الشخصية العمانية بين الهوية الوطنية والانفتاح على الآخر
شيخة الفجرية | كاتبة عُمانية
إنَّه لمن السهل تناول المواضيع التي تتحدث عن الشخصية العُمانية، لأنها شخصية ذات ثقل تاريخيٍ بعيد، تحددت من خلاله سمات هذه الشخصية، وتناقضاتها، وكنهها، وماهيتها. فالشخصية -كما في اللسان لابن منظور- من مادة «ش خ ص» التي تعني سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد، وكل شيء رأيت جسمانه فقد رأيت شخصه. والشخص هو كل جسم له ارتفاع وظهور، وجمعه أشخاص وشخوص وشِخاص. وشَخَصَ تعني ارتفع، والشخوص ضد الهبوط، كما يعني السير من بلد إلى بلد. وشَخَصَ ببصره أي رفعه فلم يطرف عند الموت؛ وفي القرآن الكريم قول تعالى: ﴿واقتربَ الوَعْدُ الحقُّ فإذَا هيَ شَاخِصًةٌ أبصَارُ الذين كفَروا﴾ (الأنبياء، آية 96). وجاء في تاج العروس للزبيدي، أنَّ الرجل الشخيص أي السيد عظيم الخلق. وتشخيص الشيء تعيينه، وشَخَصَ تعني نظر إلى. وتشير الموسوعة الفلسفية بأنَّ مفردة شخص” مأخوذة من الترجمة الفرنسية (Personnalité)، وتعني الخصائص الجسمية والوجدانية والعقلية والنفسية التي تعيّن الفرد وتميزه عن غيره؛ فلكل شخص شخصيّة تخصه دون سواه”. وتعني الشخصية في كتاب شولتز (نظريات الشخصية) بأنها:” التكامل النفسي الاجتماعي للسلوك عند الكائن الإنساني الذي تُعبّر عنه العادات والاتجاهات والآراء”، ولأن سارَ مثلًا تاريخيًا لدى العرب في الجاهلية عن أحد ملوك عُمان، فقيل: ” أظلم من الجُلندى”، فإن لهذه الخصيصة مقابل موضوعي بيّنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، رَجُلًا إلى حَيٍّ مِن أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَسَبُّوهُ وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فأخْبَرَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: لو أنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ، ما سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ _ الراوي : أبو برزة الأسلمي نضلة بن عبيد | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم_ صدق رسول الله، الذي قال عنه الله تعالى في سورة النجم الآية3 :” وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ “.
ولكن ذلك يضع الشخصية العمانية بين متباينات متعددة، فلأن وصِفَ أحد قادتهم بالظلم، فقد وصف الشعب بأكمله كذلك بأنهم لا يسبّون ولا يضربون الآخرين، ثم يأتي ترسيخًا آخر لهذه الشخصية، إذ عوّل الصديق رضي الله عنه على قائد آخر من قادة عُمان، وهو الملك عبد بن الجلندى لقيادة حرب أل جفنة (الغساسنة)، وعليه تولى ملك عُمان قيادة الجيش الذي يضمّ مجموعة من المهاجرين والأنصار لمهاجمة الغساسنة الذين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة نبينا الكريم وفي خلافة أبي بكر الصديق؛ قال حسان بن ثابت لخليفة المسلمين مادحًا عبد بن الجلندى:
” قد شهر مقام عبد في الجاهلية والإسلام فلم أرى رجلا أحزم، ولا أحسن رأيا وتدبيرا من عبد بن الجلندى، فهو والله ممن وهب نفسه لله في يوم غارت صباحه وأظلم صباحه “. فقال الصديق مهللا فرحا: ” هو يا أبو الوليد كما ذكرت، والقول يقصر عن وصفه والوصف يقصر عن فضله”. وما أن بلغ ذلك عبد بن الجلندى بعث إلى حسان بن ثابت بمال عظيم قائلا له: ” إن مالي يعجز مكافأتك، فأعذر فيما قصر، وأقبل ما تيسّر “.
وأمَّا الهوية، فقد لخصها مونتسكيو بـ: “روح الأمة”، وفق مرجعيتها الوطنية والثقافـيـة، المستقاة من الموقع الجغرافي الرابط والمحدد، إذ تقع سلطنة عمان في جنوب شرق شبـــه الجزيرة العربيـة، ممتدة بين خطي عرض16.40 و26.20 درجة شمالاً، وبين خطي طول 51.50 و59.40 درجة شرقاً. تمتد سواحلها لأكثر من3165 كم على بحر العرب ومدخل المحيط الهندي وبحر عمان ومدخل الخليج العربي في مضيق هرمز، ويتبعها مجموعة من الجزر الصغيرة في بحر عُمان ومضيق هرمز وبحر العرب، وتبلغ مساحة السلطنة309.500 كم مربع وعاصمتها مسقط.
أمَّا النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 101/96، فهو يعلو القوانين والتشريعات، لأنه الإطار الدستوري للبلاد، محددًا من خلاله الهيكل العام للدولة ونظام الحكم، بالإضافة إلى نهج المجتمع ومبادئه، التي فُصلت أهدافه وغاياته في ديباجة النظام، حسب المواد (72 و76 و80) منه. إذ تشير المادة (9): ” أن الحكم يقوم في السلطنة على أساس العدل والشورى والمساواة، وحق مشاركة المواطنين في الشؤون العامة”. وتتحصن الشخصية العُمانية بثروة من الكتب والمخطوطات المتعلقة بتاريخها، إذ تربط أهل عُمان بجذورهم الحضارية القديمة، والتاريخ الذي ارتكزت عليه ما يأتي في الأزمنة من تحولات ومنعطفات ورواسخ وثوابت – في الاقتصاد، والرموز القائمة والعينية أو المعنوية، الحقوق والواجبات، القوانين والحريات العامة، القضايا، حق العمل والضمان الاجتماعي والتملّك، حق التعليم، وحق التعبير عن الرأي، وحق الحياة بكرامة -، مرت بأسلافهم على هذه الأرض.
وقد انفتح العماني على الآخر بثقة عالية، وضع لها جسورًا تمشي على الماء بتؤدةٍ واندفاع، فذهب لجلب السلع من موانئ العالم، بعد أن بنى أساطيله البحرية القوية منذ العصور الأكدية والسومرية، وإن كانت جُذُور مصطلح الانفتاح ” تعود إلى الفِكْر الغربي، فأصلُ مادة (فتح) في اللغة الإنجليزية هي (Open)، وهي تأتي لأكثر من عشرين معنى، بحسب تصريفاتها المتعدِّدة”، ومن المعاني الاصطلاحيَّة للمادة (Open door) – أي: افتح الباب أو الباب المفتوح – وهي: “سياسة قوامها حرية التجارة، وإلغاء التعريفات الجمركية، والسماح لمختلف الدول بالمتاجرة مع بلدٍ ما، على قدم المساواة”.
ولعل الشاعر الجاهلي أعشى قيس يقرب صورة انفتاح العمانيين على الآخر منذ البعيد، ففي قصائده يؤكد على لقاءه بالملك الجلندى بن كركر ملك عمان أواخر الجاهلية، وكيف كان هذا الملك يلتقي الملوك والشعراء القادمين إلى سوقي دبا وصحار، وهما من الأسواق العربية المعروفة والذائعة الصيت، يؤمها الشعراء والفصحاء والخطباء آنئذ. يقول الأعشى:
وَصَـحِـبـنـا مِـن آلِ جَـفنَةَ أَملاكاً
كِراماً بِالشامِ ذاتِ الرَفيفِ
وَبَني المُنذِرِ الأَشاهِبِ بِالحيرَةِ
يَــمــشـونَ غُـدوَةً كَـالسُـيـوفِ
وَجُـلُنـداءَ فـي عُـمـانَ مُـقـيـماً
ثُـمَّ قَـيـسـاً في حَضرَمَوتَ المُنيفِ
وبالإضافة إلى أن عمان كانت سوقًا تجلب وتجذب من يريد العمل فيها، يقول الشاعر الأموي عبد الله بن عبيد الله بن أحمد ابن الدمينة (130 هـ / 747 م):
ولَو أَنَّ أُمَّ الغَمرِ أمسَت مُقيمةً
بِتَثليثَ أَو بالخَطّ خَطّ عُمانِ
تَمَنَيَّتُ اَنَّ اللهَ جامعُ بَينِنا
بما شَاءَ فى الدُّنيَا فَمُلتَقِيَانِ.
بعد ذلك، عبرت الشخصية العمانية نحو استحقاقات المراحل التاريخية التي عاشتها، فكان العماني مشاركًا فعالًا في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية، في العهدين الأموي والعباسي، فكان العماني قائدًا للجيوش التي هزمت الخوارج، والقائد العماني المهلب بن أبي صفرة مثالًا، يقول عنه الشاعر أبو نواش:
لأهلِ عُمانٍ في المهلب ثروة
إذا افتخر الأقوام ثمَّ تلينُ
ثم كان العُماني في مقدمة جيوش الصحابة رضوان الله عليهم في الفتوحات الإسلامية، كما هو حال الصحابي صحار العبدي الذي كان في مقدمة جيش الفاروق عمر بن الخطاب لفتح مصر.
ولا يزال العماني معتزًا بهويته العربية، مشاركًا في نشر الإسلام في ربوع الأرض، فكانت آثار وشواهد الشخصية العمانية باقية إلى اليوم فيما خلفه من قلاع وحصون وأزياء وتقاليد وعادات، خاصة تلك الشعوب التي ظلت ردحًا من الزمان تحت حكم العمانيين.
ناهيك عما يعرف اليوم عن الشخصية العمانية من جنوح دائمٍ للسلم والمحبة، فقد عرفت شخصية السلطان الراحل قابوس بن سعيد بن تيمور طيَّب الله ثراه، بأنه رجل السلام الذي أدار العديد من الملفات الصعبة في العالم، على رأسها الملف النووي.
ومن هذا المنطلق، نظم النادي الثقافي محاضرة افتراضية ناقشت الشخصية العمانية بين الهوية الوطنية والانفتاح على الآخر قدمها الدكتور إسماعيل الأغبري، وأدار الحوار مروان الذهلي.
تحدث الأغبري عن مفهوم الهوية الذي يشير الشيء المستمر الذي تغلب عليه الديمومة، وعن أن هناك مجموعة من الهويات، كالهوية العرقية، والهوية الدينية والهوية التي تتعلق بالألوان، وأسهب الأغبري في وصف الشخصية العمانية على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي.
يقول القرطبي في كتابه (المفهم) “يعني: أن أهل عُمان قومٌ فيهم علم، وعفاف، وتثبت، ولأنهم ألين قلوباً، وأرق أفئدة”. وليس أدلَّ من انفتاح العمانيين على الآخر من قول هذا الآخر عنهم؛ وهذا القول كالآتي:
في سنة 1693م زار مسقط الرحالة البريطاني «جون أوفينجتون»، وكان معجباً بأخلاق أهل عُمان فقال فيهم: (هؤلاء العرب مهذبون جداً في تصرفاتهم، وفي غاية اللطف إلى كل الغرباء، فلا أذى ولا إهانة يمكن أن تصدر منهم لأي أحد، ومع أنهم معجبون بدينهم ومتمسكون بمبادئهم؛ فإنهم لا يفرضونها على أحد، وبإمكان المرء أن يسافر مئات الأميال في هذه البلاد دون أن يواجه أي كلام مسيء أو أي سلوك قد يبدو وقحاً). وفي ديسمبر من سنة 1816م قام الصحفي والمؤلف الإنجليزي «جيمس سيلك بكنغهام» بزيارة مسقط وقال فيها: (من الخصائص العظيمة والمميزة لمسقط عن كل بلاد العرب هو ما يُبديه سكانها بكل مراتبهم إلى الأوروبيين من احترام ولطف، هنا يمكن للغريب أن يذهب حراً حيث يريد، وهنا أعجب كثيراً بقيم التسامح لدى العمانيين)، وقال: (يجب أن تُعزى إلى النزعة المسالمة للناس، ولا تميز الشرطة فيها).