الطنطورة مثالاً
أمير مخّول | فلسطين
هناك أهمية لاعتراف أيٍّ من مجرمي الحرب من لواء الإسكندرون التابع للهاغاناه وغيره بالمجازر، حتى ولو بعد أربعة وسبعين عاماً. ولا يفوتنا أنهم يكشفون مشاركتهم وحيثيات الجريمة دونما أي تعبير عن الندم، ولا أقول طلب المعذرة والصفح.
كما أن هناك أهمية لأي عمل تأريخي أو فني أو سينمائي وروائي وغيره، يتحدث عن مجزرة الطنطورة وأخواتها الداميات. أذكر في التسعينيات، حين أثار المؤرخ الإسرائيلي تيودور كاتس مجزرة الطنطورة ضمن أطروحة الماجستير، التي تأسست على التاريخ الشفوي وجمع الشهادات ممّن بقوا في قيد الحياة من الطنطوريات والطنطوريين، ثم رفع مجرمو الحرب الميدانيون دعوى ضده، فتراجع أمام ترهيب “جلالة القضاء” القاضي بتبرير المجازر، إن لم يكن في الإمكان التستر عليها وإنكارها، بحسب ما تقتضي روح المشروع الصهيوني ودولته، وتقتضي روح الدولة، بإغلاق الملفات الدامغة لأبنائها وقادتها، وليس فتحها. إنها سياسة قائمة على السعي لإعادة إنتاج الذاكرة الفلسطينية وهندسة النسيان لدى ضحاياها.
إنّ ثقة الضحايا بروايتهم ليست بالأمر المفروغ منه، بل تخضع لمعايير القوة وميزانها المائل، كما تخضع لحالة الشعب الراهنة. قد تتعزز في حالة معينة وقد تهتز في أُخرى. إنها مسؤولية وطنية عليا، كما يجب أن تكون مستقلة عمّا يريد لنا الطرف الطاغي أن نعرفه، أو أن لا نعرفه.
هناك إشكاليتان في التعامل الإعلامي والسياسي، وبين شرائح من الأكاديميين والمثقفين العرب مع ما يصدر عن مؤرخين إسرائيليين، ولا أحصر هذا في العرب الفلسطينيين في الداخل، ولا عموم الشعب الفلسطيني، بل الوطن العربي في الغالب، ويجد ذلك تعابير عنه في اعتماد الرواية الإسرائيلية واعتبارها ذات صدقية عالية بمجرد الاعتراف بمجزرة، أو جريمة حرب، ويتبع ذلك إضفاء الطابع القِيَمي على كل مَن يكشف مجزرة أو بُعداً آخر في النكبة لم يكن مكتوباً عنه من قبل، وبقي طي الكتمان.
المثال الأسطع في هذا الشأن كان بيني موريس الذي اعتبرته المؤسسة الأكاديمية، وبحق، من أوائل المؤرخين الجدد، وراح البعض إلى ما بعد الصهيونية. لقد كشف موريس في كتاباته المهمة عن أعمال التهجير وخلق قضية اللاجئين، وشكّل سابقة من حيث المعلومات التي وفرها. وللتأكيد، فإن “ما بعد الصهيونية” ليس قيمة معيارية، بل جوهرياً ينطلق من أن انتصار المشروع الصهيوني يتيح المجال لبعض الاعترافات وكشف المعلومات.
في بداية ظهوره أغدقت أوساط إعلامية وأكاديمية وثقافية وسياسية عربية المديح على بيني موريس لدرجة الاستعانة بخطاب الأخلاقيات، ليتضح بعد أعوام أنه كشف عن المجازر وجرائم الحرب، لكنه شارك بن غوريون ومتنفذي الحكم بعد سنة 1948 الرأيَ في أن إبقاء مجموعة من العرب في دولة اسرائيل كان خطأ. كما كانت له تصريحات بأنه لم تحدث عملية تطهير عرقي في فلسطين في إبان عاميْ النكبة، 1947 و1948، ونشر مقالاً في صحيفة “هآرتس” في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2016 بعنوان “لم يحدث تطهير عرقي في سنة 1948″، أي أنه كشف عن المجازر وجرائم النهب والطرد كي يبرر موقف القيادة السياسية، التي يؤكد الكثير من التوثيقات التاريخية أن مَن نفّذوا المجازر قاموا بذلك بروح الدولة وبروح السياسة المتنفذة، وليس بقرار عقلاني مدروس “من فوق”. في حين لم يحدث أن صدر حكم بحق أي جندي أو ضابط تورط في المذابح المذكورة، بل كان دور الدولة وقياداتها التبرير أو التستير. كل هذا في حين عنوَن موريس كتابه الشهير بعنوان “المحايد” – “نشوء قضية اللاجئين”، ولم يحمّل إسرائيل مسؤوليتها بالمفهوم الأخلاقي، بل ذهب ليحاجج في أن بن غوريون ارتكب خطأ مصيرياً حين لم يقُم بطرد جميع العرب الفلسطينيين، وبما أنه لم يفعل ذلك، فبذلك منع استقرار الوضع لأجيال كثيرة.
من حق بيني موريس أن يفكر كما يشاء ويستنتج ما يشاء، فالصراع ليس فقط على الجبهات والحدود، بل يملأ كل مناحي الحياة الفلسطينية والإسرائيلية، بما فيها الأكاديمية، كما أن الرواية التاريخية هي جبهة متقدمة في هذا السياق. وللتوضيح، إنني لا أرمي إلى وضع المؤرخين الإسرائيليين في خانة واحدة، فهناك اختلافات جوهرية بين ما يستنتجه موريس، انطلاقاً من عقيدته العميقة، وبين إيلان بابيه أو آدم راز أو توم سيغف وغيرهم، وهؤلاء أيضاً لم تكن مواقفهم واحدة، ولا يتبعون رؤية واحدة، وليسوا جميعهم بالضرورة ضد الصهيونية ومشروعها في فلسطين. إنني أرمي إلى الإشارة إلى الإشكالية في كيفية التعامل الفلسطيني والعربي مع هذه المسائل. وهي مسألة ليست أحادية التوجه، بل إن المعلومة تخضع لتوازن القوى، فالأرشفة قوة، وأحد أكثر الأمثلة أثراً في ذلك هو قيام الاحتلال الإسرائيلي في لبنان في أثناء عدوان 1982 بنهب وسلب الأرشيف الفلسطيني في بيروت. لم يكن ذلك بقرار من ضابط عسكري ميداني، بل كان مخططاً وهدفاً جوهرياً من أهداف العدوان، وبات الأرشيف الفلسطيني أداة تحكُّم واستهداف إسرائيلية للفلسطينيين الكثر، وقد استحوذ عليه الأرشيف الإسرائيلي ووضعه تحت سيطرة دولة الاحتلال ومخططاتها الاستراتيجية في تدمير حركة التحرر الوطني الفلسطيني وتدمير رواية الشعب الفلسطيني ومرجعياته المعلوماتية؛ إننا بصدد احتلالٍ من نوع خاص، وهو احتلال الأرشفة الصهيونية للأرشيف الفلسطيني.
إن دور الأرشيفات الإسرائيلية يشبه المشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي في فلسطين، فالأرشفة ليست عِلماً محايداً، وسياسة الأرشفة هي التكتم على ما يريد أصحاب القوة والهيمنة والرقابة، والكشف عمّا يريدون، وذلك بناءً على مصالحهم. وعليه، فإن الكشف عن وثائق مؤرشفة لمذبحة ارتُكبت بقرار سياسي رفيع المستوى، ليس بالضرورة اعترافاً من أجل الاعتراف، بل أحياناً يكون ضمن سياسة ترهيب الضحايا وردعهم، والقول لهم إن ما حدث في الماضي من الممكن أن يحدث لاحقاً. كما أن الأرشفة تتيح المجال لتلاعُب المشرفين عليها سياسياً، فالكشف عن حدث ما قد يكون جزئياً، وقد يقود إلى التكتم عن جانب أخطر مما يتم نشره.
إنّ روايتنا، حتى وإن استفادت من منالية المعلومات للإسرائيليين، فهي مستقلة عن كل ذلك، إنها رواية بحد ذاتها يريد الإسرائيليون لها الاندثار، إنها رواية الضحايا، أو مَن بقي من ضحايا الطنطورة ولم تطَلْه المجزرة، بل كان مصيره في الحياة أن يكون شاهداً على مقتل أهل بلده، وأن يكون لاجئاً، ولا يهمّ أحد أين يحطّ به التشريد.
جدير أن ندرك أن أول مَن كشف عن المجزرة هي شهادات وحكايات الجدات والأمهات اللاتي عايشن النكبة وكنّ من ضحاياها وضحايا هولها، فلم تكنّ بحاجة إلى أرشيفات وشهادات القتلة، بل كنّ الأساس لما تحدّث عنه العديد من المؤرخين والروائيين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما أن الجدات والأمهات هنّ خير ناقلات للرواية الشفوية لتدب فيها الحياة من جيل إلى جيل. فالمرأة الفلسطينية كانت أجرأ من الرجل في الحديث وحمل التاريخ الشفوي لقصص الهزيمة. وأن نذكر أن المؤرخين الفلسطينيين هم أول مَن كتب وتحدث عن النكبة، وحتى تسميتها بذلك في زمن كان يَحظُر فيه هولها ومنظومة الحكم العسكري الحديث عنها.