حكايا من القرايا.. عطيّة صينيّة
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
سبحان الله! في كثير من الأحيان، كان الأهل يرتّبون الزواج ويعقدونه دون تدخل الزوجين صاحبيْ العلاقة… والسبب أن الزوجين ما زالا طفلين… لا يملكان رأياً…
عندما ولدت سليمة، كان والدها يجالس أخاه الحج محمود تحت العريشة، بشّرته بها الداية الحجة حليمة فوعدها بتحلاية مرتبة… بارك الحج محمود المولودة الجديدة… ووضع يده في يد أخيه مصافحاً… فقال أبو سليمة” هاي خيي محمود، سليمة… أعطيتها لابنك أحمد… هدية ما من وراها جزيّة” … وانتشر الخبر في أرجاء البلدة… الطفلة سليمة أعطيت عطية صينية لابن عمها أحمد… وراحت كلمة أبو سليمة طابو بين الناس…
أحمد يكبر سليمة بخمسة أعوام، درس في الكتّاب ما تيسر له، وفي العاشرة من عمره، باشر بتعهد أغنام الوالد وأبقاره… يرعاها صباحاً حتى العصر… ثم ينطلق مع أصدقائه بعد العصر للهو واللعب… إلا في مواسم الحصاد، أو جمع الغلة، أو قطاف الزيتون… فكان يتبع أهله في حقولهم يساعدهم في العمل…
ما أن وعت سليمة على الدنيا، وهي تعرف أن أحمد هو زوج المستقبل، فكان يحمرّ وجهها إذا لاقته صدفةً، وتذوب خجلاً وتهرب إذا حاول أن يكلمها… وما أن أصبحت يافعةً حتى صارت تساعد أمها في أعمال البيت، كما تساعد أحيانا في أعمال الفلاحة…
الكل ينتظر سليمة حتى تكبر، ويسنّنوها حسب التقويم القمري لتزداد بضعة شهور، ويكتب أحمد كتابه الشرعي عليها… وينتظرون فرحة كبيرة… لكن الزمان كان يجري، والبين يجري… ذات يوم، دخلت مفرزة من الجندرمة التركية القرية عصراً… واصطادت أحمد الشاب، واعتبرته فارّاً من الجندية… اقتادوه معهم، ورآه الناس وهم يقتادونه وأخذوه… أخذوه… أخذوه إلى لا يدري أحد أين… فالبلاد قارّات… والجهات الأربع… جبهات قتال… وأحمد وأمثاله جنود هذه الجبهات… والحياة كلها أصبحت فراق وسفربرلك…
حزنت سليمة، ” أجت الحزينة تفرح ما لقيت مطرح “، وحزن أهلها، وحزن أهل أحمد… وناحت الأمهات على الفراق… وغاب أحمد… شهر… وشهرين… وثلاثة… وسنة… وسنتين… وثلاثة… غاب… غاب الشاب… ولا أحد يعلم عنه شيئاً هل هو في أرض أم سماء… حي أم ميت… وتردح أمه وتنوح… ويستحيل العرس في تناويحها إلى جنازة…
تنتظر فاطمة… هل يأتي؟ علّه يأتي… وتدعو الله أن يعيده سالماً غانماً… وأهل البلدة يظنون أن الله قد أخذ أمانته، وأن أحمد قتل، وجسمه تجندل في الصحصحان تناوشه جارحات الفلا… ومع هذا لا يتجرؤون على خطبة الفتاة لأبنائهم… فهي مخطوبة على الصينية… بعد السنة الرابعة جاءهم أول خاطب، فكر الوالد، ورفضت سليمة… وبعد شهر تلاه آخر… فكر الوالد ورفضت سليمة… وتوالى الخُطّاب… وسليمة كالقمر الحزين… في السنة السادسة لم يكن هناك مجال لعودة الغائب، وافق أبوها على الخاطب ابن المختار… خليل ولد راق متعلم… وافقت سليمة على مضض بعد جولات إقناع…
وكأنها خريفية، قبل مجيء الجاهة بيوم واحد، انقلبت البلدة فوقاني تحتاني، عاد السندباد، ظهر المختفي المنتظر… عمت الزغاريد الفضاء، واعتذر أبو سليمة ولحس كلمته بخجل، لكن ابن العم بنزل العروس عن الفرس… وأحضر أحمد الشيخ، ووجهاء من القرية وعقد قرانه… وسليمة تشكر الله وتحمده وكأنها غير مصدقة ما يجري…