أستاذي العزيز (٣)
شرين خليل | مصر
وفي صباح اليوم التالي: استيقظت على صوت العصافير .لأول مرة في حياتي استغرق في النوم بهذه الطريقة .فكم عانيت من الأرق وتزاحم الأفكار وعذاب الذكريات أما في هذه الليلة فكل شئ اختلف فلقد كان نومي هادئا .
نهضت من فراشي لأستعد فلابد أن يراني في أجمل صورة ،مرت ساعات وأنا حائرة في إختيار ملابسي حتي جاءني إتصال من شادن تخبرني أنها في انتظاري هي ووالدها في المرسم ووصفت لي المكان ..
أنهيت معها المكالمة وارتديت أجمل ثيابي وقلبي يرقص من الفرحة .طرقت أمي الباب وكانت في دهشة من حالي وقالت:
ريم إنتي إنهاردة مختلفة عن كل يوم !
-إزاي ياماما ؟
-أجمل من كل يوم ووشك منور ، أنا نفسي أشوفك كده على طول يابنتي ،بقالك سنين قافله علي نفسك من البيت للشغل ومن الشغل للبيت ،نفسي تخرجي من اللي أنت فيه دا بقي وتعيشي حياتك زي كل البنات .
– حاضر ياماما .بس قوليلي إنتي عاوزه حاجة مني؟
-لا ياحبيبتي أنا قلقت عليكي لما إتأخرتي ودخلت أطمن عليكي أصل مش من عادتك التأخير عن الشغل .
-لا ماتقلاقيش أنا بحضر لحفلة يوم اليتيم فممكن الأيام دي أنزل متأخر أو أرجع متاخر ..
-أهم حاجة يابنتي أني أشوفك سعيدة ومبسوطة وتنسي اللي فات وكفاية العمر اللي راح منك .
-في حجات مش بسهولة تتنسي ، اللي حصل واللي عملتوه ماكنش هين .
-ياريم إحنا بنحبك وعاوزين مصلحتك دا إنتي ريم المحمدي يعني مال وجمال ونسب كنتي عاوزه تدفني شبابك مع واحد عمره قد عمرك مرتين ومايملكش غير مرتبه اللي بتصرفيه في يومين .
-يعني لو كان يملك فلوس كتير زي بابا كده ماراح اتجوز واحدة اكبر منها بعشرين سنة كنتي وافقتي ياماما صح ؟
-يابنتي على الأقل كان هايبقي فيه تعويض .
-تعويض بالفلوس زي مابابا عوضك بالفلوس وفتح لك محل دهب وإنتي وافقتي إنه يتجوز عليكي وإحنا كمان عوضنا بالفلوس رؤوف ورامي كل واحد بقي له شركته الخاصة وأنا جابلي عربية جديدة وأمن لي مستقبلي .بلاش ياماما كلام في الماضي ماتقلبيش علي المواجع وخصوصا إنهارده.
-حاضر ياريم بس لازم تعرفي إن العمر بيعدي والفرص بتقل وأنا خايفة عليكي وعاوزه أطمن عليكي يابنتي ..
-إطمني ياماما وياريت تدعي لي .
-ربنا يسعدك يابنتي ويعوضك خير .
-يارب ياأمي وادعي لي على طول .أنا ماشية عشان إتأخرت
سلام .
انطلقت وقلبي طائر يغرد من الفرحة ،أتخيل اللقاء وماالذي سيحدث عندما يراني ..
وصلت إلى المكان التي وصفته لي شادن ووجدتها في إنتظاري وأخبرتني أن والدها مندمج في كتابة حوار المسرحية وسينتهي منها ويتفرغ لنا .
وقفت أتأمل المكان فهو حقا تحفة فنية .اقتربت مني شادن وقالت :
عجبك المكان ؟
-المكان تحفة جدا جدا ،رائع .أنا عاوزه أعيش هنا .
ضحكت شادن وقالت : تخيلي بابا عايش هنا .
-معقول !!
-ايوا بيعشق المكان هنا جدا عايش مع لوحاته وأعماله الفنية وأنا بقى متطفلة عليه وأخدت أوضة للموسيقي .
-عايش هنا لوحده ؟
-أيوا عايش لوحده ومبسوط كده .وتعالي بقي شوفي باقي المرسم لسه في أوضة الموسيقى اللي بدرب الأطفال فيها وفي كمان مسرح هايعجبك جدا أما بقي الجزء اللي على الشمال دا بعد ماتدخلي من الطرقة اللي قدامنا دا الجزء الخاص بالفنان الرائع المبدع عمر كامل بابا حبيبي .
نظرت إلي المكان الذي أشارت إليه وشعرت بالتوتر ماذا لو خرج الآن وأنا أقف مع شادن ؟ أنا لم أفكر في هذا الأمر .ماذا أفعل ؟ طلبت منها أن أنصرف وأعود في وقت آخر ولكنها رفضت وطلبت مني الإنتظار حتي ينتهي والدها ..وفجأة دخل مجموعة من الأطفال تقوم شادن بتدريبهم على العزف.طلبت مني أحضر معهم التدريب ولكني قلت لها أنني سأنتظر ها في المسرح حتي تنتهي من التدريب وسأقوم بإعداد بعض الأناشيد لأطفال الدار .
دخلت شادن مع الأطفال حجرة الموسيقى وبدأت معهم التدريب ..
أما أنا فأخذني قلبي وجذبني بقوة في إتجاه آخر فبدلاً من الذهاب إلى المسرح ذهبت لأبحث عن روحي المفقودة وقفت أمام الحجرة التي يجلس فيها ودفعت الباب برفق ورأيته يجلس أمامي مندمج في الكتابة ويتبادل الحوار مع نفسه .
لم يختلف كثيراً ولم تغيره قسوة الأيام فهو بنفس الشكل كل مازاد عليه هذه اللحية التي زادته وسامه وهذه الخيوط البيضاء في شعره ماهي إلا لآلئ زادته بهاءا. فما زاده الشيب إلا ضياءا وجمالاً .
ياحلما أصبح حقيقة ياأمنية حياتي أنت أمامي . تقدمت بخطى هادئة واقتربت منه وناديته بصوت حاني أستاذي العزيز :
توقف عن الكتابة وارتجفت يده والتفت إلي وسقط القلم من يده وهمس بحروف اسمي : ريم
-ريم !! إنت بجد؟؟
-أيوا بجد أخيراً لاقيتك .ليه سيبتني كل دا ؟
ترك كل مافي يده ونهض من مكانه في لهفة واقترب مني وهو ينظر إلي نظرات مليئة بالشوق والحب والحنين
-أنا مش مصدق ياريم إنك قدامي .
إقترب مني أكثر ومد يده على وجل لتلامس أنامله وجنتي .
ألقيت برأسي على كتفه وأغمضت عيني ونسيت نفسي وتعانقت أرواحنا حتي أيقظنا صوت طفلة تنادي على شادن إبتعد عني وخرجت مسرعة وجدت الطفلة تقف أمام الحجرة : فين ميس شادن ؟
إلتقطت أنفاسي الهاربة مني وتمالكت نفسي وأجبتها :
ميس شادن في أوضة الموسيقي تعالي أوصلك لها .
ذهبت مع الطفلة ودخلت معها حجرة الموسيقي شادن تعزف للأطفال بشكل رائع وقفت أستمع لها وأنا أشعر بقلبي وكأنه قلب طير صغير يرتجف ويحتاج من يحتويه ويضمه بشدة حتى يهدأ.
إنتهت شادن من العزف والتفتت إلي لتجدني في عالم آخر .
-معلش ياريم إتأخرت عليكي أنا قربت أخلص قدامي نص ساعة بس هاخدك عند بابا الأول هو زمانه انتهي من كتابة الحوار .
كنت صامته وخطواتي بطيئة لا أدري ماذا حدث لي أشعر بخجل شديد وتوتر .
طرقت شادن باب الحجرة ودخلت وأنا مازلت واقفه بجانب الباب .
ريم واقفه عندك ليه ؟
تعالي أعرفك على الفنان المبدع الرائع الأستاذ الدكتور عمر كامل والدي الجميل وصديقي وحبيبي ..
والدي الحبيب أقدم لك ريم فنانة بردو هي المسؤلة عن حفلة دار الأيتام اللي هاتكون حفلة مبهرة إن شاء الله .
-أهلا يا أستاذة ريم ..
-أستاذة مين يابابا ؟ ريم لسه صغيرة حضرتك تقولها ريم على طول ..مش كده ياريم ؟ إنتي ساكته ليه ؟
-لا ابدا اللي تشوفيه ياشادن أنا موافقه عليه .
-طيب إتفضلي أقعدي هنا على المكتب وأنا نص ساعة وهاكون معاكو وهاطلب لكو اتنين قهوة من الكافيه اللي جنبنا ،قهوتك إيه ياريم ؟
-مظبوطة ..
-جلست أمامه وبداخلي السؤال الثائر لماذا تخليت عني ؟ولكن خجلي وضعفي منعني من التحدث أو حتى النظر إليه ..
لحظات صمت قطعها قائلا : إرفعي رأسك ياريم واتكلمي ،إحكي لي أخبارك ايه ؟
-زي ما أنا .
-بقولك إرفعي رأسك إنتي خايفة مني ؟
إلتفت إليه : أنا بقالي سنين طويلة منتظرة إني أقابلك وأعاتبك وألومك وأسالك ليه سيبتيني؟ ليه هربت ؟ لكن لما شفتك نسيت كل حاجة ونسيت نفسي .
-أنا كمان ياريم نسيت نفسي .أما موضوع إني هربت فكان لازم أعمل كده ماكنش في حل تاني .كان لازم أبعد عشان تعيشي حياتك .
-وأنا كده عشت حياتي ؟
-أنا كنت خايف عليكي وكان لازم أبعد، وقتها حياتي إتدمرت وماكنتش قادر أواجه الناس وماينفعش أرجع لك وأدمر حياتك إنتي كمان .البعد أو الهروب زي ماقولتي كان الحل الأنسب .
-للدرجة دي أنا كنت سبب في دمار حياتك ؟
-لا ياريم مش إنتي السبب.. تسرعي وإندفاعي في مشاعري تجاهك كان السبب كان لازم أحكم عقلي .
-يعني إنت ندمان إنك حبتني ؟
-بالعكس ياريم حبك دا أجمل حاجه حصلت لي لكن الظروف كانت ضدنا كان لازم أبعد عنك كلام والدك فوقني ورجع لي عقلي لما جه إتخانق معايا وقالي أنا سايب بنتي أمانة عندك تعلمها وتدرس لها تقوم تقلب كيانها كده حسيت ساعتها بالذنب وقد إيه أنا أخطأت كان لازم أتحكم في مشاعري وأعرف كويس إن إرتباطنا ببعض صعب أو بمعني أصح مستحيل .
-ليه كلكو بتاخدو قرارات تخصني بدون ماتعملولي أي إعتبار أنت قررت ومشيت من غير حتي ماتقولي كلمة وداع وبابا وماما عملوا معاك كده من غير مايقولولي ..ليه ؟؟
-عشان بنحبك .
-إنت ماتعرفش أنا جرالي أيه في بعدك .
-غصب عني ياريم .صدقيني أنا أخترت الصح على الرغم أنه كان صعب علي غربتي، ووحدتي،و شغلي اللي سيبته،وبنتي اللي قعدت سنين محروم منها .عايش مسجون في أحلامي مش قادر حتى أقول اللي جوايا ،الأيام كانت صخرة تقيلة علي قلبي والليالي زي السيف بتدبحني ،كأني في حرب وصراع مع الدنيا كلها بس مانكرش إن الضغوط دي هي اللي خرجت الفنان اللي جوايا .أنا لما سافرت كنت كاره إني أشتغل نفس شغلي في الجامعة بس ماكنش قدامي حل تاني ،إشتغلت في جامعة خاصة لفترة وبعد كده سيبتها وسافرت بلد تانيه ،لفيت بلاد كتير عشان ألاقي مكان أرتاح فيه ومالاقتش وقتها عرفت إني لازم أرجع لأن دا أمر واقع ومالاقتش راحتي في الهروب بالعكس إتعذبت أكتر وكمان عشان بنتي محتجاني فقررت العودة وزي ما انتي شايفه خرجت كل اللي جوايا في الرسم والفن والعرايس والكتابة وفي نفس الوقت شغلي من ورا الستارة مش عاوز أواجه الناس شادن هي مديرة أعمالي وهي اللي بتنظم كل حاجة وأنا حياتي في الحدود اللي رسمتها لنفسي في المكان دا لحد آخر أيامي .عرفتي إنك مش لوحدك اللي اتعذبتي .
ياريم ؛ إنتي لسه العمر قدامك وخلينا ننسي اللي فات ونبدأ صفحة جديدة .
-تفتكر هاقدر؟
-هاتقدري ويلا بقي نقرأ المسرحية قبل شادن ماتيجي بس قبل كل حاجة هاطلب منك طلب مهم جدا