قراءة أسلوبية جمالية في قصيدة (رُبا الجَلال) للشاعر إبراهيم الأسود (2)
ثناء حاج صالح | ألمانيا
ونافثةٍ في القلب سحرَ دلالها
على أنها لا تحسنُ النفثَ والسحرا
.
همستُ إليها بالزيارة مَوْهِناً
إذِ الناسُ لا زيداً هناك ولا عَمرا
.
وقلتُ البَسي الليلَ الكتومَ فتمتمتْ
أخافُ النَّمومينِ الخلاخيلَ والعطرا
.
فقلتُ وأُخرى: أنكِ البدرُ طلعةً
وأن ظلامَ الليلِ لا يَستُرُ البَدرا
.
وسلَّمتُ بالحُسنى لدى الحُسنِ مفحَماً
وكنتُ من الغُزّى فصرتُ من الأسرى
المقدِمات الغزلية في قصائد المديح النبوي تقليد شعري ذو جذور تعود إلى ما قبل ظهور شعر المديح النبوي نفسه ، فقد اعتاد الشعراء الجاهليون على ابتداء قصائدهم بغرض النسيب والتشبيب بالمحبوبة، بعد فراغهم من الوقوف على الأطلال. ولم تكن المقدّمة الغزلية في بردة كعب بن زهير (بانت سعاد ) إلا تماشيا مع هذا التقليد الشعري القديم المعروف والمتفق عليه في بناء القصيدة . وكذلك فإن مدائح المتصوفة بدءا من بردة البوصيري في القرن السابع الهجري تمسَكت بهذا التقليد الشعري، والتزمت به إلى حد بعيد. فمن ذلك قول البوصيري:
.
أيحسب الصبُ أنّ الحب منكتـــمٌ = ما بين منسجم منه ومضْطَّــــــرمِ
.
لولا الهوى لم ترق دمعاً على طـللٍ = ولا أرقْتَ لذكر البانِ والعَلــــمِ
.
فكيف تنكر حباً بعد ما شــهدتْ = به عليك عدول الدمع والســــقمِ
.
وأثبت الوجدُ خطَّيْ عبرةٍ وضــنىً = مثل البهار على خديك والعنــــمِ
.
نعمْ سرى طيفُ منْ أهوى فأرقـني = والحب يعترض اللذات بالألــــمِ
.
ولم يخرج أحمد شوقي عن نهج البوصيري في مقدمته الغزلية لـ ( نهج البردة) ومن ذلك قوله:
.
لمّا رنا حدّثتني النفس قائلةً = يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
.
جحدتها وكتمت السهم في كبدي = جرح الأحبّة عندي غير ذي ألم
.
فليس هذا الغزل الشفيف الذي يستجلي كوامن النفس، في تعلقها بالمحبوب، مما ينبغي استنكاره على الشعراء، في قصائد المديح النبوي. ولو كان مما ينبغي استنكاره عليهم، لما صمت عنه الرسول – صلى الله عليه وسلم- حينما استمع لكعب بن زهير:
.
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ = مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
.
وَمَا سُعَادُ غَداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا = إِلاّ أَغَنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
.
هَيْفاءُ مُقْبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرَةً = لا يُشْتَكى قِصَرٌ مِنها ولا طُولُ
.
تَجْلُو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَتْ = كأنَّهُ مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلُولُ
.
وإنما المستنكر فيه هو الغزل الذي ينحو منحى الإباحية الحسية الفاضحة، في وصف جسم المرأة ، مما لا يليق ذكره في قصائد مديح النبي الأكرم. فالشاعر إبراهيم الأسود لم يخرج عن النمط المألوف لبناء القصيدة بمقدمته الغزلية.
ويمكننا أن نلاحظ أن الشاعر قد اعتمد في مقدّمته الغزلية بلاغيا على التورية والكناية ، اللذين أتاحا لهذا الغزل الانضواء تحت لواء الأسلوب الرمزي في الغزل الصوفي .
.
ونافثةٍ في القلب سحرَ دلالها
على أنها لا تحسنُ النفثَ والسحرا
.
يلعب الشاعر في توليفة ألفاظه على وترالمفارقة المعنوية المتأتية من إثباته السحر على محبوبته، ونفيه عنها، في الوقت نفسه. وتبرئتها من نفث السحر الحقيقي تزيد من جمال اتهامها بنفث سحر الدلال ؛ وذلك لأن هذه التبرئة تتضمن اعترافا ضمنيا بطيبتها وطهرها على الرغم من أنها تتعمد سحر القلوب بدلالها .
همستُ إليها بالزيارة مَوْهِناً
إذِ الناسُ لا زيداً هناك ولا عَمرا
.
(الْمَوْهِنُ) حسب معناه المعجمي ، هو نَحْوٌ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ،أو بعد ساعة من منتصف الليل . قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ حِينَ يُدْبِرُ الليل.
وقد همس الشاعر لمحبوبته بتوقيت الزيارة هذا؛ كي يخلو لهما المكان والزمان؛ لعدم وجود من يمكنه مراقبتهما من الناس ( إذ الناس لا زيدا هناك ولا عمرا ) وقد حذف الشاعر الواو الفارقة من الاسم (عمرو) كونه جاء منصوبا منونا.
فيفهم القارئ أن الشاعر يطلب من محبوبته أن تخرج بعد منتصف الليل لمقابلته؛ كونه الوقت الأكثر سترا لهما . ويؤكد على هذا المعنى لإقناعها ، بأن يطلب منها ارتداء اللون الأسود الذي يتيحه الليل لها، فيكون كاتما لحضورها (وقلتُ البَسي الليلَ الكتومَ) .
وقلتُ البَسي الليلَ الكتومَ فتمتمتْ
أخافُ النَّمومينِ الخلاخيلَ والعطرا
.
لقد اختار الشاعر لفظة ( الكتوم ) دون غيرها لوصف الليل ؛ لأنها هذه الصفة تتلاءم بدلالتها المعنوية مع رد المحبوبة على كلامه . فهي تعتذر عن الحضور ولو ليلا ، لأنها تخشى من افتضاح أمرها، نتيجة صدور أصوات الخلاخيل التي تلبسها، وكذلك نتيجة تضوُّع عطرها إذا ما حضرت، فالخلاخيل والعطر سينمَّان عن حضورها. وكان في ردها هذا إبطالا وإضعافاً لاحتجاجه بوصف الليل بالكتوم .
ولا بد لنا من الانتباه إلى هذه العلاقات الدقيقة بين الألفاظ كون الشاعر يعقد عليها الأمل، في إحداث المفارقة المعنوية من الناحية الجمالية؛ لأن السياق هو سياق محاججة وإفحام بين الشاعر ومحبوبته.
.
فقلتُ وأُخرى: أنكِ البدرُ طلعةً
وأن ظلامَ الليلِ لا يَستُرُ البَدرا
.
مطروقة ومستعملة هذه الصورة الشعرية القديمة، التي تصف فشل الظلام في ستر الزائرة الحسناء التي تطرق ليلا ؛ بسبب أنوار جمالها المشعة كالبدر، والتي لا يستطيع الظلام سترها.
ولكن هل يَضعُف المستوى الجمالي للقصيدة بسبب إيراد مثل هذه الصور الشعرية المطروقة والمعروفة ؟
الجواب : العكس هو الصحيح.
فعندما يأتي الشعراء بمثل الصورة الشعرية ، ولكن في مكانها الصحيح من سياق جديد ، وبتوليفة جديدة للألفاظ ، فإنهم يمدون خيوط تواصل خفيَّة وقويَّة مع الموروث الجمالي الجمعي المشترك . ويضيفون للنص طاقة إضافية تتأتى من ألفة المعنى المتفق عليه. ويكون لهذه الألفة المعهودة تأثيرها الدافئ الخاص، الذي يتفوَّق على تأثير الصورة المبتكرة الجديدة والمنعشة بأنه يستدعي الموافقة العفوية التي قد لا يستدعيها المعنى في الصورة المبتكرة.
وإن ما يمنح هذه الصورة المعروفة قدرتها على الإدهاش لا يتعلق في حقيقة الأمر ببنائها الجمالي والبياني ، وإنما بكونها جاءت كمفاجأة قوية ومدهشة في مكانها من السياق، فقد كنا نتوقع أن الشاعر سيحاول الرد على محبوبته بكلام يبطل اعتذارها ويضعف حجتها ، إلا أنه فاجأنا بأنه سرعان ما قام بتأييدها ودعم اعتذارها بما يفيد من قوته من الحجج، ولو على حسابه .
.
فقلتُ وأُخرى: أنكِ البدرُ طلعةً
وأن ظلامَ الليلِ لا يَستُرُ البَدرا
.
وجاء حرف الواو في قوله (فقلت: وأخرى ) ليدل على حِرَفية عالية في إدارة شؤون التراكيب اللغوية، بما يخدم المعاني ويربط بينها بقوة لتظهر متماسكة قلبا وقالبا؛ لأن هذه الواو، حسب ما قبلها، تشير إلى استئناف ومتابعة كلام المحبوبة والعطف عليه. فالشاعر يتخلى عن موقعه المقابل أو المضاد لها (لمحبوبته) وينتقل ليصطف إلى جانبها؛ ليؤازرها في موقفها المعارض له شخصيا.
والسياق الناجح الذي منح الصورة الشعرية القديمة رونقها على الرغم من كونها مطروقة، هو سياق (الإفحام) الذي تُفحِم فيه المحبوبة عاشقَها وتضطره إلى التسليم بالحسنى. ليكون ذلك خيرا له من المضي في المعارضة .
وسلَّمتُ بالحُسنى لدى الحُسنِ مفحَماً
وكنتُ من الغُزّى فصرتُ من الأسرى
.
والتسليم بالحسنى- على غير ما يوحي ظاهر المعنى – يعني التسليم قهرا وتحت التهديد؛ وذلك لأن الدلالة المعنوية الملتصقة بهذا المصطلح الكلامي الذي يأتي في سياق الظُرف والدلال، إنما يستمدُّ من المعنى النقيض له وهو التسليم بالإرغام وتحت الضغط ، فالشاعريسلِم لدى شهادته بحسنها بالحُسنى ، أي: راضيا ودون مقاومة . ولكنه في الوقت نفسه ( يسلِّم مُفحَما ) أي: أنه مغلوب على أمره . وهذا هو مصداق قوله ( وكنت من الغزى فصرت من الأسرى ) فقد كان من الغزى / الغزاة عندما بدأ الكلام ، ووجه الشبه بينه وبين الغزى أنه هو من بدأ وبادر بالكلام، والغزى هم من يبادرون بالغزو. ولكن مصيره انقلب مع اختياره التسليم بالحسنى، ورأيناه يغيِر موضعه، ليُعثَر عليه في صف المحبوبة : وكأنه أٌخِذ عنوة ، فكأنه صار من الأسرى بانتقاله إلى صفها .
وسلَّمتُ بالحُسنى لدى الحُسنِ مفحَماً
وكنتُ من الغُزّى فصرتُ من الأسرى
.
ثم إن الشاعر بعد أن اعتذرت حبيبته عن اللقاء أخذ يعاني من شدة الشوق ويبحث عن سبل اللقاء ، حتى أنه بدأ يفكر بالذهاب إلى ديار المحبوبة والاستقرار فيها ليكون في جوارها ، ولو لم يتوفر له من وسيلة لتحقيق هذا الجوار إلا بالذهاب إليها سيرا على هامته ( أي على رأسه ) لا على قدميه .
.
وشَقَّ عليَّ الشوقُ حتى لَسَرَّني
الجِوار ولو إلاّ على هامتي سَيْرا
.
وقد كان الذهاب إلى الحجاز سيرا على الأقدام من نذور الفقراء ، في العهود القديمة ، من أبناء بلاد الشام، أو غيرها من البلدان البعيدة عن الحجاز، أو عندما تشتد الرغبة بالفقراء إلى الحج ، ولا يجدون وسيلة أخرى ، لشدة فقرهم . وإلى هذا تشير دلالة الكلام عند الشاعر في قوله ( ولو إلا على هامتي سيرا ) فهو يريد المبالغة في التعبير عن شدة رغبته بكونه يفوق أولئك اللذين كانوا يسيرون سيرا على الأقدام ، بأنه مستعد للذهاب سيرا على هامته / رأسه .
ولا يخفى ما في هذه المبالغة الرائعة من جمال لأنها من أحد وجهيها تعبر عن فكرة أنه لم يسبقه أحد برغبة تفوق شدة رغبته من الأولين . وتعبِر في وجهها الآخر عن معنى الانكسار والطاعة واتباع المحبوبة، مهما بلغت شدّة المشقة في تحقيق الوصول إليها .
لكن هذه الرغبة الشديدة بالتقرب/ الزلفى من حمى المحبوبة وديارها، تبدو في الواقع غير ممكنة – مهما كان استعداد الشاعر للتغلب على الصعوبات قويا – وذلك بسبب بعد المسافة بين الشام حيث يسكن الشاعر وبين القبة الخضراء التي تأتي هنا كناية عن المحبوبة نفسها، بعد أن كانت المحبوبة كناية عنها.
وأَنّى لِيَ الزُّلفى إلى ذلك الحِمى
وشَتّانَ بين الشامِ والقُبَّةِ الخَضرا
.
ما أن يذكر الشاعر ( القبة الخضرا) في هذا البيت حتى تلوح لنا من جديد تقنية أسلوب التورية، وتنكشف لنا بها وعبرها مقاصده المبطنة في مقدمته الغزلية، والتي لم تكن المحبوبة فيها سوى( القبة الخضرا) نفسها والتي يكني بها ( بقرينة السكن ) عن شخصية الحبيب الممدوح صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلًّم.
.
ومن حيث البنية الفنية ، فإن الشاعر يتدرج من خلال البيتين الأخيرين أعلاه عبر تقنية (حسن التخلص) من غرض الغزل إلى الغرض الأساسي، وهو مديح خير الرسل. ثم يصل إلى التغني بتلك الأماكن المقدسة التي لامس قدم الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومَن لي بهاتِيكَ المَغاني أجوبُها
لَعَلّي على أعتابها أسفَحُ العُمرا
.
وأُحرِزُ غُنماً مِلءَ عينَيَّ من ثَرىً
أنا مُعدِمٌ منه وغيريَ قد أثرى
.
هي أمنيات الشاعر في أن يتمكن من (أن يجوب تلك المغاني ) والتي يدفع مقابل تحقيقها عمره كاملا ، ويتحقق بهذا المقابل المدفوع وهو العمر إحراز الغنيمة التي تتمثل بملء العين بمنظر ذلك التراب، الذي يغبط الشاعر غيره على ثرائه من رؤيته، في حين أنه هو يعاني من الفاقة والحاجة إلى مجرد النظر إليه. ولكن كل تلك الأمنيات والتداعيات لن تكون ممكنة إلا بالتعجيل في بدء الرحلة نحو القبة الخضرا.
يبدأ الشاعر بالتحضير لرحلته فيمتطي صهوة الشوق ..
.
بلى وامتطيتُ الشوقَ وهو نجيبةٌ
إذا دَوَّهَ الحادي بها تقطعُ الدَّهرا
.
ولكن الشاعر يكون على عجلة من أمره في تنفيذ هذه الرحلة فيفتقد إلى الصبر في إنجازها. ويلجأ هنا إلى الكناية ليشخصن الصبر، ويشبهه بالإنسان الذي يطمع بمرافقة الشاعر، ليكون صاحبا له في رحلته، فينهره الشاعر ويخيب أمله قائلا : ( لن تستطيع معي صبرا ) وهي قولة العبد الصالح لموسى عليه السلام التي يصدق فيها ظنه .
.
وأزمَعَ صبري صُحبتي فنهَرتُهُ
وقلتُ له: (لن تستطيعَ مَعِي صَبرا)
.
فإذا كان الصبر نفسه لا يستطيع مع الشاعر صبرا فمن يستطيع ؟ وما مدى هذه اللهفة للقاء الحبيب ، والتي تفوق قدرة الصبر على الصبر عليها .
ز
ويَمَّمتُ من أُمِّ القُرى نُجعةَ القِرى
سَنا الحَجَرِ الأسنى وزمزمَ والحِجْرا
.
تم يتوجه إلى أم القرى مكة المكرّمة فيتوافق وصوله الذي يقفز في الزمن خلفا مع ليلة هبوط الوحي على النبي محمد في غار حراء ليأمره بالقراءة التي ينبغي لها أن تكون فخر هذه الأمة .
لدى كان جبرائيلُ وافَى محمداً
وأَقرَأَهُ بالوحي عن رَبِّهِ (إقرا)
.
وعَمَّدَ خيرَ الرُّسْلِ في خيرِ أُمَّةٍ
فقلَّدَها عِزّاً وتوَّجَها فَخْرا
.
وأذهَبَ عن عَبْسٍ وذُبيانَ حَيْفَها
وتغلبُ قد آخَتْ شقيقتَها بَكْرا
.
وكان من نتائج هذه الدعوة للقراءة زوال الشقاق والعداوة ودعاوي الجاهلية بين القبائل التي كانت تعيش في ذلك الوقت على الثأر والحروب ونشر بينها سلام الإسلام ومحبته وإخاءه.
.
وكانت في دعوته إبطال لكل باطل ونصرة لكل حق وتأصيل جديد للتوحيد يستأصل الشرك والكفر اللذين كانا سائدين وقتها من خلال عبادة الأوثان .
.
وأبطَلَ في كلِّ الدُّنا كلَّ باطلٍ
وأصَّلَ للتوحيدِ واستأصَلَ الكُفرا
.
ولا وثَناً فيها يُقَدِّسُ مثلَهُ
ولا ثَوْرَ في أرجائِها يَعبُدُ الثَّوْرا
.
يمارس الشاعر السخرية في هذا البيت من خلال وصفه عبدة الأوثان بالأوثان . فالوثن يقدِس مثله . وهذه الوثنية في الأشخاص تدل على تحجر عقولهم وعدم قدرتهم على تغيير عقيدتهم الفاسدة لأنهم متحجرون ذهنيا ونفسيا . وكذلك فإن ما قلناه عن صورة الوثن الذي يقدس وثنا ينطبق على صورة (الثورالذي يعبد ثورا) من حيث الجهل ، وعندما يكون المعبود حيوانا .
وأَلْقَحَ ظَهْرُ الغيبِ في بطنِ مَكَّةٍ
أَجادِبَ إبراهيمُ أودَعَها البِذْرا
.
بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعود في نسبه إلى إسماعيل عليه السلام والذي تركه أبوه إبراهيم عليه السلام مع أمه هاجر في صحراء مجدبة ، فإن شاعرنا يكشف لنا عن حقيقة وقت ظهور تلك البذرة التي زرعها إبراهيم وهي ولده إسماعيل في تلك الصحراء المجدبة . وما تلك البذرة إلا خروج النبي صلى الله عليه وسلم من ظهر الغيب ليضيء ذلك الزرع الفضاء بنور الوجدان والفكر .
وأَلْقَحَ ظَهْرُ الغيبِ في بطنِ مَكَّةٍ
أَجادِبَ إبراهيمُ أودَعَها البِذْرا
الطباق الجميل الحادث بين اللفظتين ( ظهر وبطن ) في هذا البيت جاء بمعنى غريب أقرؤه لأول مرة ، وبنى صورة شعرية جديدة تصوِر عملية التزاوج بين الغيب بوصفه ذكرا يأتي الإلقاح من ظهره ، وبين مدينة مكة بوصفها أنثى وموضع الإلقاح في رحمها ( بطنها ) هي الأجادب التي أودع فيها إبراهيم بذره ( وهو ولده إسماعيل عليه السلام ) . فهذا الإلقاح بين الزوجين ( ظهر الغيب وبطن مكة ) أتاحه إبراهيم عليه السلام في إيداعه بذره في تلك الأجادب . وأرى الصورة غريبة ، والمعنى معقدا إلى حد ما ، فهو لا يُفهم سريعا من القارئ غير المتأني.
.
.وأَلْقَحَ ظَهْرُ الغيبِ في بطنِ مَكَّةٍ
أَجادِبَ إبراهيمُ أودَعَها البِذْرا
.
ويأتي قوله ( ظهر الغيب ) على سبيل التورية أيضا ؛ لأنه تعبير شائع يُستخدم كمصطلح كلامي عند وصف الدعاء ، فيقال ( الدعاء بظهر الغيب ) ويراد منه ( في الخفاء ، ودون علم من أحد ) فكما لو أن كلمة ظهر هنا تعني هنا ( من خلف الظهر ) . بيد ان المعنى الظاهر للفظة ( ظهر ) في هذه التورية هو الظهر المعنى نفسه الذي جاء في الآية الكريمة ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ……….الآية 172/ الأعراف ) وذلك بقرينة الفعل ( ألقح ) ، وأيضا بقرينة لفظة ( بطن ) التي تطلق على رحم المرأة عند حملها . ويكون المعنى الخفي هو (ظهر الغيب ) بمعنى ما حدث في الخفاء من تقدير الله وقضائه أن يضع إبراهيم عليه السلام بذرته في بطن مكة المكرمة .
.
فما كان إلا رَيْثَ (أخرجَ شَطْأَهُ)
فضاءَ فضاءٌ نَوَّرَ الحِسَّ والفِكرا
.
الريث كالتريُث ، والشطء : هو أول ما يبدو من ورق الشجر عند نباته . وإنني لا أجد ها هنا رابطا قويا بين فكرة الصدر وفكرة العجز ، وذلك لأن الضياء الحادث في العجز ليس من خصائص النبات وليس من نتائج إخراجه شطأه . وهذا الفضاء الذي يضيء فينور الحس والفكر هو من مستلزمات بزوغ الأقمار والنجوم وليس من مستلزمات نبات الأشجار . فالرابط المعنوي البياني بين الصدر والعجز ضعيف . إلا أن ما يرفع مستوى البيت قليلا هو الجناس التام بين الفعل الذي زيدت فيه الفاء الاستئنافية ( فضاء ) والاسم (فضاء) فهذا الجناس -وإن كان مجرد زخرفة لفظية – فإنه يرفع مستوى البيت قليلا لأنه يصرف الانتباه عن انقطاع الصلة المعنوية بين الصدر والعجز .
.
يتبع إن شاء الله
.