جَواز سفر
يكتبها: محمد فيض خالد
يتَوجّب عليّ تَجديد جواز سفري ، اعترف مُرغما بأنّ علاقتي بمكاتبِ إنهاء المعاملات الحكومية ليست على ما يُرَام، رُبّما لتَغيّبي عن الوطنِ في غُربةٍ بلا نهاية ، ما إن وقعت عينيّ على تاريخِ الانتهاء ، حتى عاجلت ذاكرتي مَخاوفَ لا حَصر لها، ليلتئذٍ جفاني النوم إلى أن انبثقَ الصُّبحُ ، تمام السّابعة وجدتني وسط خِضَم هائج ، تسبقني دقاتُ قلبي المضطرب، اتحسّسُ مَفزوعا حافظة أوراقي التي حشوتها بالوثائقِ، تتواثبُ عينيّ ذات اليمين وذاتَ الشّمال ، اُطالِعُ المبنى الرابضُ في صمتٍ مهيب ، تلَطمُ وجهي برودة الصَّباح الجائرة ، في رزانةِ المُجَرِبُ اتخذت لنفسي مكانا قصيّا، لا يزال قُرص الشّمس جنينا محمرا ولا سبيلَ إلّا الانتظار ، على حينِ غِرةٍ خَدَشَ الهدوء صوتٌ قريب ، تقدّم مني رجل جاف الملامح ، ثبت على ثغرهِ ابتسامة صخرية ، قال في تبلّدٍ وهو يعتصر شفتيهِ :” تجديد ولا جواز أول مرة يا استاذ ؟”، سَرت في جسدي قشعريرة ، للحظات ضَرَبَ الصّمتُ بأطنابهِ، هززت رأسي مُمتنا ، تَعكّرَ مزاجه بعد إذ افلت صيده، غَاصَ لونه ليعود وعلى جبينهِ كآبةٍ قاتمة، كانت رُسل السّماء قد انفَضّت من حولي ، تلاحقَ النّاسُ مثنى وثلاث ورباع شقوا طريقهم في تَحفّزٍ، بدأت ماكينات التصوير تَزأرُ في ثورةٍ بعد خمولِ دامَ سواد اللَّيل ، في عَبثٍ يتَصايح مجهول :” ابعت ..ياللي بتبعت”، دقائق وانبَلَجَ الصُّبح وضّاحا ، اكتظّ الرّصيف بزوارهِ في كرنفالِ أزياء لافت ، أحاديثهم السّاذجة تتقاطر على فَتراتٍ:” يا فندي أنا عايز أغير المهنة عامل عادي اعمل ايه ؟!”، كفراشٍ يتَصيّدهم صاحب ماكينة التَّصوير الذي شَرَعَ يشرحُ قي ثقةِ الخبير ما يجب، تتعالى خَشخشة الأوراق تقلبها الأيدي في انزعاجٍ مُؤمّنة على كلامهِ ، إلى جواري اسندَ عجوزٌ رأسه بينَ كَفيهِ ، يَشبُّ في كيانهِ ما يُشبهُ الحَريق ، يَضربُ كفا بكف:” هم كبار السِّن ليهم شهادة ديش يا عالم .. عايز احج بيت ربنا”، امتلأ قلبي بأوجاعِ تَنبعث من تحتِ رمادِ الذِّكرى تحييّ ما اندثرَ من ألم، سنوات الغربة ، فراق الأحبّة، عمري المُنفَرِط كحباتِ المسبحة، سحابة كثيفة لأمسٍ غَابر ، اُغَالِب انكسار النّفس وانكماش الرّوح، تمتد يدٌّ نُحاسية غطاها الشّقاء تَدَفَعَ حَانِقا حِزمة أوراقه إليّ ، وإلى جواره فتا تتضرّج أساريره بالأملِ، عليهِ انفراجة الحياة تتلألأ، قال وقد أربدَ وجهه بهمومٍ ثِقال :” ابني مسافر ، جئت ضامنا ، فتحَ الله طريقه للخيرِ”، ثم غَابَ في فكرٍ مأزوم ، يفزعني تبجّح راعي ماكينة التّصوير وثرثرته التي لا تَنقطع ، سيل التعليمات يُسدِيها يَافعٌ صغير تَوسّط مُتفَزلِكا حَلقة واسعة من ذوي الجلابيب البلدي ، نظرات الإعجاب لا تنقطع ، تُفتِّتُ الجَليد المُتَكلِّس فوقَ الوجوهِ مُنذ الصَّباح ؛ يُسيّلُ اللُّعاب رُؤيا فتاة جذابة ، تتَبختر في ثيابٍ قصيرة، رائحة عطرها الأنثوي الفواح تحتك بالأنوف في استفزازٍ، تتأملها العيونُ التي سرحت في تفَاصيلٍ غريبة، همسات الجياع وغمزات القروي الأبله، عبارات التَّشهي الوقحة تُضحكني ، طرقعة كعب الحذاء العالي مستمرة، تَتهادى في مشيتها أمام البوابة ، تُحدِّق في ساعتها مُتَفاخرة، تُردِّد هامسة في الجوال عباراتٍ مقتضبة ، لم تلتقط أذني غير :” دقائق انهي المعاملة، على الموعد .. سلام “، العيون تَزحف من خَلفِ موظّفي المبنى في تَحنّنٍ، لا تَنقطع مناوشات العسكري ، نبرات صوته المبحوح ، يُلوِّحُ مُزمجِرا ،منظر السِّيجارة وخيوط الدُّخان المُتلوّي حول أصابعه الطِوال، لهجته الحاسمة :” قلنا ألف مرة ، بعّدوا عن المدخل دي سكة الموظفين لسه بدري يا عمّ الحجّ”، تبدأ المُنَاداة ، يَصطف القوم تحت عبئ الانتظار ، تلهج الحناجر داعية بالتَّيسيرِ، وشفاه يبّسها الصَّبر تؤمّنُ في خضوعٍ، دقائق كافية لأن أذوبَ وسَطَ أمواجِ الزِّحام إلى أن يَشاء الله..