مُعتمِد سليمان.. ظاهرة تستحق الدراسة

صبري الموجي | نائب رئيس تحرير جريدة عالم الثقافة

لم يكن اتصالي الهاتفي به لأستفسرَ عن إمكانية تسجيل الماجستير معه سوي محاولة يائسة ضمن عددٍ من المحاولات التي قمتُ بها ولم أرجع منها إلا بخُفي حُنين؛ لتطبيق مُعظم إن لم يكن كلُ الجامعات نظام الساعات المعتمدة، ودراستي للسنة التمهيدية كانت علي النظام القديم، وهو ما جعل الرد يأتيني في كل مرة بأن اللوائح لا تسمح، فأُنهي المُكالمة، وقد تحجرت العَبراتُ في عيني حُزنا علي فوات الفرصة، وضياع مجهود عام دراسي، استقطعتُ فيه كثيرا من الوقت والجهد لاجتيازه.

كان صوتُ العلَّامة أ. د معتمد علي سليمان أستاذ الدراسات الإسلامية وعميد كلية الآداب بجامعة أسيوط حانيا ممتلئا بالدفء، ومصحوبا في الوقت نفسه – وهو الأهم – بعباراتٍ تدل علي أنني وقعتُ علي أصولي من طرازٍ فريد، وعالمٍ في الدراسات الإسلامية فاهمٍ لروح النص، وليس متقوقعا عند منطوقه اللفظي وفقط، كما هو حالُ بعض الأساتذة الآخرين.

وسريعا اتفقنا علي العنوان، الذي ضاعت من عمري سنتان أو أكثر بحثا عنه دون جدوي؛ بحُجة أن العناوين قُتلت بحثا – وهو ما جعلني أتمني في قرارة نفسى أن تكون لي قوةٌ لأقتُل من قتلها – وأنك لن تُقدمَ فيما اقترحت من عناوين جديدا في مجال البحث العلمي، مع يقيني أن الجِدة لا تتوقف علي مجرد العنوان، بل لها أوجه، منها جِدةُ التناول والنتائج، وجدةُ ربط البحث موضوع الدراسة بالواقع المعيش، وغيرها من صور الجدة، التي تفتح آفاقا لمجال البحث، ولا تُحجر واسعا.

ولأنه جمَعَ بين العلم والعمل، فكان علمُه خلقا وسلوكا، يسَرَ لي أ. د معتمد كلَ السبل، ولم يُرد أن يشق علي، ويكلفني مؤنة السفر إليه من القاهرة لأسيوط، مراعاة لأشغالي في بلاط صاحبة الجلالة، واكتفي بمجرد وصول أوراقي إليه بأي وسيلة، مُؤكدا أنه سيتولي هو رغم انشغالاته البحثية العديدة، وجلساته العلمية المتوالية للنهوض بالدراسات الإسلامية مُهمة إتمام إجراءات التسجيل بالجامعة.

ولم أجد بُدا من تحزيم حقيبة ملابسي، وتولية وجهي شَطر مدينة أسيوط لأسلمة أوراقي بنفسي، بعدما أعيتني حيلُ البحث عمن يسدُ مَسدي في هذه الرحلة الشاقة في أيام يوليو شديدة الحر.

ورغم مشقةِ الرحلة وطولها، إلا أنني فُزتُ ورب الكعبة بلقاء عالم من زمن الأولين، جمع إلي كثرةِ التحصيل روعةَ التطبيق.

ففي جلسة كرم معهودة علي أبناء الصعيد، التقيتُه في مكتبه، وقدَّم لي فطورا مألوفا عند كل المصريين، لم أذق مثله، وربما اكتسب ذلك الفطور، الذي كثيرا ما كانت ترغب عنه نفسي لذته وجماله من جمال صاحبه.

وهو ما ذكرني ببيت للحصري القيرواني، أثبتَ فيه أن حبَه لمحبوبته سرت عدواه إلي كل المحيطين، وعاشوا مثله حالةَ الحب، حينما قال : أحبُها وتُحبُني ويحبُ ناقتَها بعيري.

كان الحديثُ رائعا آثرت خلاله الصمتَ لأنعم بشلال من التأصيل والتنظير يتدفقُ من فم أ.د معتمد حفظه الله، والذي جعل همه ولايزال، إبراز المعاني الخفية وراء النص، فكان حجةً في المقاصد، وآية في معرفة المصالح المُرسلة، دون تمييع للنص أو تضييع لمقاصده ومراميه.

ولم يكن تمكُن د. معتمِد (بكسر الميم الثانية) كما يُحب أن يُنادَي – تواضعا منه – وإن كنتُ أحبُ أن أناديه (معتمَد) بفتح الميم الثانية، إقرارًا بفضله علي بعد توفيق الله وتسديده.

أقول لم يكن تمكُنُه العلمي مُنفصلا عن حسن إدارته، فنطق لسانُ حال كلِ من التقاهم أثناء وجودي بمكتبه الأشبه بحجرة راهبٍ، حيث تكدست به عشراتُ الكتب والأبحاث، أنه العميد الذي كان حازما في غير قسوة، ليّنا في غير ضَعف.

ولا شك أن العلامة د. معتمد كان ظاهرة تستحقُ الدراسة، فأوقفني البحثُ السريعُ عنه، أنه اعتاد أن يكون الأول دائما، وكانت رسائلُه وأبحاثه العلمية حُججا ساطعات، وكواكب نيرات، استطاع من خلالها أن يُثبت أن نصوص الشرع ليست قوالبَ جامدة، بل هي أفعالٌ وسلوكيات معيشة.

فكان مما صنف ” الحديث النبوي في تفسير التسهيل لعلوم التنزيل لابن جُزَي .. دراسة وتحليل”، و” الأحاديث الموضوعة في السنن الأربعة .. عرض ونقد” وغيرهما من كتبٍ نافعة، أهلته لتولي العمادة رغم صغر سنه، وليكون خبيرا بقطاع الآداب بالمجلس الأعلي للجامعات، ومُحكِما باللجنة العلمية لترقية الأساتذة، ورئيس تحرير مجلة بحوث الدراسات الإسلامية وغيرها الكثير..

حفظ الله عالمنا أ. د معتمد وأدام نفعه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى