للبحر حصَّتُه من الأحبّاء

سهيل كيوان | فلسطين

لا يمرُّ عيد دون أن يأخذ البحر حصته من الأنفس، كأننا قدماء المصريين نقدم قرابيننا لهذا الأزرق الجميل.

في البحر فتنة لا تقاوم، خصوصاً لسكان المناطق الجبلية، والمحاصرة في معازل عنصرية، المسوّرة بالجدران والأسلاك الشائكة وكلاب قصّ الأثر وأبراج المراقبة والرصاص والموت، فما إن يجدوا ثغرةً في عيد، حتى يهرعوا بعشرات الآلاف إلى الشواطئ، ليعانقوا الأمواج بعد غياب طويل، يرتمون في أحضانها متلهِّفين، فتحضنهم بلهفة خانقة.

أكثر الغرقي في الأعياد يأتون من الضفة الغربية، أو من قرى ومدن الداخل الفلسطيني الجبلية.

أعداد الناس الكثيرة على الشواطئ في الأعياد تعطي شعوراً خاطئاً بأن المكان آمنٌ، فعندما تكون وحيداً في البحر أو برفقة عدد قليل من الناس تشعر برهبته، أما عندما يحيط بك المئات بل والآلاف، فتشعر بشيء من الأمان الخادع، وهذا يدفع البعض إلى التجرّؤ على الأعمق، حتى لأصحاب القدرات المتواضعة في العوم.

الطقس حارٌ جداً، والبعض يصل الشاطئ بعد قطع مسافة طويلة، وعبور حواجز، والبعض يدخل راجلاً من خلال ثغرات في جدار العنصرية، فيصل متلهِّفاً، وبلا حذر يهجم على المياه كي يبترد جسدياً ونفسياً.

كثيرون ومن مختلف الأجيال لم يدخلوا البحر منذ سنين، ولهذا يغلبهم شوقهم وينسون أن هذا الجميل الرومانسي يتحول في لحظة إلى وحش يبتلع السفن العملاقة.

هناك من يعتبر الدخول إلى الأعمق شجاعة، خصوصاً من الشبان المراهقين، وفجأة يتورّط في حوّام، فيرتبك، ولا يعرف كيف يتصرف.

الشواطئ المراقبة والتي تحوي خدمات إنقاذ محدودة جداً، ولهذا تجد الآلاف يدخلون شواطئ غير آمنة، رغم وجود لافتات واضحة تنذر بخطر السِّباحة في تلك الأمكنة، يدخل البعض دون حذر، في سوء تقدير لقدراتهم في العوم وجهل في وضع المياه والتيارات.

هناك عشق للحياة بصورة متهوِّرة، يكون فيها الشاب مستعداً للمجازفة، فهو يجد لذة في الخطر، وكأنه يقول، أنا حرٌ هنا، ولا أريد العودة إلى المناطق المحاصرة.

أما مشكلتنا الأكبر مع البحر فهي رومانسية ولا شفاء منها، كثرة الشعر والنثر والغناء الذي يصف البحر والحبيب والأمواج والرمال، جعلت من هذا الأزرق المخيف حالة رومانسية، حجبت خطورته عن الأعين، وحوّلته إلى عاشق ومعشوق، حتى الغرق فيه تحّول إلى حالة رومانسية كما قدّمها عبد الحليم حافظ من شعر نزار قباني…الموج الأزرق في عينيك، يناديني نحو الأعمق…

وأنا ما عندي تجربة في الحبِّ ولا عندي زورق…

إني أتنفس تحت الماء إني أغرق إنّي أغرق أغرق…

وعند فيروز: شايف البحر شو كبير… كِبر البحر بحبك..

وعند محمد رشدي: طاير يا هوا طاير عالمينا.. رايح يا هوا تخبِّر أهالينا.

وتقول نجاة الصغيرة: أنا بعشق البحر.. زيّك يا حبيبي حنون.. وساعات زيّك مجنون.. ومسافر ومهاجر.

وغير هذا عشرات الأغاني للحب مع البحر، إضافة إلى أغنية الهجرة الحزينة.. هدّي يا بحر هدّي… طوّلنا بغيبتنا.

علاقة أكثر المراهقين، وخصوصاً أبناء المناطق الجبلية بالبحر، هي علاقة غرام وهيام، أكثر مما هي حالة اصطياف وسباحة لأجل الترفيه أو كمصدرٍ للرّزق.

البحر يعني التحرّر من الأقنعة على مختلف أشكالها، لا عمامة هنا ولا طربوش ولا كوفية ولا قبعة مكسيكية أو أوروبية ولا أقنعة سلفادور دالي، ولا موديلات فساتين أو قمصان وأحذية، ولا مواد تجميل على الوجوه، هو تحرّر من قيودنا الجسدية والنفسية، في الماء نعود إلى أرحام أمهاتنا، إنه علاج للجسد والروح، نعبث في المياه والرّمال كأطفال، ونعبّر بعفوية عن خوفِنا أو فرحنا.

البحر يعني اللاحدود، يعني التحليق بعيداً عن الجدران والأوامر العسكرية، وبعيداً عن صخب الأسواق وأبواق السيارات وأحزمة الأمان والشارات الضوئية والإسفلت الملتهب.

في هذا العيد بدت الشواطئ كما يُفترض أن تكون مكتظة بالفلسطينيين، لولا النكبة التي أفرغت السواحل من أهلها، هذا هو المشهد الطبيعي، عشرات آلاف المصطافين بملابسهم التقليدية أو بنصفها أو ربعها يمارسون عاداتهم، مثل الشواء وإعداد القهوة على الفحم، ودخان نراجيل على خلفيات موسيقية عربية، معظمها فولكلورية، أو شعبية مستحدثة، أو شعبية من أقطار عربية.

طبيعي جداً أن تكون اللغة العربية هي لغة الشاطئ المهيمنة، مقابل أسوار عكا، وعمارات يافا ومينائها وعلى أطراف أقدام الكرمل في حيفا وقراها، وطبيعي جداً أن تجد من يدعوك إلى مشاركته في زاده، أو أن يضع أمامك سفوداً من الشواء دون أن تطلب ذلك، وفقط لأنك جاورته على الرمال، وطبيعي أن ترد بدعوته هو ومن معه حتى ولو كانوا مئة، إلى زيارتك في قريتك القريبة.

فَتح الطُرق من الضفة الغربية إلى الساحل في العيد له أسبابه الاقتصادية والسِّياسية، هي سياحة داخلية، تسهم ولو بنزر يسير في دعم السياحة الداخلية في إسرائيل، التي لا تجد شعبية حتى من الإسرائيليين أنفسهم، بسبب الغلاء الفاحش مقابل الخدمات الرّديئة، ثانياً وهو الأهم، أن هناك ضرورة لهذا النوع من التنفيس عن سكان الضفة الغربية الذين يعيشون حالة من الضغط والغليان، وهذا قد يكون مقدمة لتسهيلات أخرى طلبتها أمريكا التي حذّرت من أن السلطة في رام الله تمُرُّ بأزمة عميقة، ستلي هذه الخطوة خطوات مثل رفع أعداد الداخلين للعمل من الضفة الغربية إلى داخل الخط الأخضر.

الشعور وأنت تتجول بين الآلاف من أبناء شعبك على شواطئ عكا وحيفا ويافا وحيفا والناقورة والزيب، بأنه يوم عودة مُصغّر، بروفا العودة، الكثيرون من هؤلاء هم أحفاد وحتى أبناء من هُجّروا من المدن والقرى الساحلية في عام النكبة.

لو كان قطاع غزة مفتوحاً لرأيت ضعف هؤلاء، كما كان الوضع قبل انتفاضة الأقصى عام 2000.

شعور مدهش بأن ترى الشواطئ مكتظة بأصحاب البلاد الأصليين، ولكنك تشعر بالغّصة لأنها عودة محدودة بالساعات، مثل الفرصة التي تُمنح للسّجين للترويح عن نفسه ليعود بعدها إلى زنزانته.

بعد ساعات يودِّعون البحر مُرغمين، وقد أخذ منهم ومنا حصته من الأحباء، مثله مثل المساحات الأخرى من الوطن، لكنها إشارات وربما مقدّمات ومراجعات وبروفات لما هو آتٍ، لا أحد يستطيع التنبُّؤ متى، ولكن ما أستطيع تأكيده هو أن البحر والساحل الفلسطيني بالذات، سيكون في يوم ما لكل الناس، وليس لأناس دون آخرين، وفي كل أيام وساعات العام والدّهر وليس في الأعياد فقط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى