نور بلا قيود سّجان في الصّوفية
روان أحمد خليل شقورة
تعثرت بي الكلمات للكتابة في لحظة الصّفاء، فأخذتُ أتأملها بروح النفس، فعثرتُ حينها على نور الوجد، فخطتها يدي في ساعة سكون السّحر؛ لعلها تُعطيني بصدق مِن أسرار صوفِيتها الكامنة في اللامرئي، بل الموجودة في خلق الروح الخالدة الغيبيّة… وأمام ناظري كتاب (تأملات في الصوفية الجمالية) للكاتب جواد العقاد.
– تحليل العنوان:
عند الوقوف على عتبة العنوان، نرى كم حاجتنا إلى هذا النوع مِن طريقة الفكر، فقد ساق العنوان بمضمون يُوحي بمدى الوعي العقلي عند انتقاءه كلمة “تأملات”، فالتأمل في اللغة: تأمل فكرة، أو حقيقة، أو أمر، فهنا يعرض الكاتب وجهة نظره بفكرٍ عميق متأمل دون الأخذ بقول الآخر دون نظر، وجاءت الكلمة جمع؛ لدلالة على الإحاطة الشاملة لجوانب الفكر الصّوفي المطروح، وغُزل المعنى السِّياقي المؤكد لدلالة افتتاح العنوان بحرف الجر”في”، الذي يفيد الظّرفية في اللغة، لدلالة على الولولج والدّخول في العمق الفكري، ثُم بزغ عما يُريد الحديث عنه بمجروره “الصوفية”، الذي جاء معرف؛ للعموم والشمول لذلك المذهب، وأحسن الوصف باختياره شبه الجملة الضعيفة؛ لضعف وهشاشة اعتقاد العامة عن الفكر الصوفي، ثُم تجلى مذهب الكاتب بوضوح بكلمة “الجمالية”؛ لدلالة على وصف الجمال الشّعري وخياله ومجازه في ذلك الفكر، والتعبير عنه دون الحكم عليه بالكفر والزندقة.
– المعنى اللغوي والدلالي:
عرّج الكاتب للمعاني اللغوية والدلالية للفكر الصوفي، ورجح الدّلالة اللغوية إلى الصّفاء؛ لاعتبار الصّوفي هو العاشق، فالعاشق لا يُكدر فؤاده أي وَحِل شعوري، لكنّي مِن وجهة نظري أرى أنّ الصوفي، تقرأ بعدة معاني فقد تكون بالمعنى اللغويّ مِن الناحية الاشتقاقية مِن الصوف، وهو اللباس، وهنا يستحضرني قول الله:” ولباس التقوى ذلك خير”، فاللباس ليس بالمعنى السّطحي المتعارف، فاللباس يكون اكتساء الجسد بالشعور الصّوفي الناقي المغمور بالطّهر الوجداني.
كما أن هناك نقطة هامة لم يتم التطرق لها، وهي أن أل في كلمة الصوفي، ليست أل التعريف، بل هي أل الاسم الموصول بمعنى الذي( الذي صوفي)، فقد صافى الله فصافاه الخالق، فأصبح حبيب ومحبوب في آن واحد.
– الزهد والتصوف:
فرق بين الزهد والتصوف، فالزهد، هو الانقطاع عن الحياة والتقشف منها، أما التصوف، فهو العشق الإلهي وعبادته دون رغبة أو خوف، لكن أرى بأنّ الزهد نتيجة حتمية لتصوف، وهذه التفرقة ما هي إلا تجزئة مفاهيم ليس إلا.
– مضامين الفكر الصوفي:
لقد ترافع العقاد مناصراً لتلك المضامين، فقد طرحها(وحدة الوجود، الحلول والاتحاد، الحب الإلهي) ثُم تحدث على المغالطات التي فُهمت لها عبر التاريخ، ثُم فندها بفكره المتأمل، حيث اتبع المنهج التحليلي، لكن أرى أنّ كل مضمون يستدعي الآخر، فالوجود هو الإله، وهذا الوجود حلّ واتحد بقدرته على كل مخلوقاته بقدرته، فقد ظهرت عظمة الخالق في كل ذرة في خلقه، فتأمل الصّوفي بخياله وفكره وروحه النابضة، لذلك الوجود فعشق الواجد وامتزج بروحه، كامتزاج عاشقين في بدنٍ واحد، فهو استغراق المشاعر إلى حد الفناء بالآخر، وهنا العشق المعنويّ، وأستحضر ما أنشده الحلاج: روحه روحي روحي روحه*** مَن رأى روحين حلت بدنا.
لكن أرى أنّ هذا المعنى للعشق، هو معنى تأملي لنصوص في روح مضامين فكرهم دون الوقوف على قشور الظاهرة مِن الكلمات، وقد يكون معناها الظاهر تسرب عبر الأجيال، حيث تم الأخذ بظاهره لنص، ولا أُجزم القول في ذلك.
– علاقة التصوف بالفنون:
دار قلم الكاتب في ثنايا طقوس الصّوفي، فالفن هو الخيال والحرية والانعتاق مِن كل ما هو قيد، وهذا جوهر الفكر الصّوفي، حيث الانعتاق مِن الجسد ومِن كل ما هو ملموس، والامتزاج بالروح والعاطفة إلى الأفق الروحي الخالد المعشوق بوساطة (الرقص، الموسيقى والغناء، الفن التشكيلي).
وظهرت العلاقة بالفن حتى بالأشعار التي تم تسطيرها مِن قبل مَن تبنى الفكر الصّوفي، وأستحضر قول جبران خليل جبران: وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود.
فقد انتقى آلة موسيقية (النّاي)؛ لتعبير عن الوجود، ولكن كانت مغالطة حينما قيل مِن الشّعراء أنّ الناي يرتبط بعودة الطبيعة إلى نظرتها الأولى، النقية مِن الماديات، فقد صرح ميخائيل نُعيمة، أن جبران قصد بالناي ( الإله) فهو رمز للخلود الأبدي.
– نماذج مختارة:
في نهاية تأمل الكاتب، بعد ما استفاض بل ترافع عن هذا الفكر، اختار بعض النماذج ( مأساة الحلاج، مري كالغريبة بي، المرآة أشبهني، عزم)، وقد حلل تلك النصوص بجمالية خيالية واعية لصورة الشعرية، وكأنّه امتزج بنص الشعر والشعر النثري؛ ليكشف عن دلالته.
وقد استوقفتني عبارة مِن الكاتب حين قال: “ليست مهمة الشعر والفن بعامة قول الحقيقة، إنما مهمته الأساسية التعبير عن الألم والمعاناة، وما أشبه معاناتنا بمعاناة ذلك الشيخ”.
حيث هنا دار في نقطة مُفرغة، فما قول الحقيقة سوى التعبير عن الذات، فالألم والمعاناة هي جزء مِن الذات، فهي إذن جزء من الحقيقة، فقد ترافع الكاتب عن ألم الحلاج الداعي إلى العدل في ظل انتشار الظلم السياسي والشعبي، إنّه الصّراع بين الحق والظلم، وهذا الصّراع أزلي أبدي لن يزول ما دامت الحياة، فدافع عنه وكأنّه يُدافع عن ذاته وواقعه، وهذه مُغالة بعيد عن الموضوعية، فعلى الكاتب أن يبتعد عن الذاتية فيما يبحث، ولا أقول أن يتجرد مِن ذاته ومعتقده كآلة إلى الأفكار والمعتقدات،؛ لأنّه يكون حينها ضرباً مِن الخيال، ولكن يبتعد عن الذّاتية بقدر المُستطاع.
وفي نهاية حبري، أخطو بحقيقة عن كل كاتب مُتأمل، ألا وهي أنّه ما هو إلا فكرة وموت…