الكميت الأزدي ودعبل الخزاعي في العصر العباسي، مقتفيا آثارهما ومستلهما أفكارهما، في المنافحة عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- ضد جاحديه، وإقرار حق آل بيته في الخلافة، ضد من ناصبهم العداء، ومن أجل تحكيم شرع الله لتنظيم أمور الدنيا، في وجه رافضيه. ومزية بدر أن لغته الشعرية بعيدة الغور، ذات نفس بدويوألفاظ جزلة، رفيعة، عالية تجعلك تسافر عبر الزمن نحو عصور الازدهار، ولا سيما العصر الجاهلي، حيث فحول الشعراء والسبع الطوال المعلقات.ولعل اعتماده هذا “النمط الصعب” من الكتابة، الذي لا يستسيغه الجمهور بفعل سياسات وسنوات من إفساد ذائقته الفنية، فضلا عن انحدار شاعرنا من بيئة شيعية، وطرقه لمواضيع وأقاويل غير “خطابية”وغير “جمهورية”،هو ما جعل مساحة شهرته تضيق رقعتهافي العالم الإسلامي والوطن العربي، لا سيما واستشراء التعصب المذهبي، والتزمت الديني، مع غياب معايير النقد العلمي والفني للشعر بلحاظ كونه شعرا ومستوى متميزا من الكلام، سمته البارزة الشكل والبناء، لا المضمون والمحتوى، كيف تقول؟ لا ماذا تقول؟ يجب أن ينصب فيه النقد على جوانب اللغة والإيقاع والصورة، متسلحا بترسانة من علوم الآلة كالبلاغة والعروض والمنطق وعمود الشعر، لا بعلوم الغاية من العقيدة والفقه والأخلاق! ومتى لم يدرك الناقد والقارئ معا، هذا الفرق الجوهري، أخطآ في تفسير الظاهرة الأدبية عامة، وأغفلا تأويل معاني النظم، والإمساك بخصائصه. فوجب التريثوالحذر.
من المعلوم، أن بدرا الدريع، شاعر مثقل مقل، فبرغم طول مدة تجربته الشعرية، الذي يبدأ منذ 2010 تقريبا، إلا أن عدد قصائده لا يتجاوز 17، تتراوح بين الرثاء والغزل والفخر كلها من المطوّلات ولم تجمع في ديوان بعد، بل ما تزال مترامية الأطراف في مواقع متفرقة:”ما انفكت الناس في أديانها قددا” (66 بيتا) “هوينك بالغيور من الرجال” (54 بيتا) “فؤادك أولى بالعتاب” (92 بيتا) “سطا حُسناً” (124) “تأبط شرا” (63) “بأيكما أبكي” (83) “أذن بمن في السرى” (26) “خليلي” (70) “حتام يا قلب” (84) “أحاديث وجدي” (73) “أرسم مغناك أم الأضلع” (56) “ملامح بعد البين أنكرها الصحب” (56) “سل المرء” (44) “كقدرك رزء الناس فيك جليل”: في رثاء أبي خليل (38) “نفيرا إن رأيت الدهر جارا” (54) “أما الطلول”: في تأبين شهداء جامع الإمام الصادق (58) “هواك مكين ما لسلطانه قهر” (29)… ويرجع ذلك إلى أسباب منها ما هو فني وما هو شخصي؛ فالفني نابع من إحساسه بحجم المسؤولية التي يحملها على عاتقه؛ إذ الشعر بالنسبة إليه ليس مجرد لهو وتزجية للوقت، بل قضية مصيرية تتعلق بوجدان أمة بكاملها؛ بلغتها وثقافتها ونمط عيشها… يتطلب شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والمقاربة في التشبيه. إنه محاولة للنهوض بالشعر نفسه، ومن ثمة وبالتبع بلغته وأهلها، وليس أرضا لا مالك لها، وساحة للتجريب، لا تخضع لقواعد في التفكير والتعبير. والشخصي، مرده لطبيعته وتكوينه، فالرجل لا يحب الأضواء وكثرة مؤالفة البشر، وهو قليل الظهور إعلاميا، دل على ذلك أنك لن تجد له مقابلة إعلامية مكتوبة أو مسموعة أو مرئية على محرك البحث “غوغل”، بما فيه نبذة مختصرة عن حياته، وكذلك حضوره في مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” يظل ضئيلا، ولا أظن ناقدا تناول نتاجه الفني، ولا صحفيا كتب عن سيرته الفنية ومسيرته الإبداعية. ولولا جهود الناقد العربي محمد رشيد أبي قيس الطائي، في التعريف به، وإذاعة أشعاره، وشرحها ونقدها والموازنة بينه وبين شعراء آخرين، لظل الشاعر الكبير مغمورا، أقله في الوسط السني (إن جاز الحديث بهذه اللغة، في هذا المجال). وهذه الأسباب مجتمعة، تتحمل مسؤوليتها، في التحليل الأخير، المؤسسة الثقافية الرسمية التي نعتها د. فيصل دراج سابقا بـ”البؤس”، فتحكمها في الإعلام والمجلات الأدبية والجرائد الثقافية والمسابقات الشعرية، يجعلها تمارس الاستنسابية في انتقاء الأعمال والتحكيم بينها ومن ثمة الحكم على الشعر العربي الأصيل بالإعدام، لا لشيء سوى باعتبار تمسكه بعمود الشعر كما استقر عند المرزوقي في مقدمته لديوان الحماسة لأبي تمام، الذي يسمونه خطأ “الشعر العمودي”، إذ مصلحتها -هذه المؤسسة البئيسة- في إبراز وإخراج نمط معين من “الشعر” هو الذي يصطلح عليه بـ”الشعر الحر” فقط لا غير.
ضمن هذا السياق، تندرج قصيدة بدر الأخيرة من بحر الوافر “نفيرا إن رأيت الدهر جارا” (للصامدين في حي الشيخ جراح.. للقدس.. لفلسطين):
نفيرا، إن رأيت الدهر جارا
وجهلا، إن وجدت الحلم عارا
مفاعلْــتن مفاعــلْتن فـعولن
مفاعلْــتن مفاعــلْتن فـعولن
وهو من البحور المركبة التي تتآلف فيها تفعيلتان، بعروض صحيحة، لها ضرب مثلها صحيح، مع تسكين الحرف الخامس المتحرك في تفعيلة “مفاعلْتن”، الذي يصطلح عليه بزحاف العَصْب.وقد جاءت القصيدة مستوفية لكل شروط الشكل الموسيقي عند القدماء، من وحدة القافية (مطلقة متواترة: عارا /0/0)، ووحدة الروي (الراء الممدوءة بالألف)، فضلا عن الاستهلال بظاهرة التصريع (جارا / عارا).وإذا جاز أن نأخذ برأي من يقول أن لكل بحر أغراضا تناسبه، بصرف النظر عن مدى دقة هذا الافتراض وحاجته لدراسة استقصائية استقرائية مستقلة، فإن أصحابه جعلوا الوافر -الذي عدوه من البحور الطوال- ذا نغمة قوية تناسب الأداء العاطفي سواء أكان ذلك في الغضب الثائر والحماسة أم في الرقة الغزلية والحنين. وبقراءة في مضامين القصيدة سيتأكد لنا صدق هذا الحكم، فبدر الدريع جمع بينهما معا في هذا الموضع.
يمكن تقسيم القصيدة من ناحية إجرائية إلى خمسة مقاطع دلالية؛ الوحدة الأولى، من مطلع القصيدة إلى البيت 15: يستهل الشاعر بظاهرة التجريد، أي أنه جرد من نفسه شخصا آخر وراح يتوجه له بالخطاب، فحواه حث النفس على استكمال فضائلها بما فخرت به العرب ماضيا، من الشجاعة والكرم والغزل والوقوف على الطلل، تأكيدا ضمنيا منه أن طباع الإنسان العربي الأصيل لا تتغير بتغير الأزمان، ولا تتأثر بموجات التغريب والتخريب التي تمارس على الوطن العربي والعالم الإسلامي باسم الحداثة والاستنارة.الوحدة الثانية، من البيت 16 إلى البيت 24: ينتقل الشاعر من مخاطبة النفس، إلى وصف حال العرب قديما في نوع من الحنين والتذكر، مفتخرا بهم أجدادا وأسلافا، لم تمح الأيام والسنون أمجادهم ومآثرهم التي شادوها عزا ومكرمة. الوحدة الثالثة، من البيت 25 إلى البيت 34: هنا يصل الشاعر إلى بيت القصيد الذي من أجله كان هذا القريض؛ ألى وهو وصف الإنسان العربي في فلسطين الذي يحاول جهدا وصل ما انقطع بين زمانين عربيين مختلفين: الزمن الماضي بمعانيه الإيجابية، والزمن الحاضر الذي قوامه الهزيمة والاستسلام، متحديا التخاذل الرسمي السائد، ومسائلا إياه أمام محكمة التاريخ.الوحدة الرابعة، من البيت 35 إلى آخر القصيدة: يختم الشاعر بهجاء للعدو الصهيوني وإخفاقه في الحرب وحتمية هزيمته وزواله، مقابل امتداح خيار المقاومة وأفعالها الأسطورية وما تسطره من بطولات معجزة في ساحات الوغى وعند كل جولة…
لسنا هنا بصدد “حل المعقود” واستفراغ كل معاني القصيدة، رغم أحقيتها بذلك وجدارتها بتحليل أعمق، ولكن حسبنا الإشارة لمعانيها العامة، بقصد البناء عليها فيما نعزم القيام به، ولكن وقبل الإقدام عليه، لا بد من التنبيه أن تقسيمنا القصيدة إلى مقاطع ووحدات دلالية، ليس معناه افتقار القصيدة للوحدة العضوية والموضوعية، وإنما هو محض تقسيم إجرائي لتسهيل عملية دراستها، فالشاعر في انتقاله من معنى جزئي لمعنى جزئي آخر، ظل مخلصا للمعنى العام، بل وأحسن التخلص في هذا الانتقال، فنجح في جعل قصيدته وحدة دلالية متماسكة المعنى، متناسقة المبنى.
إن قارئ القصيدة -متى كان قارئا جيدا للشعر العربي الأصيل-، وبمجرد أن يشرع في أبياتها الأولى، ستتداعى إلى نفسه معان، وتتبادر إلى ذهنه أبيات سبق وطالعها في تراثنا القديم، حتى ليكاد يجزم أنها هي هي لفظا ومعنى، ولن يتورع في الظن أن بدرا لا محالة استحضرها أمامه وهو يصوغ قصيدته، بيد أن بعض الظن إثم، والناقد إن لم يحسن القراءة والإراءة، وتعجل في الحكم، تعسف في فهم النص، وظلم كاتبه، واستحال حاقدا لا ناقدا. فواجبه الإنصاف بلا تفريط ولا إفراط، لا يراعي مصلحة، أو علاقة شخصية، وفي الوقت نفسه، لا تأخذه في الصدع بالحق لومة لائم، أو شعور نفسي بالكراهية. يقول بدر:
وقتلا، أو فعش رغم الأعادي
فتى حرا كما تهوى العذارى
أفلا يذكرنا هذا بثلة من المحفوظ الشعري، استقر في مخزون الذاكرة، عبر مسار طويل من التعامل مع النصوص الشعرية، فمنها قول أبي الطيب المتنبي:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم
بين لظا القنا وخفق البنود
ومثله قوله أيضا في موضع آخر:
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العار أن تموت جبانا
كذلك قال جميل صدقي الزهاوي، أحد رواد حركة البعث والإحياء بالعراق خلال عصر النهضة العربية:
لموت الفتى خير له من معيشة
يكون بها عبئا ثقيلا على الناس
كما تناول المعنى ذاته، الشاعر عبدالرحيم محمود حوالي من فلسطين المحتلة:
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدى
فانظر كيف تلاقت هذه الأبيات المتباعدة عهدا وبلدا، في التعبير عن الشيء إياه، في توارد للخواطر بديع، فكل منها يجعل المخاطب بين خيارين إما العيش بكرامة، أو الموت بشرف. فالرحيل عن الدنيا حين تنعدم أسباب الحياة الشريفة فيها، ومعانقة الشهادة جهادا، يكون هو الحل الأنسب لمن كان عزيز النفس، حر الإرادة، قوي الشكيمة. إلا أن استعادة اللاحق للسابق، ليس من قبيل التكرار والاجترار المذموم، بقدر ما هو استيعاب وإعادة صياغة فتجاوز، ضمن حركة لولبية صاعدة، تأخذ المعنى -أو حتى اللفظ- فتعيد إنتاجه في سياق فني آخر، ودلالة معنوية مغايرة، تجرده رواسب الماضي وتكسبه حلة جديدة، بها قد يبز المولّد القديم، وترتفع عنقه فوق أعناق من سلف، حتى لينسب ذاك المعنى إليه، حين ذكره، ويخمل ذكر الآخرين. طالما أنه أحسن إخراجه بصيغة جميلة. وهذا ما صنع بدر الدريع مع من تقدم. فلننتقل إلى الآتي:
فإن رُمت الحياة بلا نزاع
فذاك العطر ولتضع الخمارا
لا منازع، أن الأذهان ستتجه رأسا وبلا تردد إلى هجاء جريرالمذقع للفرزدق:
خُذُوا كُحْلاً ومِجْمَرَةً وعِطْرًا
فلَستُم يا فرزدقُ بالرجالِ
لماذا؟ من جهتين: جهة اللفظ، وأعني تحديدا مفردة “العطر” التي وظفت في البيتين معا ضمن سياق السخرية والهجو والتشبيه بالنساء بهدف الإذلال والاحتقار، مع أن العطر في المعنى العام يضعه الرجال كما النساء بغاية التطيب، فليست له دلالة قدحية كالتي ورد بها في البيتين، وهذا ما يجعل نفس القارئ تذعن للمقارنة بينهما وتسلم باشتراكهما اللفظي والمعنوي. وأما من جهة المعنى فبدر هنا وكأنه استضمر حكما مفاده أن الحياة ممتنعة بغير قتال وصراع، وأن لا أحد يمكنه أن يعيش هانئا مرتاح البال فيها، إذا كان ضميره يقضا وحسه متقدا، يزعجه مرأى الفقر والظلم دون أن يحرك ساكنا، وبعد أن قرر هذا يتوجه لمخاطبه بالقول إنه توجد حالة واحدة يمكن فيها مخالفة القاعدة المتقررة، وهي أن يتخلى عن طبيعته، الفحولة والرجولة، وما يلزم منها من مبادئ ومهام وتحديات وشدائد، فيخنع ويركع، ويستسلم وينهزم، ثم يعتزل الصراع برمته وحينها سيصعب التفريق بينه وبين بيض الخذر وقاصرات الطرف من النساء. ويبدو هذا الطرح من باب المحال طبعا، فهو خيار ساقط بالنسبة للشاعر وكل من يمتلك ذرة من العروبة والكرامة. وهذا عين ما عيّر به جرير الفرزدق؛ فكأنه يقول له: لا داعي لأن تجهد ذاتك فيما لست أهلا له، وتتصنع فيما لا تثقنه، فالفروسية والقِرى والنسب لها أهلوها، فدعها لأصحابها وتخطاها لما لا تجيد سواه: مجالسة النساء والتحلي بطباعهن وسلوكهن. وهذا نقد للفرزدق وقومه من الرجال، ولا ينسحب بشيء على النساء أبدا. فالليونة والتزين والقعود عن القتال في النساء كمال، وفي الرجال نقصان، لا بل خصيان. والآن وقد استحضرت أمامك هذا الذي شرحناه، أفلا يذكرك -من جهة المعنى- ببيت الحطيئة الشهير الذي هجى فيه الزبرقان بن بدر؟
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فهو وإن كان ظاهره مدحا -كما دل عليه جواب عمر بن الخطاب على شكوى الزبرقان-، فإنه في باطنه هجاء مر؛ إذ من خوارم المروءة لدى العرب أن يقتصر دور الرجل في الأكل واللبس، لا يتعداه إلى ما سواه.
ثم انظر قدرة بدر الفائقة في استدعاء التراث العربي الجاهليمن زمنه الغابر، وبعثهفي واقعنا الحاضر والإفادة منه:
يروح ويغتدي من غير هدي
ويجلس حين يجلس مستطارا
فالشطر الأول مستجلب من قول طرفة بن العبد، يصف خفة ناقته وسرعتها:
وإني لأمضي الهم عند احتضاره
بهوجاء مرقال تروح وتغتدي
والشطر الثاني يتقاطع في تركيبته النحوية ونغمته الصوتية، مع قول عمرو بن كلثوم:
لنا الدنيا ومن أضحى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
واعجب إن شئت العجب، من موهبته الرهيبة في توليف بيت بكامله، في شطر واحد. ومن استطاعته دمج الإثنين في واحد، فما تفرق في بيتي طرفة وعمرو قد التأم في بيت بدر، وهكذا يكون الأخذ في حقيقته البلاغية؛ إنه ليس إغارة على المعنى، ولا نسخا أو مسخا للفظ، وإنما هضم للقديم وتخطيه نحو الإتيان بجديد، يجعل القارئ يحس بالغرابة تجاه ما كان مألوفا لديه، فيضطر لإعادة قراءته مجددا في ضوء ما استجد أمامه. وهذا أمر مشتهر لدى النقاد قدمائهم ومحدثيهم، عربا وعجما.
أما البيت الذي يليه، فهو أشهر من نار على علم، خاصة عند أهل الإحسان من الصوفية، وإن كان قد ورد في باب الغزل العذري العفيف. قال بدر:
صريع مدامع طورا، وطورا
يقبل ذا الجدار وذا الجدارا
فهذا إيحاء مباشر، صريح، إلى قيس بن الملوح لما عبر عن الصبابة وشدة الشوق، قائلا:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
إنها هجرة نصوص وتلاقح نصي من قبيل ما نص عليه النقاد القدامى بـ”الاجتلاب” وهو تعالق نصي مشروع، ولا يعتبر سرقة مذمومة بالإجماع، وأمثلته في الشعر العربي الأصيل كثيرة، حيث يعمد الشاعر إلى قصيدة شاعر آخر فيأخذ منه بيتا بكامله أو شطرا منه، فيوظفه في نصه كما هو ودون تعديل يذكر، وهو يعلم أن الأمر غير خاف على القارئ، وسيدركه للوهلة الأولى، وإنما يريد استثمار ثقافته المسبقة، ورصيده المعرفي القبلي، في بناء فهم عميق لقصيدته.
بعدها يقول بدر مفتخرا بقومه، ومبينا خصالهم في الحرب والسلم، بين قوة ضد العدو ولين في العشق:
شياطنا إذا نهضوا لحرب
وإن رقوا فمن عشق حيارى
وانظر إلى “نهضوا” كيف جاءت في قبالها “رقوا”، ومقابل “حرب””عشق”، و”شاطينا””حيارى”، فهذا التوازي بين بعض مفردات الصدر والعجز، القائمة على التضاد، بقدر ما تجعل حركة النفس تنتقل من النقيض إلى النقيض في رياضة عقلية ماتعة، فإنها أكسبت البيت رنة موسيقية هائلة لا يضاهيها جمالا إلى قول عنترة بن شداد:
أَبعَدَ اللَهُ عَن عَيني غَطارِفَةً
إِنساً إِذا نَزَلوا جِنّاً إِذا رَكِبوا
أليس هو عينه التوازي في العجز؛ إنسا – جنا، إذا – إذا، نزلوا – ركبوا؟ فيأتي بيت بدر بكامله مطابقا ومقابلا لهذا الشطر من قصيدة عنترة، مطابقة في المعنى ومقابلة في الصيغ اللفظية إلى حد ما. وهو عين ما نلفاه في بيت صفي الدين الحلي:
تَدَرّعوا العَقلَ جِلباباً، فإنْ حمِيتْ
نارُ الوَغَى خِلتَهُمْ فيها مَجانينا
هنا أيضا، تحضر المقابلة بشكل بارز؛ فالعقل مقترن بحالات السلم والحِلم، وما أن تفرض على الإنسان العربي ظروف غير إنسانية، فإنه يركب صهوة الجهل والبأس ولا يحسب للعواقب حسابا، وهذا المعنى كثير شائع في الشعر العربي، حتى صار إحدى الخصائص النفسية والسلوكية التي تمتاز بها أمة العرب، ويتباهى بها شعراؤها: ألا لا يجهلن أحد علينا، تخالنا جنا إذا ما نجهل، يفوق جاهلنا فعال الجهل… إلخ. فلا يمكن -والحالة هذه- أن نقول إن شاعرا تأثر بشاعر وأخذ عنه، بل هي معاني مشتركة وملكية جماعية مسجلة باسم الأمة العربية قاطبة، ومعين لا ينضب منه يرتوي كل الشعراء، ويبقى التفاضل بينهما فيمن يحسن الالتقاط والنظم، وفي ذلك يتنافس المتنافسون، ويبز المتأخرون الأولين.
إن ثمة ألفاظا وتراكيب، وإن عُدّت من كلام العرب، إلا أنها تظل مختصة بواحد منهم أو بأول مصدر وردت فيه، وكلما طرقت أسماع القارئ النموذجي طار خياله مباشرة إلى المصدر الأول. وذاك حال مفردات مثل “بيضة الخدر” و”قاصرات الطرف”، فلا نعرف أحدا قبل امرئ القيس قال بها، وكذلك “العهن المنفوش” و”الحوريات”، التي اختص بها القرآن الكريم دون غيره، بل حتى وإن كان اللفظ موجودا ومتداولا في نطاق ضيق، فإن بعض الشعراء لهم قدرة على إخراجه للتداول والاستعمال في نطاق أوسع، فيرتبط باسمهم. ومثله عندما نسمع بدر الدريع يقول:
مراقيلا تدك الأرض دكا
كأن لها من الحصباء ثارا
فإننا لا نستطيع منع أنفسنا من تذكر الأعشى ميمون بن قيس في البردة التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ومنها هذا البيت:
وأبتذل العيس المراقيل تغتذي
مسافة ما بين النجير فصرخدا
فالمشترك بينهما، أن كليهما استعمل اللفظ نفسه للإشارة للمعنى إياه: وهو سرعة المشي للنوق، والارتحال من مكان لآخر… قد يغلظ الشاعر الأيمان أنه لم يستحضر أمامه هذه الأبيات كلها أمامه حين نظم قصيدته، وقد ينكر معرفته بهذه القصيدة وحتى بصاحبها، وهذا كثيرا ما حصل، ولكنه في مجال النقد لا يعني شيئا، فوظيفة النقد التعامل مع النص بمعزل عن المؤثرات الخارجية، ولا سيما آراء المبدع في نفسه ونصه. ولاحظ قوله “تدك الأرض دكا”، وقارنه بقوله تعالى في الآية 21 من سورة الفجر: ((كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)).
ولا مفر أن نوضح فرقا بين ثلاثة مفاهيم نقدية تبدو محايثة، على ما بينها من حدود فاصلة، وهي التناص والاقتباس والتضمين، فالتناص مصطلح غربي حديث ارتبط بـ”ثورة النص” مع جوليا كريستيفا وآخرين، تندرج تحته كل أشكال التعالق النصي والاقتراض الشعري بين النصوص الأدبية التي تحدث عنها النقاد العرب القدامى، ويتخذ أشكالا مختلفة منها: التضمين، وهو أن يضمن الشِّعر شيئا من شعر سابقيه إما بوعي فني أو دون وعي أو على سبيل السرقة بألوانها. والاقتباس: وهو الإحالة إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. وهذا الصنف الأخير هو الذي نجده في بيت بدر موضوع كلامنا.
بفتيان مسومة أباة
إزاء الموت لا تضع اعتبارا
في البيت نسمع صدى صوت عمرو بن كلثوم يتردد:
بفتيان يرون القتل مجدا
وشيب في الحروب مجربينا
كلاهما تصوير للإنسان العربي، في مرحلة الفتوة، وما تعرفه من اندفاعة جارفة نحو الموت في سبيل القناعات والمبادئ، لا تأخذ بعين الاعتبار أية مخاوف وتداعيات، بل إن “التعقل” و”أصالة الرأي” هي الأقنعة التي من خلالها يتسرب الخوف والجبن إلى الإنسان، فيحاول عقلنته بادعاء النضج. وقديما قيل: التفكير يصنع الجبناء! لكنهم لم يقصدوا حتما مطلق التفكير، وإنما فقط ذلك الضرب من التأمل الذي ينحو نحو تبرير الهزيمة ومحاولة نظرنتها. أما إذا جاء التفكير مصحوبا بالشجاعة، فإنه يغذو أمرا محمودا؛ فالرأي قبل شجاعة الشجعان. والذي يعنينا أن بدرا أورد المعنى الأول المتعلق بالحماسة وجعله مقترنا بالفتوة، ثم وقف عند هذا الحد، بينما عمرو أحاط بالصورة من جانبيها، فأورد التجربة والخبرة والحكمة فجعلها من نصيب الشيوخ. ولعل إحدى ميزات التناص، من حيث هو إحالة وتلميح لنصوص سابقة، أنه يعفي ويغني الشاعر عن الاستطراد والخوض في تفاصيل هي معلومة لدى القارئ من ذي قبل، لذا فإنه يورد أشياء في نصه، لكنه يترك عامدا بياضات وفراغات للقارئ كي يتولى ملأها فيكون بدوره مشاركا ومساهما في التأليف والإخراج، قارئا إيجابيا لا سلبيا.
نصل إلى آخر بيت في قصيدة “النفير”، نود التعليق عليه:
ويا أهل الخمور لهم سيوف
شفاء للذي يشكو الخمارا
ولو فكرنا من أول شاعر يرى سيفه ترياقا شافيا، وأعداءه مرضى يبحثون عن الدواء؟ لصاحت الألسن بصوت واحد: إنه عنترة بن شداد:
وسيفي كان في الهيجا طبيبا
يداوي رأس من يشكو الصداعا
فالبيتان معا، حافلان بالسخرية من العدو، مفعمان بالحماسة للحرب، بليغان في تشبيهما للسيف -وبالتالي الموت- بالشفاء. ومعنى هذا التوارد في الخواطر، أن النص الشعري لبدر الدريع في حقيقته ليس نصا واحدا، بل يكتنف داخله تكثيفا وتوليفا لنصوص تراثية عدة، وكل كلمة فيه تتولد عنها دلالات وتنفتح على احتمالات كبيرة، كبيرة جدا متى ما كان القارئ في مستوى استنباطها، والقياس عليها، والنظر إليها بعين الوعي النقدي الأدبي والفني الصحيح، باعتبارها مدخلا أساسيا نحو جمالية التلقي وفعل القراءة، لا يحسن إتيانه إلا من كان ريانا بمجال الأدب العربي لغة وشعرا ونقدا؛ فهؤلاء هم جن الإنس الذين يبصرون ما لا يبصر غيرهم؛ يبصرون النصوص الموازية والثاوية خلف كل بيت ينطق به الشاعر.
وبعد، فإن ظاهرة الاقتراض الشعري ليست بالشيء الجديد الذي يمكن نسب اكتشافه للغرب، أو المحدثين لأي جهة انتموا، بلأمر معروف ومشتهر لدى قدماء النقاد والشعراء العرب، وحسبك أن ترسل النظر في ما صنفوه بهذا الباب وهو كثير، بل استأثر أو يكاد بجهودهم في النقد الأدبي، وصيروه مدخلا للموازنة والوساطة بين الشعراء؛ واتخذوا له اصطلاحات نقدية غاية في الدقة والإتقان، بلغت قرابة الأربعين، وصنفوها إلى محايدة اضطرارية، ومشروعة محمودة، وغير مشروعة مذمومة. اشتهر منها: وقع الحافر على الحافر، والسرقات، ومحاسن السرقة… وتسلسلها يدل على وعي جمالي آخذ في التنامي مع تقدمه في فهم الظاهرة، ومنشئها. هذا المنشأ الذي يعد الإمام علي بن أبي طالب -فيما نعلم، وفوق كل ذي علم عليم-، أول من أشار إليه حين قال: “لولا أن الكلام يعاد لنفذ”. أي أنه لا مناص من التناص. ويمكن بهذا الصدد العودة للدراسة الإحصائية والمقاربة الاصطلاحية التي أنجزها د. عبدالرزاق بلال بعنوان: “جدلية التعالق النصي بين السرقات الأدبية والتناص”.
إن للتناص وظائف فنية وجمالية حاولنا إبراز بعضها خلال دراستنا لبعض أبيات قصيدة بدر الدريع، ولكن ثمة وظائف أخرى ينبغي الانتباه لها وبالأخص في زماننا هذا، وواقعنا هذا، وهي أن التناص يؤكد استحالة وامتناع القطيعة مع التراث كما تدعو إلى ذلك الحداثة ومدارسها النقدية المعاصرة، وإلا فكيف يمكن القطيعة مع الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي… وادعاء البدء من الدرجة الصفر في الكتابة؟ بل كيف تمكن الكتابة من أساسها دون وعي مسبق وإدراك عميق باللغة وقواعدها وحروفها ومادتها ومصادرها المؤسسة لها، وهي أمور ليست وليدة اليوم، بل متوارثة جيلا عن جيل؟ ومثله استعمال هذه اللغة في التأليف والتفكير، فما دامت لغة الكتابة هي العربية فإن الكاتب يخضع لطرائق العرب في القول وأعرافهم في الكلام، لا يخرج عنها إلا بالوهم. وطالما كانت الخلفية الفكرية واللغوية والثقافية مشتركة على هذا النحو بين كافة العرب، فإنه من الطبيعي جدا أن تتوارد خواطرهم ويقع الحافر على الحافر وينطق بعضهم بلسان بعض فيصيب ما في أنفسهم، وإن وحدة الثقافة هذه بتياريها الجاهلي والإسلامي (المعلقات والقرآن) لمما يدلل على أن العرب أمة واحدة، وأنها أمة لها ميزة على سائر الأمم العجمية.