شمس في منتصف الروع.. قراءة في مروية الأديبة بشرى أبو شرار

وليدة عنتابي | سورية

” بشرى أبو شرار نفس إبداعي ّ فريد في عالم المرويات “

من كوّة في جدار التداعيات التي هدّها الحنين, تطلّ علينا الأديبة  بشرى أبو شرار بماضوية ترخم قرب الوجدان الحيّ لزمن مجتثٍّ من ذاكرة  شعب شتته ليل غادر, حيث  الإهداء: (إلى مدينة الحلم الطويل.. غزّة).

 من خلال مرويتها التي ترصد مشاهد حيّة لشخوص تنمو وتتغير تحت ظلال شمس ضالعة في السطوع , تطالعنا  بلغة  سردية  تضارع أفعالها زمناً يأبى أن يرزح تحت وطأة ماضٍ طاعن في الغياب. لذاكرة جمعية  ما تزال ترفل في برد أصالتها  رغم اغتراب واستلاب .

حيث ترسم مشاهد مدينتها بريشة حية نابضة لم يعتورها سهو ولا شتات, في زمن ما قبل نكسة حزيران 1967م.

فهو في مخيالها اليقظ حاضر بالفعل وليس بالقوة وحسب, يدهشنا الفعل المضارع بعنفوانه وحيويته وقد أمسك بناصية المسرودة محمكاً قبضته, مطلقاً جهاته إلى غير مستقرٍّ لها.

تندرج شمس بطلة المروية في نماء طفوليٍّ مفتوح البصيرة على طبيعة دامجة لمشاعرها الغضّة في تلازم الحسّي والروحيّ , فهي بعفويتها  تنفتح بمدارك فوق آنيّة  , تلتقط ما تفلّت من  خيوط   نسيج اجتماعي  لحمته الأعراف وسدته الموروث بكل ما يحمله من أصالة, تكاد تنساح في شتات محكوم  بآلية مرعبة لزمن فقد براءته وبالتالي إنسانيته.

بيد أنّها وهي  الأديبة المحمّلة بوعي رسوليّ , والمترائية في سماء وجدها وولعها برصد الطبيعة وكائناتها اللطيفة  , بكل مكوناتها  من أشجار وجبال ومياه وأماكن , تشكل فيها وعيها وتبلورت من خلالها شخيصتها.

تقف دون أن ينالها نصب وراء الساردة, دافعة لها في اجتياز الوقت , منتقلة بها ضمن عربة شخوصها الأثيرة والحميمة, الأسرة والجيران والأصدقاء , وصديقات الطفولة واليفاعة, حيث يتم تصوير كل شخصية منها, بحساسية المراهقة وانتباهها الفطن وإدراكها المغاير للآخرين, بلغة تنساب كجدول  ألق يرتسم في الأذهان لوحات آسرة لطبيعة ساحرة.

تختال فيها تفاصيل دقيقة لحيوات مشغوفة بخصوصيتها وتطورها, تلك الحيوات الأنثوية بأسرارها وبراءتها ودقائقها المشغولة بآنيتها على الدوام , غير آبهة لماض أو مستقبل.

غير أنها لا تنفك عن تساؤلاتها القلبية بينها وبين ذاكرتها، لتلك التحولات والمتغيرات  وهي المشغوفة بالتميز والاختلاف عن الأخريات من لداتها وأخواتها, تراها تشخص بعين وعيها إلى ذلك البيت العتيق حيث:

(لم تنس شمس في رحلتها بين الدروب أن تصعد بنظرها لآخر حافة السور، ويوم لن تنساه.. وليلة هد الفزع منامها، لحظة رأت فتحات السياج وقد سدت بألواح خشبية رمادية متربة، ولم يبق منها أي منفذ لترى ما كانت تراه.. صرخت لبيت لم سياجه ومضى عنها..) .

تلك الروح المرهفة لفتاة تشاكس الأزهار وتطارد الفراشات وتوغل في تأجيل ملامح أنوثتها تحت مظاهر صبيانية, في رفض لاواعٍ لنواميس تفرضها طبيعة الأنثى , لكنها تمتثل أخيراً لحكم الطبيعة , مستمرة في  إخفاء أنوثتها إلى  حين.

لم تكن شمس كباقي أخواتها يرهبها صوت الأب , فهي  أثيرة لديه ,كما هي محط اهتمام الجد .

تمتلك حسّاً مغامراً بتجريب المخاطر واكتشاف المجاهيل , فلها مع سلك الكهرباء رعدة مرمضة كادت تودي بفضولها .

لم تعفها دقة ملاحظاتها وسلوكها الراصد لكل كبيرة وصغيرة من المشاركة في تقلد أعباء مسؤوليات فرضتها الأنظمة المدرسية .

تصرّ بعناد على الاختلاف عن غيرها من رفيقات المدرسة حتى في تفاصيل ثوبها المدرسي ّ ,  فهي في عالمها المتحرّك باستمرار , تمعن في القبض على زمام أمرها  بما يشاكل العناد  .

 تمثّل لها غزّة ذلك الحلم البعيد المدى , وقد ربض على مقربة من شغفها, تتلألأ  أنواره في مقلتيها أراجيح هيام  ومزارع أشواق.

تفاصيل خلابة , لمروية تميزت بروح سرية عالية الشفافية , باذخة الإيحاء , يحتل فيها المكان مساحة الصدارة , تجري في أرجائه روح نسوية خفيفة الظل , ملكية الطبع , تأسر الذائقة , تنساب مع نفسها الطويل , عبقاً من ماضٍ اسعصى على المضي , وتمكنن في الحاضر يضارع كينونته في إعادة صيغتها مع كل لحظة , حافلاً بأمل لاتغيّبه الأحداث , ولاتطويه المتغيرات .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى