الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة والإعلامي العراقي علي جبار عطية (وجهًا لوجه)
عالم الثقافة | خاص
الشاعر الحقيقي يُبدع في صنع الشراك ويتفنن في تجاوزها.
قنديلي الشعري يستمد زيته من أجواء روحانيه لينشر ضياءه.
الشعر خطابٌ جماليٌّ خارج عن المألوف والساكن والمعتاد.
العراق يسكنني وحاضرٌ في وجداني وفي كل روح شاعرة.
لن يرقد الشاعر بسلام حتّى يكتب قصيدته العنكبوت!
بعد قراءتي لمجموعتيها الشعريتين (قبضة من أثر المجاز)، و(سنابك البلاغة) بنسختين إلكترونيتين بعثهما لي شقيقي ومعلمي الأول الشاعر عبد الرزاق الربيعي تولدت لديَّ أسئلة، طرحتها عليها عبر البريد الإلكتروني فكانت كريمةً، وهي تجيب عن أول حوارٍ معها يتزامن مع صدور ديوانها الثالث (قصائد مشاغبة) عن دار يافا العلمية في الأردن.. فهي لم تعرف أنَّ ما تكتبه يُعد شعراً إلا حين رأته منشوراً في بعض المواقع ! ثقّفَت نفسها بنفسها، وساعدتها في ذلك نشأتها في بيئةٍ دينية، ومن عائلةٍ عربيةٍ عريقةٍ تمتهن تربية الخيول، فغرس ذلك في نفسها حب الفروسية، فصارت فارسةً بالفعل بعد أن كانت فارسةً بالقوة ! لكنَّ الشاعرة جُمانة الطَّرَاوْنِة وجدت أفراد عائلتها مولعين بدراسة القانون فمشت على هذا المنوال! غير أنّ حبها للعراق يفوق الوصف، وتقول في ذلك: (وإنْ كان دمي الذي يجري في عروقي عراقياً)!
إلى الحوار:
بعد مجموعتين شعريتين لكِ هما (قبضة من أثر المجاز)، و(سنابك البلاغة) يجيء ديوانك الجديد (قصائد مشاغبة)، فهل تريدين به الخروج من المألوف والساكن إلى اللامألوف والرفض ؟
الشعر، في مجمله، خطابٌ جماليٌّ يدعو للخروج من المألوف والساكن، والعادي، فهو خطاب رفض، ومشاكسة، وتمرّد، وحول هذا ندندن ، وفي ديواني (قصائد مشاغبة) تركت لجمانة الشاعرة الفارسة أن تظهر جزءا آخر من شخصيتها وكنتُ إلى قبل هذا الديوان أمنعها من الاقتراب منه، وسيظهر ذلك جلياً لمن يقرأ الديوان الذي تضمن قصائد وجدانية، وأخرى فيها استفادات من الموروث الثقافي، لأعطي عمقا للنصوص كما أشار الشاعر عبد الرزاق الربيعي في مقدمته للديوان عندما قال: [من ملامح نص جمانة الإحالات إلى الرموز الشعرية، والتاريخية والدينية، والأسطوريّة، والأدبية، والثقافية :(عصا موسى، مكة، ياجوج وماجوج، فينوس، فيروز، العندليب، نازك الملائكة، أبو العلاء المعري، جوليت، عرّار، أشعب، كتاب الأغاني للأصفهاني، زرياب، السبع المثاني، العقّاد، رفاعة الطهطاوي ) وتوظيف النصوص الشعرية المستلة من تراثنا الشعري الأدبي، ولكنها تعيد تفكيكها وضخها بدماء جديدة تعكس رؤيتها لتجعل من نصوصها تتسم بالمعرفة وتنطلق من مرجعيات فكرية تسهم في رسم بعض الدلالات] .
نجد في شعرك تجلياتٍ صوفيةً، فبمن تأثرتِ في ذلك؟
ليست تجلياتٍ صوفيةً بالمعنى الحرفي للكلمة المتعارف عليها بقدر ما هي ممارسة حياتية
فقد نشأت في بيئة بها للجانب الروحي مساحة واسعة، وفي طفولتي حفظت أجزاء من القرآن الكريم، والأحاديث، والأدعية، والمطوّلات الشعرية، وكل هذه المصادر والمرجعيات ساهمت في تكويني الشعري لاحقاً ، رغم تخصصي بدراسة القانون، كبقية أفراد الأسرة، وعندما كتبت الشعر فبالتأكيد ستشكل تلك الأجواء الروحانية خلفيةً يستمد منها قنديلي الشعري الزيت لينشر ضياءه، فلم أتأثر بشاعر معين، بل كتبت قصائدي بوحي الفطرة، وبقيت لسنوات أكتب دون أن أعرض نصوصي على شاعر يوجّهني، ويضعني على جادة الطريق، بل كنت أكتب الشعر، وأنشره بصفحتي بمواقع التواصل الاجتماعي وبدون اسم، ولم أكن أدري أن ما أكتب كان شعرا جيداً ،أم غير ذلك، حتى رأيت نصوصي تنقل من صفحتي، وتنشر في صفحات أخرى يومها عرفت أنَّني أكتب شعراً يستهوي الآخرين، فبدأت بنشره موقَّعاً باسمي، ومن هنا كانت البداية.
كيف تجمعين بين التصوف الذي من مقتضياته الفناء، والفروسية التي ترتكز على الاعتداد بالنفس !
مثلما نشأت على حبّ القرآن الكريم، وكتب التراث والشعر العربي القديم، نشأت على حب الفروسية، فجدي لوالدي، رحمه الله، كان يملك سلالاتٍ نادرةً من الخيول العربية، وكانت الخيول جزءاً من حياتنا، في محافظة الكرك، فورث منه والدي ذلك، فنشأنا في بيئة تحب الخيول، فتعلّمت وأخوتي ركوب الخيل اقتداء بالحديث الشريف : (علموا أبناءكم السباحة، والرماية، وركوب الخيل) ، وكذلك علّمني والدي رحمه الله الرماية، ومازلت أمارس الفروسية كرياضةٍ محببةٍ لي، وكذلك الرماية، أما التصوف فكما أشرت في البداية فأنا لا أمارس التصوف لا كتابةً ولا سلوكاً في حياتي بالمعنى المتعارف عليه، ولكن إذا كنت تحبذ تسمية الحالة الروحانية التي أعيشها تصوفاً ،لنعتبر ذلك، ولكنَّ ممارساتي الروحية هي وجودية جمالية وهي تماماً تشبه طقوس كتابتي وممارستي للفروسية.
إذنْ الجمال الروحي هو القاسم المشترك بين كل ممارستي الحياتية.
كُتبت عن قصائدك دراساتٌ نقديةٌ منها دراسة للدكتورة شفيقة وعيل من الجزائر وكذلك دراسة للدكتورة رحمة الله أوريسي في جامعة قاصدي مرباح، ودراسة للدكتور سعد التميمي، وغيرها فإلى أي مدى اقتربت هذه الدراسات من تجربتك ؟
كل الأسماء التي ذكرت أسماء قديرة وذات بصمة متفردة في مجال النقد، ولكن أنت تعلم أنَّ العمل النقدي يتناول ملمحاً واحداً من ملامح التجربة الشعرية لدى الشاعر، ولذلك كل ما قدمه الأساتذة الأجلاء الذين ذكرت قد أثروا الملامح النقدية التي تناولوها إلى الحد الذي ترضى عنه الشاعرة إلا أنَّه هنالك جوانب أخرى ما زالت في قصيدتي بشكل خاص وبتجربتي بشكل عام بحاجةٍ إلى دراسةٍ والسبب كما أرى هو قلة النشر في الصحف والمجلات، لأسباب تعود إلى أنَّني بعيدة كل البعد عن الأوساط الإعلامية، والثقافية، أكتب بصمت، وأنشر ما أكتب في صفحتي. أما عن الدواوين، فكلنا نعرف سوء توزيع الكتب، وضعف التسويق، بدليل أنك عرفتني، مثل الكثيرين ، من خلال ما أنشر في صفحتي بـ (تويتر) وليس عن طريق النشر في الصحف والمجلات، ولا عن طريق قراءتك شعري المطبوع، فضلاً عن أنَّ النقد اليوم تحكمه العلاقات التي أنا بعيدة كل البعد عنها.
ترجمت لكِ الشاعرة اللبنانية الدكتورة تغريد بو مرعي قصائد من ديوانك(قبضة من أثر المجاز) إلى اللغتين الإسبانية والإيطالية، فكيف يمكنك أن تطمئني إلى وصول شعرك إلى المتلقي الغربي ؟
كل شاعر يحلم أن يصل نتاجه للمتلقي الغربي، لأنَّ الخطاب الشعري هو خطاب إنساني، ولكي يصل للآخر، لابد أن يجتاز حاجز اللغة، شاكرة للشاعرة المترجمة د تغريد بو مرعي على ما قدمته من ترجمة لنصوصي والعودة للإجابة على سؤالك ،نعلم أنَّ الترجمة خيانة للنص وسيصل باللغة الأخرى وقد فقد ولو قليلاً من روح شاعره لكن ما يجعلني أطمئن إلى ما تقدمه الدكتورة تغريد هو أنَّها شاعرة، ولا أظنّها ستقدم النص مترجماً ترجمةً حرفيةً جافةً، وأنَّها ستحاول أن تكتب نصاً موازياً يحمل فكرة الشاعر وروحه وقاموسه .
كتبتِ شعر القريض والتفعيلة، وأجدتِ فيهما فلماذا لم تقتربي من قصيدة النثر ؟
ـ دعني آخذ نفساً عميقاً قبل الإجابة على هذا السؤال، النفس البشرية تأنس للإيقاع وتطمئن للترتيب، وهذا ما يتوفر في النص العمودي وقصيدة التفعيلة والذي قد يغطي على جوانب سلبية أخرى في النص (على الأقل تجعل المتلقي يتقبل النص إلى حد ما )، أما في قصيدة النثر فالشعرية الشعرية الشعرية هي المحك ،أما أن تكون متمكناً من كل أدواتك مختلفاً عن غيرك ،سريعاً ،رشيقاً ،مراوغاً، تعرف متى تبدأ وأين تنتهي وكيف تأتي بالمغاير المدهش، أو لن تزيد على أن تقول كلاماً عادياً، وهناك مقولة أظنها الأكثر توصيفاً بالنسبة لتعاملي مع قصيدة النثر وهي “يأباني أحسنه وأأبى رديئه “.. تقولين :
لأبعدِ نَجْمةٍ سأمدُّ كفي
وأقطِفُها فبالحبِّ ارتقيتُ
وفي قصيدةٍ أُخرى :
بعدكَ الأيامُ قد تمضي سدىً
أيُّ فرقٍ بين يومي و غَدي؟!
كلّما قُلتُ مِنَ الحبّ اكتفى
خافقي ناداكَ : يا هذا زدِ
لكِ قصائد حب عميقة، فهل ترين في الحب الخلاص ؟
الله محبة والدين محبة والرسالات السماوية محبة، وفطرنا على المحبة، فكيف لا يكون الحب هو الخلاص؟.. يقول شمس الدين التبريزي: (لا شيء أسهل من الكراهية، أما الحب فهو يحتاج نفساً عظيمة)، وعندما نتحدث عن الحب فإننا نتحدث عن معانيه السامية التي ترتقي بالحس والنفس والوجدان.
العراق حاضر بين ثنايا حروفك، وكذلك بعض رموزه الشعرية كالجواهري، وعبد الرزاق عبد الواحد، ولميعة عباس عمارة، فما سر هذا التعلق؟
العراق حاضر بكل وجدان عربي وفي روح كل شاعر ،يسكننا من حيث لا ندري ،مجرد ذكر اسم العراق في القصيدة يمنحها شجنا خاصا ولأنَّ أصدق الحب الذي لا تعرف له سبب، فأنا أجهل أسباب حبي للعراق الذي قلت فيه:
لولا العراق عليها قلت ما نبطت
أرض ولا ارتفعت حتى نعيش سما
كأنّما الكون معقود على يده
له الإرادة في ما قال أو حكما
ولعلَّ أصدق تعبير عن الحب يكون في الشعر ، وفي ذلك أقول:
إنَّ العراق وحتى أنتقي لغة
أخرى سأسرده بالشعر مِنْ وإلى
فقيل : بالغت في وصفي ..وأخرسهم
ولم أقل كيف لو جاريتهم جدلا
وعنه أكتب في الحالين مفتخرا
ما لم أقله مديحاً قلته غزلا
وإنْ كان دمي الذي يجري في عروقي عراقياً وبالنسبة للكبيرين الجواهري، وعبد الرزاق عبد الواحد زاد تعلقي بهما عن بقية الشعراء الآخرين هو ارتباطهما في بلدي الحبيب الأردن وبالنسبة للعظيمة لميعة فالصفات المشاغبة الشعرية المشتركة بيننا وقد رثيتها بقصيدة عنوانها (على ضريح الضياء) قلت بها:
عراق إلى أن تجف العيون
ويغفر أخطاءه الطيبون
فما بين عين وقاف العراق
تدس يد الله كافاً ونون
فما كان من قبل إلا العراق
وليس العراق سوى ما يكون
عراقية من تربي النخيل
وتنذر أبناءها بالمنون
هناك الكثير من الأسماء والرموز الدينية والاستعارات القرآنية في قصائدك، فهل يعود ذلك إلى تشربك بالتراث الديني، أم أنَّك وجدتِ فيه منابع القوة الشعرية؟
القرآن الكريم جاء تحدياً لكل أساليب البلاغة والبيان، معجزاً لكل الفصحاء ،إذنْ هو سقف البيان الأعلى وذروة سنام البلاغة وكم يحلم الشاعر أن يقترب من هذا المقام العلوي إلا أنَّ ما تجده في قصائدي نتيجة لحفظي للقرآن الكريم ، وتعلقي به ولحلقات الذكر اليومية التي كان جدي والد أمي رحمه الله يعقدها لنا.
كيف استطعتِ أن تجمعي بين أبي العتاهية، وأبي نواس في قولك : عتاهيّةٌ كلُّ أبياتِ شعري وما دار في بالِ بوحي نواسُ؟
الضد يظهر حسنه الضد ،هما الصورة المركبة لوجدان كل إنسان فكيف لو كان شاعراً، ولأنَّ المقام مقام الشعراء فتجد أن بعضهم يقترب من جهة أبي العتاهية محاولاً قتل أبي نواسه والطرف الآخر على العكس تماماً، وأنا حاولت أن أمسك العصا من النصف ولن أزيد عن هذا.
لابدَّ للمريد من معلمٍ أو مرشدٍ، فهل يحتاج الشاعر في طريق الشعر إلى موجّهٍ؟
ـ ثلاث لا تؤتى بالتعلم منها: الشعر ، فالشعر يحتاج إلى صقل الموهبة إذا كان يملك بذرته الأولى، والمرشد الذي تتحدث عنه هو الذي قد يأخذ بيد الشاعر إلى الضوء ويبيّن له طريقة التعامل في الوسط ،فللأسف حتى تكون شاعراً مهماً وناجحاً والنجاح هنا أعني الجماهيرية لاتعتمد على الشعرية فقط، وهنا يأتي دور الموجِّه أو المعلم .
ما العلاقة التي وجدتِها بين دراسة القانون واتخاذه مهنةً والشعر ؟
الأصل أنَّ الشعراء محامون، فأساس العدل هو الميزان، وأساس الشعر هو الميزان، وأساس الصرف هو الميزان وأنا كوني من أهل القانون يشغفني الميزان، ولأنَّ التأويل يقوم على الحجة، والتخريج النحوي يقوم على الحجة، ومجاز الشعر قرينته حجة، وأنا بنت القانون أكثر مَنْ يعرف بالحجة، قد كان البوح نوافذ فهمي للتشريع فسماعي للطرفين بغير حيادٍ يشبه في الشعر التصريع.
تقولين في إحدى قصائدك:(بشيءٍ مِنَ الشِّعرِ أنجوْ/وأجتازُ فخَّ القصيدةْ/ ولستُ الوحيدة /ولكنّني /غيرُ كلِّ اللواتي/نصبنَ المعاني /أمامَ المكيدةْ /فأجملُ ما فيَّ/أنّي برغمِ قديمي/جديدةْ/وأصدقُ ما قيل عنّي/عنيدةْ).. فهل استطعتِ تجاوز مكيدة القصيدة ؟
الشاعر الحقيقي هو الذي يبدع في صنع الشراك ويتفنن في تجاوزها محققاً أعلى نسبة استمتاع شعري ، أتجاوز مكيدة القصيدة إلا لأواجه مكيدةً أكبر منها، وهكذا دواليك حتى أصل إلى القصيدة العنكبوت، ولي مقولةٌ معروفةٌ وهي لن يرقد الشاعر بسلام حتّى يكتب قصيدته العنكبوت !
ماذا تريدين من قولك : (أُذهّبُ نصّي لحدِّ الحواشي/ فلا يصدأُ النّصُ لولا النّحاسُ).. هل يقتصر دور الشاعر على تذهيب النص؟
التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع الفارق دوماً وخصوصاً في الأعمال الأدبية والفنية والتذهيب هنا ليس بالمعنى الحرفي ،فليس التذهيب شكلاً ولكن مضموناً فالذهب هو الخلو من الشوائب، وهو إشارة إلى محاولة الاقتراب من الكمال.
يرى بعض الشعراء أنَّ الشعر لعبةٌ لفظيةٌ، فإلى أي مدى تتفقين مع هذا الرأي؟
لا يزعجني هذا القول فالروح كلمة وعيسى عليه السلام كان كلمة ربه إلى مريم البتول العذراء، فآخذ هذا القول على ما أحمله في نفسي وهو أن الشعر روح والروح كلمة إلا أنَّ في النفس شيئاً من قولهم: وما يشغل بالي هو الحواشي فهو لخاصة الخاصة ،أما المتن فنشترك فيه جميعاً لعبة فالكتابة ما هي إلا محاولة لإنعاش الحياة.
وأخيراً : إلى أي مدىً، تريدين أن تصلي؟
داخل كل شاعر جلجامش خاص به صغر أو كبر، وما يشغلني هو قتل الأفعى قبل الوصول إلى العشبة، ودعني أسر إليك أنَّ اللعبة ستفقد متعتها بعد موت الأفعى !