وحشية أميركا في العراق فاقت بكثير ما تقوم به روسيا في أوكرانيا
سعيد مضيه | فلسطين
المسئولون عن غزو العراق ، مجرمو حرب .. يعاقبون روسيا
كان هيدجز قد نشر مقالا تتبع فيه زحف حلف الأطلسي شرقا، مع تسليح أكرنيا والسعي لضمها الى الناتو ، الأمر الذي كاد أن يفضي لخنق روسيا ؛ وردا على عدوانية الناتو قامت روسيا بالخطوة المضادة لكسر الحصار الخانق . جريا على التقليد الإعلامي الأميركي برفض تبرير تصرفات العدو وصم هيدجز بالعمالة لبوتين، تعرض هيدجز لجملة انتقاد لاذعة ؛ فكتب مقالة جرم فيها غزو أكرانيا. والتقرير الإستقصائي الذي نستعرضه مكرس للتمييز بين غزو العراق وفييتنام وغزوأكرانيا.
هنا نقدم الحلقة الثانية المكملة للتحقيق الاستقصائي للصحفي الأميركي كريس هيدجز.
بدون قصد أثارت رايس قضية توجب تقديمها للمحاكمة مع بقية المتنفذين في إدارة بوش. فقد بررت غزو العراق بإقرار:” تكمن المشكلة هنا في انه يجب دوما ان يكون بعض الشك بصدد مدى السرعة في الحصول على الأسلحة النووية. غير اننا لا نود أن يكون المدفع الدخاني سحابة من فقع”. لا تختلف تبريراتها للحرب الوقائية ، التي تعتبر بموجب قوانين نورمبرغ حربا إجرامية عدوانية، عن تبريرات سيرجي لا فروف ، وزير خارجية روسيا ، إذ قال ان الغزو الروسي قد تم لمنع أكرانيا من الحصول على الأسلحة النووية. ( غير أن تبرير لافروف يستند الى وقائع ملموسة وهو موضوعي ، بينما تبريرات غزو العراق مفبركة).
أصل بهذا الى فضائية آر تي بأميركا، حيث شاهدتُ مشهدا أطلق عليه ” حول التواصل”. الفضائية أنزلت حاليا عن الهواء بعد إلغاء برمجتها وغدت عاجزة عن بث موادها . كان إغلاق المحطة منذ زمن خطةً لحكومة الولايات المتحدة. قدم غزو أكرانيا لواشنطون المفتاح لإغلاق محطة آر تي . كان لشبكة آر تي أميركا بصمة إعلامية صغيرة؛ لكنها أتاحت منبرا للمعارضة الأميركية كي تتحدى راسمالية الاحتكارات والامبريالية والحرب والأوليغارشية الأميركية.
بين آرتي أميركا ونيويورك تايمز
جرى تعامل شبكة أرتي مع استنكاري لغزو أكرانيا بصورة مغايرة تماما لتعامل نيويورك تايمز مع استنكاري لغزو العراق حين كنت مدير مكتبها في الشرق الأوسط . لم تعلق أر تي علنا أو معي خاصة بصدد استنكاري لغزو أكرنيا في عمود شير بوست.. لم تعلق آر تي على بيان جيسي فينتورا، المحارب السابق في فييتنام وحاكم ولاية مينيسوتا سابقا، والذي شارك في تقديم برنامج على آر تي، وكتب يقول:”قبل عشرين عاما فقدت عملي لأنني عارضت حرب العراق وغزو العراق. واليوم ما زلت مع السلام. وكما قلت سابقا فإنني اعارض هذه الحرب ، هذا الغزو ؛ وإذا كان الوقوف مع السلام يفقدني الوظيفة مرة أخرى فليكن ذلك. سأظل دوما اعارض الحروب”.
تم إغلاق آر تي بعد ستة أيام من استنكاري غزو أكرانيا . ولو استمر نشاط الشبكة فلربما فقدنا الوظيفة، فينتورا وانا ؛ لكن على الأقل بقينا نظهر على الشاشة طوال الأيام الستة.
نشرت نيويورك تايمز توبيخا رسميا مكتوبا عام 2003، منعني من الكلام عن الحرب في العراق، وذلك على الرغم من انني كنت رئيس مكتب الصحيفة في الشرق الأوسط، وأمضيت سبع سنوات في الشرق الأوسط وكنت أجيد التحدث بالعربية. هذا التوبيخ اتبع بالطرد من عملي. لو انتهكت المنع فإن للصحيفة الحق، بموجب قوانين النقابة، في إنهاء عملي. جون بيرنز مراسل آخر للصحيفة بالخارج ساند علنا غزو العراق ؛ لم يتلق توبيخا .
ان تكرار تحذيراتي على المنابر العامة من الفوضى وسفك الدماء نتيجة غزو العراق، وهي ما ظهرت صحتها ، لم تكن مجرد رأي. إنها تحليل استند الى تجربة سنين بالمنطقة، بما فيها العراق ، تحليل وإدراك عن كثب لأداة الحرب افتقر اليهما البيت الأبيض وإدارة بوش؛ لكنه تحدى الرواية المهيمنة وتم إسكاته. ويحدث الآن في روسيا نفس الرقابة على المشاعر المناهضة للحرب، لكن علينا ان نتذكر انه حدث بالولايات المتحدة أثناء التحضير لغزو العراق وفي مراحله الأولى.
نحن الذين عارضنا حرب العراق، بغض النظر عن مدى خبرتنا بالمنطقة، تعرضنا للهجمات وللتبخيس. وكذلك فينتورا شاهد إلغاء برنامجه على محطة إم إس إن بي سي ، مع أنه مرتبط بعقد مدته ثلاث سنوات.
إن هذا وما سيرد بالفقرات التالية برهان على كذب الادعاء بأن أميركا ” حصن الديمقراطية” مقابل حصن الاستبداد. الاستبداد يتغلغل في مسامات الحياة الاجتماعية الأميركية كافة.
يواصل كؤيس هيدجز: أما أولئك الذين وقفوا في مقدمة الهاتفين للحرب ، أمثال جورج باكر ، ثوماس فريدمان ، نيك كريستوف، باول بيرمان، ميشيل إغناتييف، ليون فايسيلتير ، الذين أطلق عليهم توني جودت صفة “الحمقى المفيدين لبوش”، فقد هيمنوا على المشهد الإعلامي. لونوا الشعب العراقي شعبا مضطهدا، ضحايا باستحقاق، سوف يحررهم الجيش الأميركي. كانت محنة نساء أفغانستان تحت حكم طالبان صرخة نداء للحرب وضرب أفغانستان بالصواريخ واحتلالها . سماسرة القوة هؤلاء قد خدموا مصالح سلطة النخبة وخدموا صناعة الحروب. فرقوا بين الضحايا المستحقين وغير المستحقين. كانت حركة وظيفية جيدة؛ وقد عرفوها.
نشأ بين المراسلين الصحفيين في الشرق الأوسط خلاف بسيط جدا حول حماقة غزو العراق؛ غير أن الأغلبية لم ترغب في فقدان مواقعها عن طريق الجهر برأيها . لم يرغبوا في أن يكون مصيرهم كمصيري، خصوصا بعد أن تعرضْتُ لحملة تعزير مقذعة في روكفورد وإلينويس بسبب إلقاء كلمات مناهضة للحرب وغدوت (مخدة) ملاكمة لميديا اليمين. أسير في غرفة الأخبار فيشيح المراسلون الذين أعرفهم لسنوات خلت وجوههم أو يخفضون رؤوسهم، كما لو انني مصاب بالجذام. فصلت من العمل، ليس فقط من نيويورك تايمز ، بل من أي هيئة إعلامية كبرى، كما لو انني تيتمت، عندما التقطني روبرت شير وشغّلني للكتابة على موقع “تروث ميديا” الإليكتروني الذي كان يحرره.
ان ما تقوم به روسيا عسكريا في أكرانيا، على الأقل حتى الآن، قد فاقته بكثير وحشية الولايات المتحدة في العراق، وافغانستان وسوريا وليبيا وفييتنام. وهذه حقيقة سوف لن تقاربها الصحافة ، وقد افتقدت القيم الأخلاقية.
الحرب التكنولوجية والإفراط في القتل
لا يوجد من يماثل العسكرية الأميركية من حيث إتقان فن الحرب التكنولوجية والمذابح الجماعية. وعندما تتسرب الجرائم الفظيعة ، مثل مذبحة المدنيين في ماي لاي الفييتنامية أو أبو غريب العراقية، فأن الصحافة تقوم بواجب إدانتها كانحرافات. أما الحقيقة فهذه مجازر متعمدة؛ وحدات المشاة مدعومة بالطائرات الحربية والمدفعية بعيدة المدى وقاذفات الفنابل الضخمة والصواريخ والطائرات المسيرة والمروحيات تسوي مساحات واسعة من أراضي “العدو”، تقتل معظم السكان. خلال غزو العراق قادما من الكويت، اقام الجيش الأميركي، منطقة إطلاق نار سعتها ستة أميال خالية، قتل فيها مئات إن لم يكن الألوف من العراقيين. أشعل القتل العشوائي التمرد . تركزت في الجنوب في حرب الخليج الأولى تمت تسوية كل شيء بالأرض. القرى والبلدات غدت خرائب محروقة ؛ الجثث، بما فيها جثث النساء والأطفال، تناثرت على الأرض؛ نظم تحلية المياه جرى تدميرها ؛ محطات الطاقة نسفت؛ كما نسفت المدارس والمستشفيات والجسور؛ دوما تشن القوات العسكرية الأميركية حروبها عن طريق ” الإفراط في القتل” ، الأمر الذي جعلها تسقط قنابل على فييتنام تعادل قوتها التدميرية قوة 640 قنبلة نووية القيت على هيروشيما ، معظمها القيت عمليا على الجنوب ، حيث أقام حلفاؤنا الفييتناميون المفترضون. ومن مبيد الأعشاب والأوراق القت في فييتنام ما يربو على 70 مليون طن، ومن الفوسفورالأبيض ثلاثة ملايين صاروخ- الفوسفور الأبيض يحرق في طريقه كل ما يعترضه- ومن النابالم اللاصق 400000 طن.
من بين ضحايا الحرب ، كما كتب نيك تيرس عن الحرب في فييتنام، خمسة وثلاثون بالمائة ” ماتوا خلال 15-20 دقيقة”. في الأغلب كان الموت يهبط على حين غرة من السماء، مثلما كان يحوم على الأرض. “لم يكن من غير المعتاد ان تمسح القوات الأميركية في فييتنام قرية بكاملها من على سطح الأرض أو تقصف بالمدفعية منطقة شاسعة من اجل الإجهاز على قناص واحد”.
في معظم الحالات كان القرويون الفييتناميون يحشرون، نساءً وأطفالا وعجزا ، في بقعة صغيرة مسورة بالأسلاك الشائكة، تعرف باسم ” حظيرة الأبقار”. يتعرضون لصدمات كهربائية والاغتصاب والتعذيب الذي أطلق عليه اسم ” ركوب الطائرة”، يعلق الفرد من القدمين مع الضرب الى أن يغمى عليه. قلعت الأظافر، وبترت الأصابع والمعتقلون يطعنون بالسكاكين، يضربون حتى يفقدوا الإحساس بمضرب لعبة البيزبول ويغمرون بالمياه. مورست على نطاق واسع الاغتيالات الهادفة تنظمها المخابرات المركزية وفرق الموت.
الدمار الشامل حتى البشر، هو تهييصة بالنسبة للعسكرية الأميركية ، وربما بالنسبة لأي عسكر. فالقدرة على أن تطلق على قرية صليات من بنادق او توماتيكية، مئات نوبات دانات المدفعية ، 90 ملم رشاشات دبابات ، مورتر وقذائف لا حصر لها، وأحيانا تدعم بمتفجرات ضخمة زنة 2700 رطل تطلق من بارجة ترسو في ميناء، هكذا كان نمط التسلية يمارسه الجنود الأميركيين في فييتنام، وغدا نفس النمط يستعمل في الشرق الأوسط.
زرعت القوات الأميركية الأرياف بالألغام. قنابل النابالم، قنابل يدوية ، صواريخ مضادة للبشر ، صواريخ شديدة التفجير، صواريخ حارقة، قنابل عنقودية، قنابل شديدة التفجير وقنابل تتفجر عن شظايا الحديد – بما فيها قنابل زنة 40000 رطل تحملها قاذفات بي52- علاوة على المواد الكيماوية والغازات الكيماوية تقذفها الطائرات، تلك هي الذخيرة المعتادة. مساحات شاسعة تعلن مناطق رماية – صيغة استبدلها العسكريون بصيغة اكثر حيادا ” مناطق مخصصة للرماية- “الضربات” – كل من يتواجد فيها عدو، حتى لو كانوا عجائز أو نساء او أطفال.
كل جندي أو مشاة البحرية يحاول التحدث عن الجرائم الحربية التي هو شاهد عليها يلاقي مصيرا أفظع من مجرد الاضطهاد أو التشهير أو التجاهل. ففي 20 أيلول / سبتمبر 19أورد تيرز في كتابه “أقتل كل شيئ يتحرك: حقيقة الحرب الأميركية في فييتنام”: ” ارسل جورج تشونكو رسالة الى ذويه سجل فيها كيف أن وحدته العسكرية دخلت منزلا به امرأة فييتنامية شابة وأربعة أطفال ورجل عجوز، وشاب في سن العسكرية. بدا أن الشاب كان مجندا بجيش فييتنام الجنوبية. جرده الجنود من ملابسه وربطوه بشجرة. ركعت زوجته وتوسلت الجنود الرأفة بزوجها. كتب تشونكو ان ‘السجين تعرض للسخرية، صفع على وجهه ولطخ وجهه بالوحل، ثم أعدم’.
“بعد يوم من تسجيل الرسالة تم قتل تشونكو. وكتب تيرز، ‘والدا تشونكو شككا في أن ابنهما قد اغتيل كي يتم إخفاء الجريمة” .
كل ذلك بقي طي الكتمان، ونحن نعبر عن غضبنا الشديد من أجل شعب أكرانيا، ونزهو بتفوقنا الأخلاقي. ان حياة الطفل الفلسطيني او العراقي هي ذات قيمة مثل حياة الطفل الأكراني.ما من أحد يجب أن يحيا في خوف وإرهاب ، ولا أحد يجب التضحية به على مذبح مارس.
سوف تتواصل هذه اللعبة المرائية للحياة والموت إلى أن يحظى بالاستحقاق المتكافئ جميع الضحايا، وتحمل مسئولية الحروب الى مشعليها ويقودهم الى العدالة ، وبذا يستحق جميع البشر الحياة. وغيرهم لا يستحقونها. اسحبوا بوتين الى المحكمة الحنائية الدولية وليقدم للمحاكمة ؛ لكن يجب أن يكون جورج بوش في الزنزانة المجاورة . فإذا لم نستطع رؤية أنفسنا ، لا نستطيع رؤية أي شخص آخر . وهذا العمي يفضي بنا الى الكارثة.