هيا انطلقا
د. سامي الكيلاني | فلسطين
حين قرأت في طفولتي قصة “الحمامة والثعلب ومالك الحزين” تألمت كثيراً لمصير مالك الحزين، وتساءلت “هل هذا مصير من يعمل الخير؟”. في هذه القصة الموطّنة في البيئة الفلسطينية ينجو مالك الحزين ويرد له زوج الحمام الجميل) وضعت الحمامة البيضاء آخر قشة في عشها الذي بنته على شجرة الصنوبر، انضم إليها شريكها ذو اللون الرمادي بقشة أخرى. طارا مسافة قصيرة وحطّا على غصن قريب يتأملان العش فرحين بما أنجزاه. صفقت بجناحيها وعادت إلى العش لتستريح قليلاً. بدأت تغني أغنية فرحة ناعمة بهديلها. بعد أيام وضعت بيضتين في العش ورقدت عليهما. كانت تتبادل مع زوجها احتضان البيضتين انتظاراً لخروج الزغلولين منهما. وجاء اليوم الذي تنتظره، خرج أول الصغيرين من البيضة، ثم خرج الثاني بعد قليل. أشرقت الشمس، تأملت الفرخين الصغيرين والشعر الذهبي يلمع على جسميهما. صارت تطير وتعود بطعام في فمها لتطعم الصغيرين من الفم إلى الفم والفرح يملؤها، وكذلك كان يفعل الأب. كبر الصغيران واقترب وقت الطيران، فملأها فرح عظيم وهي تتأملهما. سمعت فجأة صوتاً من تحت الشجرة يصيح بها: أنتِ يا حمامة. التفتت. كان الثعلب واقفاً تحت الشجرة. صاح بها: إرمِ لي الفرخين، وإلاّ صعدت إليك وأكلتك وأكلتهما. سيطر عليها الخوف، بكت، رجته، لكنه كان بالغ القسوة وأكّد تهديده معطياً إياها مهلة قصيرة. بكت ورمتهما إليه، واستدارت في نظرها إلى الجهة المعاكسة حتى لا تراه وهو يأكل صغيريها. قالت لنفسها: جيد أنه لم يأكلني، سأبيض مرة أخرى وآمل أن يكون قد رحل عن المنطقة أو ابتعد لفترة كافية بحيث يطير الزغلولان القادمان قبل أن يرجع. مرت الأيام. زوج جديد من الزغاليل صار على وشك الطيران. كانت الحمامة فرحة جداً لأنها لم تر الثعلب منذ فترة. فجأة برز الثعلب تحت الشجرة، وصاح بها كما في المرة السابقة أن ترمي له الفرخين وإلاّ… بكت، ورجته هذه المرة أن يعطيها مهلة لتودعهما، أن يتركهما معها ساعة تلعب معهما. قال لها بأنه يوافق على طلبها لأنه طيب القلب، وأنه سيغيب ساعة ويرجع ولن يسمح بانتظار أطول. حضنت الفرخين وبدأت تنوح بصوتها الحزين. هبط على غصن قريب منها مالك الحزين، الذي سمع بكاءها أثناء تحليقه قرب الصنوبرة. سألها عن الأمر فأخبرته بما حصل معها وبما يطلبه الثعلب، وأنها تودع صغيريها قبل أن يأكلهما هذا الثعلب الملعون. قال لها: يا صديقتي، أولاً إنه لا يستطيع هذا الماكر أن يصعد إليك على الشجرة، وثانياً حتى لو صعد فإن بإمكانك عندها أن تطيري وسيأكل الفراخ، ماذا ستخسرين إن رفضت طلبه. أعجبتها الفكرة واقتنعت بها. عاد الثعلب بعد ساعة وطلب منها رمي الزغلولين، أجابته بقوة: اصعد إن كنت تستطيع ذلك، لن أرمي لك إبنيّ لتأكلهما. سكت ولم يرد عليها، نظر إلى أعلى فرأى مالك الحزين على الغصن القريب من العش. تصنّع الهدوء، وجلس تحت الشجرة قليلاً. وقف وتحدث مع مالك الحزين بصوت ودّي: يا صديقي مالك، كيف حالك؟ إنني أشعر بالملل يا صديقي، هلاّ نزلت عندي لنتسلى بالحديث عن الجو، يبدو أن البرد قادم. نزل مالك الحزين ووقف إلى جانب الثعلب. تحدثا بأمور الطقس، حدّثه مالك الحزين عن البلاد التي يهاجر منها وبردها الشديد. سأله الثعلب: وكيف تتقي العاصفة يا صديقي إن جاءتك من اليمين؟ رد مالك الحزين: أضع رأسي تحت جناحي الأيمن هكذا. رد الثعلب بإعجاب ظاهر: رائع، ثم سأل: وإن جاءتك من اليسار؟ رد مالك الحزين: أضع رأسي تحت جناحي الأيسر هكذا. قال الثعلب مظهراً إعجاباً أكبر: عظيم، ما أشطرك! لقد أفدتني بعلمك. ثم سأله: وإن هبت الريح من الجهتين، ماذا تفعل؟ رد مالك الحزين: أدفن رأسي بجناحيّ الإثنين هكذا. رفع الثعلب يده إلى أعلى ليضرب مالكاً ضربة قوية. صاحت الحمامة، التي كانت تراقب ما يجري: مالك! مالك! انتبه يا صديقي. تراجع مالك سريعاً إلى الخلف. جرحت ضربة الثعلب طرف جناح مالك، لكنه استطاع أن يطير إلى أعلى الشجرة. اقتربت منه الحمامة تتفقد جرحه، قالت: الحمد لله، إنه جرح بسيط، سيشفى سريعاً، كاد هذا الماكر أن يقتلك. مسحت بجناحها على جناحه المصاب، وقالت له: يجب أن تستريح حتى يلتئم جرحك، سنحضر لك الطعام أنا وزوجي. طلبت منه الانتظار ريثما تعود ببعض الطعام له ولفرخيها اللذين كُتب لهما عمر جديد وسيطيران بالتأكيد بعد أيام قليلة. استراح مالك الحزين على الغصن، ونظر إلى الثعلب الذي كان ما زال يضرب الأرض بقديمه الأماميتين غضباً لأن خطته قد فشلت. في اليوم التالي استيقظ مالك وهو يشعر بتحسن كبير. كان زوج الزغاليل في العش يتحركان في ضوء الشمس فرحين. حرك جناحيه عدة مرات، ثم نظر إلى الفضاء الأزرق الواسع حيث سيعود للتحليق فيه مرة أخرى ليواصل رحلته. انتظر عودة الحمامة، وقال لها: أشعر بتحسن كبير، ولا بدّ من مواصلة رحلتي. سأطير الآن، وداعاً، سلّمي على زوجك العزيز. ودّعته بحرارة وشكرته على نصيحته التي أنقذت صغيريها. ارتفع قليلاً على غصن أعلى وشكرها بدوره على رعايته. طار مالك وبقيت الحمامة تراقبه حتى صار نقطة بيضاء صغيرة في الفضاء، ثم اختفى. بعد يومين، ومع شروق الشمس، أيقظت الحمامة صغيريها وقالت لهما: استيقظا يكفي نوماً، اليوم موعدكما مع تمارين الطيران. نهضا وكلهما شوق ليسبحا في الهواء، كوالديهما، وليزورا المناطق البعيدة ويشاهدا الطبيعة خلف الجبل الذي كانت أمهما تطير باتجاهه كل يوم لتعود إليهما بالطعام. جاء الأب ليشارك في هذا الاحتفال المنتظر. قال موجهاً كلامه للفرخين وأمهما: لقد وصلنا هذا اليوم الرائع الذي انتظرناه، ونجوتما من الثعلب الماكر بفضل صديقنا العزيز مالك، ليته معنا الآن ليراكما تحلقان في الهواء على خلفية السماء الصافية في هذا النهار. وضع جناحه على جناح الحمامة الأم، وقالا بصوت واحد للطائرين الصغيرين: هيا انطلقا بأمان. حلق الطائران الصغيران فوق الشجرة ودارا في الهواء دورتين ثم انطلقا نحو الجبل البعيد. ظل الوالدان يراقبانهما حتى ابتعدا وحطّا على شجرة صنوبر في سفح الجبل المقابل