القيمة الفائضة … سلاح إمبريالية المعرفة
بقلم: عدنان الصباح
يبدو ان ماركس الذي استطاع ان يدق الخزان باكرا كاشفا الستار الخفي عن فائض القيمة كأخطر سلاح احتكرته الرأسمالية كما تحتكر الملح معتقدا ان الانتصار على الرأسمال يكمن في قدرة صانعي فائض القيمة من البشر على حرمان مستغليهم من هذا السلاح القادر على توفير القدرة الحقيقية على مواصلة شراء الايدي العاملة واصحابها في تغيير بسيط لدور العبد والقن فيما بعد, ماركس صاحب كتاب راس المال الاشهر في تاريخ الاقتصاد السياسي في العالم لم يلتفت كثيرا الى قدرة الرأسمالية على التحول من شكل الى آخر أكثر بشاعة في الفعل وأكثر لطفا في الشكل والمظهر وهي التي استطاعت ولعقود ان تحمي ظهرها برشوة طبقتها العاملة لصالح السيطرة على شعوب باسرها وسرقة هذه الشعوب وثرواتها وتدميرها وتحويلها الى سوق لسلع الموت والحياة معا عبر صناعة الحرب وصناعة الاستهلاك معا.
الرأسمالية الامبريالية في دول الغرب الصناعية الكبرى ادركت سريعا ان خطر الداخل من فقرائها وطبقتهم العاملة تحديدا هو الخطر الأكبر ولذا عليها ان تكف عن حرب الداخل ومصالحة فقرائها والعمال تحديدا وتحويلهم الى اداة جديدة مرتاحة بمداخيل عالية وعمل اقل عبر أتمتة الصناعة والانتقال الى الخارج باستعمار حمل معه للشعوب الفقيرة السلاح والسلع الاستهلاكية الجديدة وسرق من هذه الشعوب كل شيء ذو قيمة بما في ذلك حياة البشر وقد تمكنت القوى الاستعمارية من تطوير ادائها مرارا وتكرارا ليس مع شعوبها فقط ولكن ايضا مع شعوب البلدان التي استعمرتها فهي لم تبق على استعمارها المادي وانما حولته الى استعمار بالوكالة عبر وكلاء محليين كمبرادور اقتصادي وثقافي واجتماعي وكذا سياسي بالضرورة.
فائض القيمة كنظرية رياضية احتسبت قيمة السلعة من مكوناتها راس المال الثابت من ارض ومنشآت والات ويحتسب استهلاها في تحديد قيمة السلعة المنتجة الى جانب المواد الاولية والمواد المساعدة واجرة اليد العاملة التي لا تساوي قيمة ما تنتجه بالضرورة ولولاها لما تشكلت السلعة من اصله ولما اصبحت قابلة للتبادل مع النقد المناسب للتكديس لدى صاحب راس المال وهو ما يعني ان صاحب فائض القيمة هو العامل نفسه او القن او العبد في التشكيلات الاقتصادية السابقة للرأسمالية الذي جعل من معادلة نسبة استهلاك راس المال الثبت + قيمة المواد الاولية والمساعدة + اجرة اليد العاملة = التكلفة وعند انتقال السلعة الى السوق تظهر قيمة اخرى وهي القيمة السوقية للسلعة والتي بالضرورة اكثر من قيمة انتاجها أي ان التكلفة الانتاجية للسلعة – القيمة السوقية لنفس السلعة = الربح بعرف صاحب راس المال والقيمة الفائضة بعرف منتج السلعة او صاحب الجهد في الانتاج الذي لم يتقاضى اجرا يساوي نتيجة الجهد المبذول الذي عادة ما يذهب الى خزنة الرأسمالي او جيبه في التعبير الشعبي ومن الضروري ان ندرك الطبقات الوسطى من التجار والمسوقين والباعة فجميعهم يعتاشون من جهد العامل المبذول في السلعة التي بين ايديهم وبالتالي فان الفائض في الاساس يذهب لصاحب راس المال وبعض الفتات للوسطاء مهما بدا كبيرا والظلم يقع على الطرفين الحقيقيين للعملية الانتاجية للسلعة هم العامل كصاحب الجهد وصانع للقيمة الفائضة والمستهلك كمستهدف ودافع لثمن هذه السلعة.
هذه العملية باتت مفضوحة مع الزمن عبر الحركات الثورية وتنظيم العمال وصعود صوتهم المطالب بحقوقهم مما قاد الرأسماليين اولا الى استحداث الاستعمار او الاحتلال بهدفين الاول الحصول على المواد الاولية بسرقتها اولا ثم بأرخص الاسعار والثاني فتح اسواق جديدة للسلع المنتجة لديهم والفائضة عن حاجتهم الاستهلاكية وصارت هذه السلع هي اثمان المواد الاولية المنهوبة في افضل الاحوال وبالضرورة ادركت الرأسمالية ومن بعدها الامبريالية ان الاضطهاد المباشر للشعوب وللطبقات الفقيرة يستحيل ان يعيش الى الابد وبات الخوف من الثورة هو الهاجس وتماما كما شكلت الثورة الصناعية بوابة الرأسمالية وشكل الصراع بين الرأسماليين بوابة الامبريالية والصراع بين عالم امبريالي وعالم اشتراكي الى امبريالية حديثة بقفاز حريري كان لا بد من الانتقال الى مرحلة مختلفة كليا تمكن الرأسمالية وامبرياليتها من مواصلة العيش والتطور فاخترعت الصراعات والحروب الداخلية بين امم وشعوب الشرق اولا ثم بين الشعوب نفسها مع بداية القرن الواحد والعشرين وتماما كما استفادت من الثورة الصناعية فقد استطاعت بذكاء خرافي ان تستفيد من الثورة الرقمية التي غيرت العالم من عالم يعيش على اقتصاد السلعة الى عالم يعيش على اقتصاد المعرفة وهو ما اسميته في مقالات سابقة بإمبريالية المعرفة او ” الامبريانولوجي ” وهو عصر اقتصاد المعرفة او عصر تحويل المعرفة الى سلعة والاخطر انها سلعة غير منظورة وان منتج قيمتها هو العقل وموادها الاولية هي الهواء وبعض قليل من السيرفرات والالياف الضوئية وقد استطاعت ان تسيطر على السلعة المادية وتحتكر تسويقها ولو في المستقبل القريب الى جانب قدرتها على تسخيف السلعة المادية وتحويلها الى ملحق لأداة المعرفة وباتت السلع المنتجة يدويا في اخر القائمة وتم تصنيفها في خانة التراث بينما السلع المنتجة في مصانع الروبوت والادارة الذكية هي الاساس في العصر الجديد مما سهل على الرأسمالي التخلص من الايدي العاملة وقدرتها على التحكم في العملية الانتاجية برمتها وبات العدد البشري المطلوب لتشغيل مصنع بطاقة انتاجية عالية لا يحتاج الى عدد اصابع اليد الواحدة من مشغلي لوحات الادارة الرقمية للمصنع وهو ما يعني ليس تقليل التكلفة فقط ولكن تقليل الخطر البشري الذي قد يأتي من صحوة العمال وتوحدهم وثورتهم ضد مستغليهم وزيادة مجنونة في العائد بسبب القدرة الانتاجية التسويقية الهائلة لعالم الالياف الضوئية الجديد.
بعكس فائض القيمة التي تعتمد اساسا على الايدي العاملة كثيرة العدد وقوية البنية وتواصل استغلالها المباشر يوميا بلا رحمة مما قد يسهل على المضطهدين التفكير بالثورة والانتظام في سبيلها فان القيمة الفائضة تمنح الرأسماليين القدرة على شراء الصمت مقابل الخبز وما شابه فمعادلة القيمة الفائضة تنفي راس المال الثابت الى حد بعيد وتنفي اهمية وقيمة المواد الاولية وتلغي دور الايدي العاملة الى حد كبير وتستبدلها بالعقول العاملة مما يعني تقليل رقعة الاضطهاد البشري وتوسيع رقعة السيطرة فمعادلة راس المال الثابت + المواد الاولية والمساعدة + الايدي العاملة + الوسطاء والتي تنتج السلعة وقيمتها السوقية تم استبدال الامر براس مال ثابت قليل جدا وقليل الاستهلاك وقدرته على الحياة طويلة + مواد اولية أقل + شبه غياب للأيدي العاملة + عقول فاعلة تساوي سلعة وهمية لا احد يعرف من يقف ورائها ولا احد يستطيع اتهامه باستغلال جهد البشر خصوصا وهو من استحدث الضرائب الباهظة واخترع فكرة اهمية دافع الضريبة التي تذهب لتكميم الافواه في البلد الاصل عبر التأمينات والضمانات والمعاشات وفي البلدان التابعة عبر المساعدات والهبات وما شابه ومقابل ذلك إخترعت امبريالية المعرفة العقوبات ضد من يغرد خارج السلاب وهو الحال الذي تعيشه اليوم كافة الدول والشعوب التي تغرد خارج السرب الذي تقوده امبريالية المعرفة وعلى راسها الولايات المتحدة الامريكية.
بعد الانسحاب من افغانستان اجاب ممثلو الادارة الامريكية عن سؤال بخصوص الطائرات والدبابات والاسلحة التي تركوها في افغانستان بعد انهيار جيشها بوضوح ان هذه الطائرات والدبابات لا تعمل ابدا ولا يمكن استخدامها والغريب في الامر ان الخبر مر مرور الكرام فلم يهتم به احد ولم يحتل صدارة نشرات الاخبار ويعرف الجميع ان المفاعلات النووية الايرانية تعرضت ولا زالت لهجمات الكترونية تؤكد ان مصلحة امبريالية المعرفة الجديدة بألكترنة العالم ( جعل العالم يدار بالكمبيوتر والروموت عن بعد ) بحيث لا يحتاج الإمبرياليتين الى جنودهم بل الى عقولهم القادرة على ادارة الحرب عن بعد مرتين الاولى بالقيمة الفائضة الخرافية القادرة على شراء الصمت عبر العصا والجزرة بمساعدات ممكنة وجاهزة وعقوبات ممكنة وجاهزة بما يعني نرسل لك الطحين بطائرة بلا طيار فإما ان تصل واما ان نسقطها في البحر ونبيعك طائرة عسكرية اما ان تقتل وتقاتل بها من نريد واما ان نخرسها في مهجعها.
نشتري منك البترول بثمنه ونبيعك الاسلحة والكمبيوتر والكولا والويسكي بثمنه لتشعر بقيمة ما لديك من ثروة ايضا ولكنهم يستخدمون البترول كما يريدون وتستخدم انت سلاحهم كما يريدون ايضا وفي الحالتين الامر لهم قانت لكي تستطيع الحصول على مساعداتهم المالية لا بد لك ان تشتري منهم بما لديك اسلحة ومنتجات وان تستخدم مساعداتهم للخبز ليبدو جليا للعالم انهم من يطعمونك دون ان ترى ان ثرواتك تتحول الى سلاح تشتريه منهم لتقتتل به لا لتقاتل به.
القيمة الفائضة وفرت بشر في العالم الامبريالي مرتاح غير منظم فردي لا شأن له بالحال العام ما دام لديه ما يكفيه وهو قد يعبر من انسانيته بالتضامن مع الشعوب المقهور على ارضها لا بالدفاع عنها على ارضه مما يوضح بجلاء ان القيمة الفائضة هي السلاح الاخطر الآن فهي تمنح الإمبريالية ساحات مكشوفة لهم وضبابية عليهم ساحات تسهل لهم خوض معاركهم ضد اعداءهم دون ان يشعروا انهم ممن يفعلون ذلك ويتركوا لأنفسهم الصورة الانصع فقد احتلوا العراق وافغانستان تحت شعار الديمقراطية وهم ايضا تركوها تحت شعار عدم السيطرة ليعيدوها الى عالم مظلم من الاختلافات والصراعات التي لا تبين تخلف هذه الدول بل تؤكد لدعاة الامبريالية انهم كانوا على حق وان هذه الشعوب لا تحتمل ولا تدرك معنى ولا قيمة الديمقراطية فتركت العراق من اغنى دول العالم الى واحدة من أفقرها وافغانستان من شعب يقاوم المحتل الى شعب سيذهب للجحيم باقتتاله وستظهر الدول الامبريالية حسناتها بمعونات للجوعى في افغانستان في نفس الوقت التي تحتجز بها مليارات الشعب الافغاني في بنوكها.
عصر الثورة الرقمية الذي جعل من الالياف الضوئية اداة انتقال بالعالم من مترامي الاطراف الى موحد الاطراف فانت اليوم لا تكاد تغمض عينيك حتى تنجز اتصالا بين طرفي الارض بلمح البصر او بسرعة الضوء ولم تعد الامبريالية بحاجة لاساطيل بحرية وجوية لفرض سيطرتها هنا وهناك بل الى فيروسات الكترونية تستخدمها متى شاءت لاسكات هذا الصوت او ذاك وبالتالي فان وحدة البشر الفقراء والمضطهدين ومعهم كل المتنورين فقط هي الوسيلة الوحيدة لانزال الطغمة الامبريالية المسيطرة من غرفة التحكم الالكتروني بالعالم عبر ادراك ان ملايين الجنود اليوم يستبدلون بملايين ببضعة الاف من العمال والمشغلين الاذكياء الذين يفرضون هيمنة الامبرياليين على البشرية دون خطر يهدد حياتهم وهو ابشع انواع الاستغلال للعقل لا يظهر ابدا على انه استغلال بسبب حجم المكافآت والاتعاب والتبجيل الذي يلقاه العلماء المنساقين مع رغبات الامبرياليين وحجم التهديد الذي يلاقوه من يحاولون معاكسة التيار.
لا بديل اذن اليوم عن وحدة البشرية ولا تكفي ابدا وحدة شعب او امه وحدها لمقاومة الخطر الذي ابدع بإنتاج القيمة الفائضة المملوكة بالمطلق بأيدي الطغمة الامبريالية القادرة على مواصلة انتاجها اكثر فاكثر يوما بعد يوم وعصرا بعد عصر بهدف تقليل او الغاء القدرة على وجود من يقف في وجوههم بعد ان تمكنت امبريالية المعرفة من الغاء تجمعات القهر كالعمال والجنود ولا حتى تجمعات المقاهي بعد ان تمكنت من جلب العالم باسره الى شاشة الفرد في مكانه وحيث يعيش ولو في غرة بأربعة امتار مربعة وهو ما يعني بالضرورة ايجاد القدرة المعاكسة لاستخدام نفس الاداة لتثوير العالم رقميا ايضا بحيث تصبح اداة السيطرة بأيدي الشعوب لا بأيدي اللصوص الامبرياليين.
كان سلاح فائض القيمة هو سلاح منتج بيد العامل ويحتاج الى ديمومة عمل هذه الايدي لمواصلة الفعل ومواصلة انتاج السلعة لزيادة احجام فائض القيمة التي تتحول الى سلاح وغول قوي بيد الامبرياليين وبالتالي كانت هذه القدرة مرهونة بإرادة العامل وحده ان اراد ان يدع ماكنة الانتاج تواصل الدوران ام وفي حال القيمة الفائضة فان المنتج اليوم جاء نتاج فعل العقل اولا وهو يحتاج هذا الدور لتحقيق وجوده ثم يصبح بإمكانه مواصلة الفعل بمعزل عن صانعه وهو ما يوفر للإمبريالية قدرة عجيبة على التنصل من سطوة الغير على مواصلة الفعل اليومي بعد ان يصبح كل البشر فاعلين دون ان يدروا ودون ان يستشاروا كل في بيته ليلا ونهارا وبمعنى لا لبس فيه تصبح البشرية كلها قطيعا من العبيد لا يعرفون واقع حالهم ويكفي العالم ان يرى ما جرى عند توقف فيس بوك وتوابعه لبضعة ساعات هذا الاسبوع لنعرف ماذا يعني اننا اصبحنا ملحقين بمنتجات الثورة الرقمية وليس العكس ون من يصنع حياتنا هي الالياف الضوئية لا ارادتنا.