رحلة مع سائق كاتيوشا
برهان المفتي | كاتب عراقي
حاول أن تقرأ رواية وأنت جالس جنب سائق لا تهمه رادارات مراقبة السرعة، ويقود بسرعة لا حدود لها ويدخل في منعطفات الطرق بتلك السرعة، وفي كل ذلك موسيقى كلاسيكية من مسجل السيارة، فهذا السائق له مزاج خاص في السياقة، وعليك أن تركز على كل سطر تقرأه لأن السائق هو كاتب الرواية وسيسألك طول الطريق والرحلة عن شخصيات الرواية وأحداثها، بل ويفاجئك بأنه معك في كل صفحة، وأنك تقرأ حياته وليست رواية، فهو يتكلم معك بنفس سطور الرواية ولغتها.
كنتُ أنا هذا الراكب على مسافة رحلة طولها 216 كيلومتراً مع سائق ماهر مغامر حد الجنون، وكانت الرواية التي أقرأها هي (كاتيوشا- الطبعة الأولى2021-مؤسسة بتانة) للكاتب المصري الكبير (وحيد الطويلة Waheed Taweela). سار بنا وحيد في هذه الرحلة للخروج من أسوار وقيود الرواية العربية القديمة متجهين إلى أفق واسع للرواية العربية الحديثة، وهو يعرف الأتجاه بدقة، فمَن يريد الرواية الحديثة عليه ببوصلة يحملها وحيد الطويلة.
وسيارة وحيد من النوع الممتاز تصل لسرعة 100 كم في الثواني الأولى من القراءة في منافسة مع بوغاتي، ومع حادثة سيارة شاهدناها على طرف الطريق، لم يتوقف وحيد بل زاد من سرعته والمدهش أنه يعرف تلك السيارة ومن كان فيها من زوج وزوجته، ولم يسكت من سرد حكاية الزوجين وحبهما حتى وصلنا لنهاية الرحلة عند الكيلومتر 216.
كنتُ في هذه الرحلة أحاول التأكد هل معنا في السيارة إمرأة تشاركنا الرحلة؟ كيف لرجل يسرد عن تلك الزوجة التي كانت في السيارة المحطمة كل هذه الأسرار التي هي خاصة بالنساء ولا تعرفها إلا جلسات النساء المغلقة.. والنساء كاشفات لأسرار الرجال لكنهن خزائن مغلقة لأسرارهن.. فهذا السائق يعرف حتى حيل وخدع تلك المرأة لمعالجة موقف محرج حين أحتاجت لفوطة نسائية في مطعم وحقيبتها ليست فيها فوطة، لكن السائق أخبرني كيف أن صديقة تلك المرأة تركت حقيبتها بإشارة من أصبعها لكي تحملها تلك المرأة التي فاجأتها دورتها الشهرية لتذهب إلى تواليت المطعم دون أن يشعر أحد(صفحة 137).
بل أن هذا السائق الماهر والثرثار الذي لا يسكت مع أستمرار الموسيقى يعرف تماماً أهمية جغرافية المطبخ لجسد ونفسية المرأة ويعرف كيف أن المرأة تهرب إلى دوش الحمّام لكي تؤجل مشاكلها (ص 157)… في هذه النقطة حاولت التاكد أن السائق رجلٌ وليس امرأة، ولكن حين قال لي أن الرجال يغيرون حبيباتهم كما يغيرون ألوان قمصانهم، وأن قلب أمرأة شهية هو مثل الفوز ببطولة كأس العالم تأكدتُ أنني أجالس سائقاً له خبرة طويلة في سوق القلوب ومشاهدة بطولات كأس العالم بكرة القدم وهي رياضة تكرهها النساء جميعاً، فهذا السائق يخبرني أن صديقاً له أسمه (فريد) قد شاهد ثلاث بطولات كأس العالم في بيته، كل بطولة بصحبة زوجة تختلف عن السابقة ( صفحة 117).
وصلنا إلى الكيلومتر 209 فنظر لي السائق رغم المنعطف الخطير الذي أمامنا.. فقال: أقلب الحكاية كلها.. تماماً كما في الرياضيات حين تضرب المعادلة كلها في سالب واحد (-1) لتعكس النتيجة… وعليك أن تعرف أين الحقيقة في كل هذه الحكاية، وفي أي منعطف كان على طول هذه الرحلة.
وحيد الطويلة سائق ماهر جداً.. دعوة لمَن يحب أنْ يجرب هذه الرحلة والسياقة المدهشة الماهرة أنْ يصادق (وحيد الطويلة) ليرافقه في إحدى رحلاته… وما أكثرها.