المنطوق به والمسكوت عنه.. قراءة في قصيدة (سكون) للشاعر الدكتور محمد حجازي
د. جمال فودة | عضو الاتحاد العالمي للغة العربية – كاتب وناقد من مصر
أولا – القصيدة
(1)
وأنا المضرج باشتهاء السكونْ
فالسيف صمت ..
قد تدثّر غمدَه المأسورَ
مشتعلا بين التباسات الرؤى
وفراغِ المسارْ
(2)
والدرعُ مشنوقٌ..
على مسمارِ تيهٍ قد تدّلى
في مداراتِ الترنحِ
وانكسارِ الضوءِ في حضنِ الجدارْ
(3)
والخيلُ تركضُ في المكانِ / اللامكانِ …
يصدَّها الهذيانُ بين الظلِ والنورِ الكسيحِ …
تصارعُ الغفواتِ …
والهفواتِ…
والعثراتِ ….
والصمتِ المسرّجِ بالرموزِ…
وحشرجاتٍ للصهيلِ …
مقطّعِ الأوصالِ ..
مغلولِ القرارْ
(4)
والرمحُ منثلمٌ
تصدّعَ نصلُه الموقوفُ
عن طعنٍ …
وعن رميٍّ …
وعن ناسغٍ ملّ المذلةَ
يغزلُ من بصيصِ النورِ رمحًا ملّ الفرارْ
(5)
والقوسُ محمومٌ …
يلملمُ من فضاءات المدى
تلك السهام
الهارباتِ من الموات على
زوايا البؤسِ في الوترِ البئيسِ ….
ويطرق الأبواب منتفضا
كما الأطيار
لما بللت أعشاشَها زخاتُ غيثٍ
هارباتٍ من سحاباتٍ قفارْ
ومضى يُنقّبُ في حقائبهِ القديمةِ
أو دفاترَ للتاريخ يحرسُها على رفٍّ
تدلَّى فوق مشنقةِ الغبارْ
هل يستفيقُ الفارسُ المغمومُ من غفواتِه الحمقاء
في جبِّ التواريخِ العتيقةِ
كي يُقطِّبَ جُرحَه المشؤومَ
يرفعَ بيْرقًا للثورةِ البكماء في الساحاتِ
والباحاتِ
في كُوةِ المدارات السحيقةِ ؟؟
علّ أفئدة من الناس الحيارى
تتبع الحلم العصيْ
– حلم الطيور-بموسم الحريةْ
تلك هي القضيةْ
ثانيا – القراءة النقدية
بنكهة رومانسية حالمة يصوغ الشاعر كلماته بأسلوب شيق ثري بالجمال، والرقة والعذوبة؛ لتعانق آفاق الروح؛ فترصد نبضات قلب حائر يبث مشاعره الإنسانية في بساطة شعرية خالية من التعقيد، وفي فلسفة بها مسحة من غموض فلسفي جميل.
تبدو القصيدة حافلة برموز إيحائية ودلالات نفسية، واستبطان لخلجات الوجدان وومضات الفكر، ذلك أن الشاعر له رؤية خاصة في إطار تجربة إنسانية عميقة يستعين على رصد أبعادها باللغة الإيحائية ـ وليس باللغة المعجمية ـ وسيلة للكشف والتعبير، فتجد اللفظة تتجاوز معناها المعجمي إلى دلالة خاصة تتسق ورؤية الشاعر.
إن اللوحة الفنية في القصيدة تتكون من مجموعة لقطات حية تعكس أبعاد الحالة الشعورية في نسق بلاغي يعتمد على المقابلة ؛ حيث المتناقضات المؤتلفة والمؤتلفات المختلفة( فصليل السيف أصبح صامتاً ) ، و( الخيول العاديات تجري في اللامكان )و ( النور الذي يترجاه ليبدد ظلمة اليأس كسيح ) و ( الرمح المشرع لنصرة الحق منثلم ) و( الثورة الهادرة بكماء ) لقد استطاع الشاعر أن يوزع المقابلة على مستوى النص ليجعل منها نواة تشد المعنى إليها؛ فتبعث سكونه بما تمثله من إسقاط دلالي يكشف عن الحالة النفسية في ثنائية تجمع بين أنماط سلوكية متقابلة ، إذ تجمعها وحدة نفسية ودلالية عميقة ناشئة عن إحساس بالتيه يجسد حالة من الشتات وضياع الأمنيات وسط واقع مليء بالزيف يتخبط في ظلمات الذل والهوان.
يعبر(حجازي) عن واقع أمتنا المؤلم في صورة شعرية رائعة عبر فيها عن الفراغ المؤلم، وعن اجترار مجد زائل لا جدوى منه، وعن الحلم الذي يرتعد من قسوة هذا الواقع المؤلم الذي يعيشه، والصورة الشعرية إما مطلقة وإما محدودة، وهي إذا جاءت مطلقة فإنها تعطي الفرصة للمتلقي لكي يتفاعل معها ويُعمل فكره في تتبع دلالتها الإنسانية.
هل يستفيقُ الفارسُ المغمومُ من غفواتِه الحمقاء
في جبِّ التواريخِ العتيقةِ
إلى هنا تعتبر هذه الصورة الشعرية مطلقة، ولو أن شاعرنا ترك هذه الصورة كما هي ولم يضف عليها شيئاً لكانت من أروع الصور الشعرية في هذه القصيدة؛ لأنه طرح استفهاماً للمتلقي وكان يجب على شاعرنا أن ينتظر الإجابة، كل حسب ثقافته ومخزونه الفكري، ولكن شاعرنا حدد هذهالصورة، وقرر أن: (الحلمعصيٌّ)، وبالتالي حرم المتلقي من متعة التفكير في مصير هذا الفارس، فقد رسمشاعرنا ملامح النهاية للمشهد الدرامي.
وننتقل من الصورة المطلقة والصورة المحددةإلى الصورة القصيرة، والصورة المركبة ولنقرأ ونتأمل ما يقوله حجازي:
والدرعُ مشنوقٌ..
على مسمارِ تيهٍ قد تدّلى
في مداراتِ الترنحِ ..
هنا انتقل (حجازي) من الصورة القصيرة إلى الصورة المركبة حيث العينان الزائغتان في مدارات الترنح، وبريق الحلم الذي تجمد في المآقي حين رأى الدرع مشنوقاً، والضوء منكسراً، وهذه الصورة الشعرية المركبة إنما تعطي مساحة تصويرية أوسع.. تجعل المتلقي يتعامل مع التجربة الإبداعية الشعرية على طريقة فن السينما حيث المشاهد المتتالية التي تُعمّق المعنى وتوضح الفكرة في عين وفكر المشاهد.
وإذا نظرنا إلىهذه القصيدةنجدها تتميز بالبساطة والخصوصية والرومانسية، وهذه الصفات مما يميز شعر حجازي الإنساني؛ إذ أن تجربته الشعرية تنأى عن التعقيد وتتوسط المسافة بين الغموض والمباشرة.
والقوسُ محمومٌ …
يلملمُ من فضاءات المدى
تلك السهام…
الهارباتِ من الموات على
زوايا البؤسِ في الوترِ البئيسِ ….
ويطرق الأبواب منتفضا …
كما الأطيار
لما بللت أعشاشَها زخاتُ غيثٍ
هارباتٍ من سحاباتٍ قفارْ
هذه الصورة الشعرية بخطوطها المتنوعة بين التشبيه والاستعارة تنتمي إلى الصور الشعرية المركبة التي امتدت لمسافة إيقاعية طويلة مما عمّق الصورة لدى المتلقي، وليست هناك مفاضلة بين أنواع الصورة ،ولكن الصورة تفضل غيرهابمدى طاقتها الإيحائية ، ومدى الوظيفة التي تؤديها في توصيل أبعاد الرؤية الشعرية للشاعر ، والتعبير عن واقعة النفسي والشعوري الذى لا يمكن التعبير عنه بواسطة الأسلوب التقريري المباشر ، وتفضل كذلك بمدى قدرة الشاعر على بث مشاعره بين خطوطها وإضفاء مكنون ذاته على ألوانها ، أياً كان نوعها ، وهذا ما نجح فيه (حجازي)؛ إذ جعل عناصر الإبداع الشعري تتداخل وتتمازج بوشائج قوية تكشف عن طبيعة نظرته للواقع وأبعاد المثل الجمالية التي يتغياها من وراء التعبير التصويري.