سجلات حقيقية من حياتي

عبير السيد | مصر – فلورنسا

كنت أنظر بحذر، كعصفور صغير يقاوم رياحا عاتيه ستهب قريبا، هي أستاذة وكاتبة وصحفية لامعة في الغرب، لا تكل ولا تمل من الرحيل هنا وهناك لترويج بضاعتها مع منظمات السلام الأكثر شهرة وقوة! أرسلت لي أستاذتي وكانت عضوا في نفس المنظمة  ودعتني لحضور اللقاء “أنت عربية وحضورك مهم.. “.. طرت من الفرح  هو لقاء الكبار وأنا مازلت تلميذة صغيرة وسط هؤلاء وبالتأكيد فإن الموضوع شيق جدا..”ثقافة السلام”

هو يتناسب جدا مع قلب العصفور الأخضر الذي يحتل كياني.. هو يتناسب مع دموعي التي تنهمر كلما رأيت بائس أو مسكين أو مهاجر أو لاجيء يصارع شتات الحياة  ويليق ببكائي طوال الطريق من ساحة “سانتا كروشي” إلى “سانتسيما انونسياتا” قريبا من  ميدان سان ماركو حيث حضانه ابني الأصغر ولن أنسى أبدآ هذا اليوم .. هذا الرجل الضخم الذى رآني في الحافله وأنا أحمل طفلي الصغير ونظر في عيني الممتلئة بدموع  حمراء بنظرة طويلة حانية وتحدث بأعلى صوت “إن هذا العالم ليس إلا ” ميردا “!! هي كلمة ليست جميلة قطعا، ولكنها فعلا تصف هذا اليوم الحزين إنه لم أنساه أبدا من أيام شهر مارس 2003م…

 كانت أمريكا  تهدم إحدى القلاع العربية “العراق الحبيبة”.. نعم كان التاريخ يسطر واحدة من أقذر الحروب المسبقة  بالفرقه والاجتياح”.. وكيف لا والتاريخ قد سجل مع كل رئيس جديد منهم ما سجل من دماء وحروب ولكل منهم بصمة خراب في العالم”.. هو التاريخ لُعب قذرة  ومتاهات  لم يخرج لنا أبدا الحقائق عاريه كما أخبرونا أنه “يوما ما ستخرج الحقائق عارية” !!

أعود إلى  مؤتمر السلام الذي دعيت اليه بعد ذلك بسنوات، هو يتناسب مع هواياتي التطوعية في خدمة الجمعيات المهتمة بالأيتام والمساكين وعملي في مكاتب الهجرة واللجؤ ويتناسب مع ما أسمع من مآسي وآلام، أنا التى لم أعرف عن الحروب في طفولتي إلا أثر رصاصة فرقت شعر أبي الأسود عن بعضه فكنت أضع أصبعي في الحفرة البيضاء التي يغطيها بالشعر واسأله، ما هذا يا بابا؟ فيعود لسرد رحلة شبابه الطويلة التي ضاعت ما بين حروب اليمن  وسيناء قائلا إن “الواحد منا تمنه رصاصة وكله يهون من أجل الوطن”  انتبهت على صوت أستاذتي وهي تؤكد علينا

إن الحروب تبدأ أولا من الداخل”

الحروب تراكمات عديدة”

الحروب والغضب والصراعات! 

أغلقوا أعينكم في رحلة اكتشاف الحب والسلام الداخلي؟ نغلق أعيينا عده دقائق كما طلبت!

بما تشعرون؟ تسأل

أجيب! كلنا ولدنا بينابيع الحب داخلنا فقط علينا إن نكتشفه

علينا أن نحب السلام

هناك في أعماق الروح كلنا لدينا السلام،

لكن من أين تأتي الحروب؟ أعود واسألها ماذا لو اختفت الحروب من الأرض؟ طبعا هذا الفكر الذي لا يتجاوز فكر مراهق صغير يكره الحروب لا يليق بأن يكون سؤالا لأستاذة تتحدث عن السلام، لكنها تجيب على مضض! لا!  لن تختفي، فبعض الحروب ضرورية!

والحياة لن تستمر بغير حروب، أفكر قليلا واتذكر “لولا دفع الله الناس.. لفسدت الأرض ..إذن بعض الحروب ضرورية! انظر إلى الأرض! لكن شيء ما داخلي غير مقتنع، الطفلة الصغيرة بداخلي تسأل، لماذا يجب أن تكون الحروب ضرورية؟

اصمت عندما يستفيض الحديث…فلن أعثر على إجابات غير مايرردوه دائما! وها قد اقتربت من إنهاء دراستي وسأحصل  على ماستر ثقافة السلام قريبا الى جانب ماستر إدارة الصراعات “… إذن سأذهب إلى الندوة، ربما أجد إجابة، أو اعرف الطريق إلى المدينة الفاضلة التي أريد!

ذهبت ولم أتخل عن  ملابس سوداء أنيقة مثلهم، اللون الأسود الانيق يزيد المكان جمالا.. الكافية الأدبي  الكلاسيكي الفيورنتيني، مكسو بالزهور بما يليق بفلورنسا عاصمة الفن والسحر والجمال.. كل شيء يليق بالحديث عن السلام، بدأت الكاتبة الشهيرة جدا الحديث عن مفاهيم السلام، تعاريف السلام، فوائد السلام، ضرورة السلام.. أحاديث طويلة، لم أجد بينها صرخات الأطفال، لم أجد بينها، الأمهات الثكلي ،لم أجد بينها سيطرة القوة، القهر، لم أجد ما يقنع الطفلة القابعة داخلي!

فجأه وقد اقتربت الندوة على الانتهاء وسط التصفيق والإعجباء من قبل الضيوف والضيفات الانيقات، وجدت نفسي وقد احمرت عيناي وبدا بركان ما على وجهي أرهق نفسي كي لا ينفجر!

سيدتي هل لي بسؤال؟

كان صوتي حزينا يجاهد الغضب!

طبعا بكل تأكيد! تفضلي وعرفي بنفسك! أجاب منظم الندوة!

أنا عبير مهاجرة من أصول عربية، أدرس ثقافة السلام مع الأستاذة…!!  وأعيش هنا منذ سنوات طويلة!

لقد تحدثت حضرتك في كل شيء، وكأنك اصطحبتينا في رحلة عبر سماء المدينة الفاضلة، سيدتي أنا أريد أن تهبطي معنا إلى أرض الواقع وأن تبسطي لي الأمور أكثر بوضع رقم واحد فقط ..”من صفر إلى ١٠ ” ما هي حقيقة ما تناولت على أرض الواقع؟

صمت غريب!

لحظات طويلة رغم أنها ليست إلا ثوانٍ ..

تغّير وجه السيدة الشقراء فارعة الطول والأناقة..حتى إني سمعت وشوشات الزهور القلقة في أركان القاعة المزدانة بلوحات لا تقدر بثمن.. أخيرا أجابت

رغم أني لم أكن أود أبدا أن أسمع هذا السؤال إلا أني أحييك على شجاعتك في طرحه !

طلبتِ منى رقم واحد فقط

الحقيقة وبكل المقاييس الرقم الذى طلبتيه هو” صفر “

وسط قلق أستاذتي، حملت حقيبتي وانصرفت وتركت الجميع يهنئون بالبوفيه الأسطوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى