الفاعل المحلي بين تدبير المجال الحضري وضغوط المطالب الاجتماعية للجماعات السلالية
بنعاشر الركيك – جامعة ابن طفيل | المغرب
Rguigbenachir2014@gmail.com
ملخص:
يهدف هذا المقال إلى إبراز بعض المعالم الاستراتيجية التي يتضمنها تدخل الفاعل المحلي في تدبيره للمجال. هذه المعالم التي تؤكد بما لا يضع مجالا للشك، أن نجاح مختلف التدخلات رهين بمدى قدرة الفاعل المحلي على وضع استراتيجيات محكمة، تتميز بنظرة مستقبلية واستشرافية.
الكلمات المفتاحية: الفاعل المحلي، المطالب الاجتماعية، الجماعة السلالية.
مقدمة:
تعتبر عملية إدماج الجماعات السلالية في المدار الحضري للمدينة من الاستراتيجيات التي أضحى الفاعل المحلي يلجأ إليها في مختلف التدخلات المرتبطة بالتوسع الحضري، سعيا منه إلى تدبير محكم للمجال، حيث أصبح الفاعل المحلي يسعى إلى توسيع المجال الحضري للمدينة عبر إدماج الجماعات السلالية في المدار الحضري، بعدما استعصى عليه توفير بنية عقارية كافية لنمو المدينة بشكل طبيعي، غير أن ذلك، سرعان ما يواجه بالرفض من قبل الجماعات السلالية المالكة لهذا النوع من الأراضي؛ ذات الطابع الجماعي المشترك، الأمر الذي يؤدي إلى توترات وضغوط من كلا الطرفين؛ يضغط الفاعل المحلي من أجل توسع المدينة بمقومات حضارية سليمة، ويضغط السلالي من أجل الحفاظ على عاداته وأعرافه ومعالم مجاله التقليدي.
وتبعا لذلك يمكن الحديث عن الجماعة السلالية الرحاونة التي تنضبط أراضيها لثقافة الملكية الجماعية، فهي في ملك القبيلة لا الأفراد، وتعد من أقدم الأنظمة العقارية التي عرفها المغرب. فالنظام السكاني-القبلي ذو الثقل الثقافي والموروث العرفي بدأ يتقاطع مع نظام دولتي-إداري ذو الحضور القانوني والرقابة السياسية. هذا التقاطع أصبحت معه قراءة وضعية الجماعات السلالية خلال مغرب القرن التاسع عشر، أو أثناء الفترة الاستعمارية تختلف عن قراءة الآن! فهي الآن مرتبطة بشرط تاريخي يتم الانتقال فيه من معطى القرية إلى الجماعة ذات النمط الحضري. وبذلك أصبحت الجماعات في هذه القراءة متحكما فيها عبر آلية القانون عوض العرف، غير أن هذا الانتقال الملحوظ يتم، في الغالب، على مستوى المجال السكاني أو الجوار المكاني، ولا يتم، كليا، على المستوى الاقتصادي والسوسيوثقافي.
وكما هو معلوم فإن الطابع الجماعي المشترك للجماعات السلالية، يجعلها تتفاوض ” ككل متماسك، ولا يسمح لأي فرد من القبيلة أن ينهج استقلالا ما، في الرأي أو في التعامل مع أي كيان آخر، هذا الالتحام المبني على ثقافة عضوية، هو الذي لا زال لحد اليوم يقف في وجه كل محاولات إضعاف النسيج القبلي أو تهشيشه اجتماعيا”[1].
فلجوء الفاعل المحلي إلى إدماج الجماعات السلالية في المدار الحضري للمدينة، سرعان ما يواجه بالرفض من قبل الجماعات السلالية المالكة لهذا النوع من الأراضي، ذات الطابع الجماعي المشترك، الأمر الذي يؤدي إلى توترات وضغوط من كلا الطرفين؛ يضغط الفاعل المحلي من أجل توسع المدينة بمقومات حضارية، ويضغط السلالي من أجل الحفاظ على عاداته وأعرافه ومعالم مجاله التقليدي.
ضمن هذا السياق يبقى الإشكال المطروح، أمام الفاعل المحلي، هو السبل الكفيلة بتوسع المجال الحضري بشكل متوازن دون المساس بالعادات والتقاليد القروية، فالانتقال من مجتمع آلي تسوده القوانين إلى مجتمع عضوي تنظمه الأعراف، فيه نوع من المخاطرة، التي يصعب معها تحقيق اندماج شامل لهذه الجماعات، بما يعنيه، ذلك الاندماج، من ممارسات وسلوكات تتماشى ونمط العيش الحضري.
ويبدو واضحا أن إشكالية الأراضي الجماعية، لا تفهم إلا في نطاق منطق هذا النظام الجماعي الذي يتم تدبيره “بشكل مشترك، عن طريق مؤسسة “اجماعة” كبنية تنظيمية مؤطرة للحياة المجتمعية داخل القبيلة، بحيث يتم توزيع حق الانتفاع وليس التملك بالتساوي بين مختلف العائلات المكونة للقبيلة”[2]، وبذلك نكون أمام تنظيم داخلي للأراضي المشتركة، حيث يكون التداول في الشأن العام ضمن هذه المؤسسة الاجتماعية التقليدية، التي بدأت تعرف نوعا من الاندثار في الآونة الأخيرة، بفعل مثيرات خارجية -كانت إلى عهد قريب تواجه بنوع من الحدة والحذر من قبل أفراد المجتمع القبلي- ساهمت في بروز تحولات كبيرة خلخلت التماسك العضوي الذي كان سائدا من قبل. هذا الواقع يكاد يكون شبيها بوضعية الجماعات السلالية الواقعة في المدار الحضري لمدينة سيدي يحيى الغرب، فرغم التحولات التي تطالها، ما تزال محافظة على طابعها القروي ومتشبثة به.
فالأراضي التي توجد بضواحي مدينة سيدي يحيى الغرب، تؤطرها أنظمة عقارية مختلفة ترتبط بنوعية الأرض، الأمر الذي يجعل من التوسع الحضري بها أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا في بعض الأحيان، بفعل الحركية الجديدة التي أصبحت تثيرها الأراضي الواقعة بالمدار الحضري، وتحديدا الأراضي الجماعية، وما يصاحب تلك الحركية من اختلالات مجالية وبروز مطالب اجتماعية جديدة (مطالب النساء السلاليات)، ومشاكل أخرى عديدة ترتبط بإعادة الإسكان، وتنظيم المجال والاندماج الحضري، وتنامي العنف والجريمة…
وبذلك يكون من الطبيعي الاهتمام بهذه الحركية ومحاولة الوقوف على مظاهرها وتجلياتها المختلفة، سواء داخل المدينة أو داخل القرية، ومحاولة متابعتها متابعة تشخيصية للعلل والأسباب وتفحص كل العلاقات الممكنة بين الظواهر.
أولا: دوار الرحاونة بين الاندماج الحضري والانشداد إلى النظام السلالي
ينطوي التساؤل عن المجال على هدف قياس جملة من التحولات الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية التي بصمت ظروف الوجود ومسار الدوار-الرحاونة-، خاصة وأن الارتباط بالمجال يتجلى في التفاعل معه عبر أنشطة متعددة، تتجاوز ما هو اقتصادي فلاحي إلى ما هو سياسي وثقافي يحدد اشتغال الدوار وعلاقته الداخلية والخارجية، فدوار الرحاونة لم يكن بالمرة معزولا عن الإنسان الذي يمتلكه ويعيش فيه ويتفاعل معه اجتماعيا وسياسيا. بل ينتج فيه علاقات ومؤسسات دالة عليه، ومحددة لهويته وامتداده التاريخي الذي يتم بالدوار.
قبل مجيء المستعمر إلى المنطقة لا تتوافر معلومات دقيقة وواضحة عن تشكل الدوار والتركيبة البشرية التي تشكل منها، ذلك أن الكتابات التي تناولت المنطقة لا تتضمن سوى إشارات عامة ومختصرة عن مدينة سيدي يحيى الغرب في علاقتها بالدوار، غير أنه إذا عدنا إلى الرواية الشفهية يمكننا العثور على شهادات تؤرخ لتشكل الجماعة السلالية وتكون هياكلها القبلية، فالحديث عن دوار الرحاونة هو حديث بالضرورة عن الشنانفة، حيث أن ” خلق مركز سيدي يحيى الغرب في أوائل القرن (سنة 1919) قد تم على الأراضي القبلية للجماعات السلالية المحلية المسماة “الشنانفة” قبل أن تتم عملية التحديد الإداري للملك الجماعي العائد إلى كل جماعة سلالية على حدة في بداية الثلاثينات من القرن الماضي (1933)، والتي تم بموجبها تحديد الأراضي الجماعية ” للرحاونة”، هذه الأراضي التي صارت مجالا للتوسع العمراني”[3].
ففي الفترة الاستعمارية كان يتنبأ المستعمر لمستقبل أراضي الجماعة السلالية بدوار بدوار ارحاونة، فأسس قاعدة عسكرية بأراضي الجماعة، وعمل على تشتيت أفرادها، عبر آلتي الاعتقال والنهب، وذلك باعتقال أفراد الجماعة ونهب أراضيهم -تم نهب 565 هكتار، وبناء بعض المنازل بمدينة سيدي يحيى لفائدة الجماعة السلالية، تم تفويتها في سنة 1985 للسكان القاطنين بها، مما أدى إلى ظهور مشاكل واحتجاجات لا يزال صداها يتردد في كثير من الأحيان. هي مشاكل تعود في نظرنا إلى مخلفات الاستعمار، الذي لم يكن يهدف من وراء السياسات التي يقوم بها سوى القضاء على كل أشكال التنظيمات الاجتماعية القبلية، فالغاية من وراء التقسيم الإداري الذي جاء به المستعمر “هي القضاء إداريا وعاطفيا على الإطار القبلي كنموذج تقليدي للتنظيم الاجتماعي، وتعويضه بتنظيم جديد يستجيب لمقتضيات الحداثة”[4].
تختلف قراءة الرحاونة خلال مغرب القرن التاسع عشر، أو أثناء الفترة الاستعمارية عن قراءة الآن! فهي الآن مرتبطة بشرط تاريخي يتم الانتقال فيه من معطى الدوار إلى الجماعة ذات النمط الحضري. وبذلك يصبح الدوار في هذه القراءة متحكما فيه عبر آلية القانون عوض العرف، غير أن “هذا الاندماج الملحوظ قد تم على مستوى المجال السكاني أو الجوار المكاني، فإنه لم يتم كليا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي: إذ ما يزال دوار الرحاونة يشكل مجالا سكنيا لأفراد وأسر الجماعة السلالية (دوار سلالي) بالرغم من تزايد نسبة “البراني” بهذا الدوار، وما يزال كذلك النشاط الاقتصادي لأفراده مرتبطا في جانب كبير منه بالفلاحة والكسب”[5]،
و”معلوم أن السكن أو المحطات السكنية التي يتألف منها دوار الرحاونة لا تشكل مجالا سكنيا محضا، بل هي امتداد للنشاط الاقتصادي والفلاحي والرعوي لساكنته. ولهذا نجد الدوار في صورته الخارجية ومشهده العام يعكس هذا الطابع القروي (نوعية السكن، بعض الأشجار المثمرة التقليدية، بعض النباتات الواقية والاستهلاكية-أشجار التين الهندي…). كما نجد أن المحطة السكنية من الداخل لا تشمل فقط السكن بل الإسطبل أو مربط دواب الجر والنقل وأحيانا الفرس بالإضافة إلى الدواجن وبعض الآليات الفلاحية الصغيرة وبعض المرافق المنزلية التابعة كالفرن التقليدي والبئر…إلخ.”[6]
وبالرغم من تزايد نسبة الأنشطة غير الفلاحية لأفراده وخاصة منها تلك الأنشطة المرتبطة بالمجال الحضري لسيدي يحيى الغرب والمندمجة فيه (تجارة، عمل يدوي ومهن خاصة…).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك دراسات نادت بضرورة إدماج الدوار بما يناسب خصوصيته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعقارية كدوار سلالي مختلف عن الخصوصيات الاقتصادية والسوسيوثقافية للدواوير الحضرية المجاورة[7].
وكما هو معلوم أن الطابع العائلي ضمن هذا الوجود الجماعي غالب أيضا. إذ يعمل كل خط نسب مشترك في جد كعلوم (عظم) إلى استغلال المجال السكني (المحطة) بشكل جماعي عائلي (عائلة موسعة تتألف من عدة أسر)، وإن كان الاتجاه يسير نحو تفكك هذا النمط العائلي الموسع لصالح نمط أسروي أكثر ضيقا دون أن يقطع كلية مع روابطه العائلية سواء عبر السكن المتجاور أو عبر سلوكات ومواقف وآليات تعكس الطابع العائلي الموسع ذاك”[8].
ومنذ القدم يعد العمل الفلاحي والأنشطة الزراعية وأشكال الرعي المتنوعة، من الوظائف الأساسية للإنسان القروي بجماعة الرحاونة، بما في ذلك الرجال والنساء، حيث تعتبر الأرض من مصادر العيش وتدبير الحياة الاجتماعية. والملاحظة التي يمكن تسجيلها هنا هو أن عدد غير قليل من الأسر الحديثة التي نشأت مؤخرا لا تملك جزءا من الأرض يكفيها لسد حاجياتها مع العلم أن الاستفادة من الأرض حسب الأعراف السائدة تكون قائمة على اعتبار الزواج، وذلك راجع إلى التقلص الذي أصبحت تعرفه أرض الجماعة بفعل العديد من العوامل، يأتي في مقدمتها النمو الحضري الذي تعرفه مدينة سيدي يحيى الغرب.
وقد توالت عمليات تفويت الأراضي الخاصة بالجماعة السلالية الرحاونة، دائما في ارتباط بإشكالية دور الصفيح بالمدينة، لفائدة المجال الحضري الذي يعاني من تواجد أحياء صفيحية معقدة التركيبة اجتماعيا ومورفولوجيا، من حيث المجال، بتشكيلها ثلثي ساكنة المدينة، مؤهلة للارتفاع مستقبلا بتوافد أفواج مهمة من اليد العاملة التي سترافق مشروع المحطة الصناعية، وعجز المقاربة الكلاسيكية التي استعملت للقضاء على الدور الصفيحية بهذه المدينة رغم كل المجهودات التي بذلت من طرف المتدخلين في إطار الاتفاقيتين السابقتين (2004/2005 و 2004/2007) للبرنامج الوطني “مدن بدون صفيح” الذي يهم المدينة، وبذلك تم اقتراح تفويت عقارين تابعين للجماعة السلالية الرحاونة بدرهم رمزي لفائدة الجماعة الحضرية سيدي يحيى الغرب من أجل حل إشكالية العقار الذي يعيق أجرأة برنامج مدن بدون صفيح وعقار ثالث لفائدة شركة العمران، سنحاول التفصيل في ذلك في الشق المتعلق بعرض المعطيات الميدانية.
وعموما فهذا المجتمع القروي يعرف تحولات ديموغرافية واجتماعية وثقافية…تجعل النظرة إلى مختلف القضايا تختلف حسب الأجيال، وذلك بفعل الانفتاح -إلى حد ما-على العالم الخارجي، والموقف المحافظ منها يجد ما يبرره على مستوى الإمكانيات المتاحة من ناحية، والتهميش الذي يعاني منه المجتمع القروي من ناحية أخرى.
ثانيا: الجماعة السلالية الرحاونة من مجتمع قروي تنظمه الأعراف إلى مجتمع حضري تنظمه القوانين.
الاهتمام بتأثير الانتقال من البداوة إلى الحضارة اهتمام قديم، وقد لاحظ ابن خلدون أن بين البداوة وبين الحضارة درجات عديدة، وأن بعض الأقوام تكون في حالة انتقال من البداوة إلى الحضارة. ويرتب ابن خلدون على هذا الانتقال آثارا معينة ومنها أن الشجاعة تتناقص كلما زاد القوم اتصالا بحياة الحضارة وتباعدوا عن حياة البداوة[9]. غير أن الكتاب المعاصرين يختلفون في تقديرهم لنوع ودرجة استجابة البدو لمطالب التغير الحضاري وللمشروعات التي أعدت وتعد لإدماجهم في مسلسل النمط الحضري.
وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن الجماعات السلالية التي تنضبط أراضيها لثقافة الملكية الجماعية، فهي في ملك القبيلة لا الأفراد، وتعتبر أقدم نظام عقاري عرفه المغرب. هذا النظام السكاني-القبلي ذو الثقل الثقافي والموروث العرفي بدأ يتقاطع مع نظام دولتي-إداري ذو الحضور القانوني والرقابة السياسية.
إن الطابع الجماعي المشترك للجماعات السلالية، يجعلها تتفاوض ” ككل متماسك، ولا يسمح لأي فرد من القبيلة أن ينهج استقلالا ما، في الرأي أو في التعامل مع أي كيان آخر، هذا الالتحام المبني على ثقافة عضوية، هو الذي لا زال لحد اليوم يقف في وجه كل محاولات إضعاف النسيج القبلي أو تهشيشه اجتماعيا”[10].
ويبدو واضحا أن إشكالية أراضي الجماعات السلالية، لا تفهم إلا في نطاق هذا المنطق وهذا النظام الجماعي الذي يتم تدبيره “بشكل جماعي، عن طريق مؤسسة “اجماعة” كبنية تنظيمية مؤطرة للحياة المجتمعية داخل القبيلة، بحيث يتم توزيع حق الانتفاع وليس التملك بالتساوي بين مختلف العائلات المكونة للقبيلة”[11]، وبذلك نكون أمام تنظيم داخلي للأراضي المشتركة، حيث يكون التداول في الشأن العام ضمن هذه المؤسسة الاجتماعية التقليدية، التي بدأت تعرف نوعا من الاندثار في الآونة الأخيرة، بفعل مثيرات خارجية -كانت إلى عهد قريب تواجه بنوع من الحدة والحذر من قبل أفراد المجتمع القبلي- ساهمت في بروز تحولات كبيرة خلخلت التماسك العضوي الذي كان سائدا من قبل. هذا الواقع يكاد يكون شبيها بوضعية الجماعة السلالية الرحاونة، فبالرغم من احتكاك الدوار بمدينة سيدي يحيى الغرب، ورغم التحولات التي طالت الجماعة، ما تزال الجماعة السلالية الرحاونة محافظة على طابعها القروي.
ضمن هذا السياق لا بأس أن نشير إلى أن “اجماعة” باعتبارها مؤسسة اجتماعية تنظيمية محلية ترتبط بالدوار، كانت إلى عهد قريب توكل إليها مهمة تنظيم المشترك الجمعي للعائلات المتحدرة مبدئيا من جد مشترك وتنتمي لنسق قبلي واحد، و” كانت بالأمس القريب محور كل الرهانات ومفتاح كل الاحتمالات في دينامية النسق القبلي، محليا في إطار تدبير العلاقات بين أفراد القبيلة وخارجيا في إطار التعامل مع القبائل الأخرى والمخزن والزوايا، لكنها اليوم، وبفعل التحولات العميقة التي مست وظيفة هذه المؤسسة، بدءا من مغرب القرن التاسع عشر، ومرورا بزمن الاستعمار وانتهاء بمغرب ما بعد الاستقلال، حيث تم الاستمرار في تكسير البنيات القبلية واستبدالها بتنظيمات إدارية قائمة على فكرة اللاتجذر الاجتماعي لفاعليها ومدبريها. فإن مجموع هذه التحولات كان له الأثر البالغ في تغيير ملامح هذه المؤسسة وتغيير وظائفها وأدوارها، بل إن التغير سيصير في بعض الأحايين تحويرا للمهام الأصلية التي حتمت الانوجاد الأولي في تضاريس النسق المجتمعي”[12].
وتعد حتمية النمو الحضري على حساب الأراضي الجماعة السلالية الرحاونة من بين أهم المثيرات الخارجية التي بدأت تغزو تماسك الأنظمة القبلية للجماعة، وتساهم في تهشيش واندثار المشترك القبلي وعضويته، فالمجال الترابي القبلي الذي كان دوما مركز صراع بل واقتتال إما داخلي وإما خارجي، بهدف الحفاظ على الملكية وحمايتها من أي سيطرة، وخاصة منها ملكية الأرض، بدأ ينصهر مع مجال يسوده التنظيم الآلي[13] “وتغدو ملكية الأرض هدفا ساميا لأنها المكان الذي تمتد فيه القبلية وتعيد إنتاج وجودها وما يرتبط به من قيم ومبادئ ورموز”[14].
ويبدو واضحا أن الانتقال من مجتمع عضوي إلى مجتمع آلي، يلوح في الأفق إلى نوع من المزيج والتداخل والتثاقف، وبذلك يكون من الصعب التمييز بين القروي والحضري.
- إدماج الجماعة السلالية الرحاونة في المجال الحضري لمدينة سيدي يحيى الغرب.
تعتبر معرفة الكيفية التي يتم بها إدماج الدواوير السلالية في التنمية الحضرية، ضرورة أولية في تحليلنا لإشكالية أراضي الجموع الواقعة في النطاق الحضري للمدينة، لكن قبل ذلك يلزمنا إقامة “تمييز، من جهة، بين الدواوير الحضرية أو ما يعرف أحيانا بمدن الصفيح والتي كان لنموها وتضخمها علاقة بنوع التطورات العامة التي عرفها المجتمع المغربي منذ المرحلة الاستعمارية (تفقير البوادي وهجرة أهلها إلى المدن، تكون أحياء هامشية احتياطية لليد العاملة، إهمال تجهيز هذه الأحياء وعدم إدماجها في النمو والتخطيط الحضري للمدن، وأهم هذه الدواوير بالنسبة لسيدي يحيى الغرب هي دوار “الشانطي” و “دراعو” و “الخيرية)، التمييز بين هذا النوع من الدواوير وبين الدواوير القروية المرتبطة بالتجمعات السكنية لسكان البوادي المغربية، وهي دواوير عادة ما تكون مبنية على أصول قرابية واجتماعية وعلى روابط ترابية واقتصادية موحدة ومشتركة”[15]
ضمن هذا السياق تظهر الجماعة السلالية الرحاونة كدوار مندمج في المجال الحضري، يصعب إقامة تمييز بينه وبين الدواوير الحضرية لسيدي يحيى الغرب، حيث “انصهرت ساكنة الجماعة السلالية مع المدينة، وأصبحت جزء من ساكنة المدينة”[16]، غير أنه مع ذلك لا ينبغي الإقرار بالاندماج الكلي للدوار في سيرورة الحياة الحضرية بالمدينة، “فالحديث عن نمط عيش الجماعة السلالية، يدفعنا إلى الحديث عن أعراف وعادات وقيم وتقاليد الجماعة، فالإنسان الرحواني لم يتخلص من رواسبه بعد، ولم يستطع ارتداء معطف المديني، فقد كان يعيش نوعا من الانفصال الإداري والسياسي بعيدا عن النظام السائد في المدينة، وبجرة قلم أضحى إنسان حضري، فالإنسان الذي كان يهمه فقط أن يكون الواد مملوء (واد تيفلت) وتكون الكسيبة على أفضل حال، واستقبال اعبيدات الرمى في مهرجانات صغرى بالدوار، وتنظيم اللامة وخلق السعادة، والحفاظ على العلاقات الإثنية، ورؤية الخضروات والأشجار… سيصبح إنسان مديني يعيش على النمط الحضري”[17].
ومن البديهي أن يكون نمط عيش الجماعة السلالية الرحاونة تقليديا، فالأبقار والعربات التي نجدها، دوما، في شوارع المدينة، في ملك الجماعة السلالية، وبمجرد الدخول إلى الدوار تظهر بعض الأنشطة ذات النمط الفلاحي، وبذلك تصطدم مسألة إدماج الدوار في المجال الحضري للمدينة بالخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعقارية لهذه الجماعة السلالية، ناهيك عن اصطدامها بمسألة أن “خلق مركز سيدي يحيى الغرب في أوائل هذا القرن (سنة1919) قد تم على الأراضي القبلية للجماعات السلالية المحلية المسماة “الشنانفة” قبل أن تتم عملية التحديد الإداري للملك الجماعي العائد إلى كل جماعة سلالية على حدة في بداية الثلاثينات من هذا القرن (سنة 1933) والتي تم بموجبها تحديد الأراضي الجماعية “الرحاونة”، هذه الأراضي التي صار جزء هام منها مجالا للتوسع العمراني لهذا المركز السكني الناشئ، أي مركز سيدي يحيى الغرب كقرية لإقامة المعمرين والذي ما يزال إلى الآن يطلق عليه اسم “الفيلاج” (village)”[18].
لقد كانت مساحة الجماعات السلالية عموما، والجماعة السلالية الرحاونة خصوصا، كبيرة، حيث كان في حوزتها 886 هكتار، ومع التنقلات التي كان يقوم بها المعمرون في المغرب تقلصت هذه المساحة عبر توالي الأزمان، على الرغم من أن الأراضي السلالية لم تكن معروفة وغير محددة، ومع خروج الاستعمار من المغرب وقعت صراعات بين القبائل للاستحواذ على الأراضي، قبل أن يتم حل النزاعات والاتفاق على تحديد الأراضي بينهم. كل ذلك يخلق قلق يلازم ذهنية الإنسان بدوار الرحاونة، قلق يستشف من خطاباتهم التي تنادي بالتشبث بالأرض وتعتز بالانتماء القبلي لهذه الجماعة السلالية. الحديث هنا حديث عن إشكالية كبرى تتعلق بمدار حضري يضم جماعة سلالية لم تتخلص من رواسبها الثقافية، وتحس بأنها تدخل المدينة لبعض الخدمات، ففي ذهن هؤلاء السلاليين والسلاليات حاجز عدم انتمائهم للمدينة بالرغم من إلحاقهم بالمدار الحضري.
ورغم التحولات التي مستهم لازال السلالي يؤمن بسلاليته لدجة أنه يفتخر بانتمائه القبلي، ويصرح بأنهم كانوا فقط ثلاث عائلات، (البرارحة والغزاونة والبنعسيين) وما تبقى فهو غريب (براني). إن الاعتزاز بالقبيلة والنواة الأولى لها لازال قائما في ذهنية سكان الجماعة السلالية، حيث يطغى طرح أن المدينة قد قامت كلها على أنقاظ أراضي الجماعة السلالية الرحاونة.
فمنذ نشوء المدينة وهي تتوسع على حساب أراضي الجماعة السلالية الرحاونة، وذلك إما عبر مسطرة نزع الملكية[19]، وإما عبر توسعات عفوية اقتضاها النمو الديموغرافي المتسارع للمدينة، وخاصة عبر رافد الهجرة، حيث تكونت وتوسعت بعض الدواوير الحضرية (دوار الشانطي، دوار دراعو، دوار الخيرية…).
وعلى الرغم من توافد عدد كبير من السكان إلى الدوار، ما يزال الدوار يشكل مجال سكني لأفراد وأسر الجماعة السلالية (دوار سلالي) رغم تزايد نسبة “البراني” بهذا الدوار، وهو ما تترتب عنه توترات وصراعات –رفض الجماعة السلالية استفادة هؤلاء من البقع الأرضية-ما تزال قائمة إلى يومنا هذا، وما يزال كذلك النشاط الاقتصادي لأفراده مرتبطا في جانب كبير منه بالفلاحة والكسب، على الرغم من تزايد الأنشطة غير الفلاحية لأفراده، خاصة منها تلك الأنشطة المرتبطة بالمجال الحضري لسيدي يحيى والمندمجة فيه[20].
- مشروع التهيئة لإدماج دوار الرحاونة في المدار الحضري ومقترحاته.
في إطار إيجاد حلول ناجعة لإشكالية دور الصفيح بمدينة سيدي يحيى الغرب، خاصة وأن هذه الأحياء الصفيحية معقدة التركيبة اجتماعيا ومورفولوجيا، من حيث المجال، بتشكيلها ثلثي ساكنة المدينة، مؤهلة للارتفاع مستقبلا بتوافد أفواج مهمة من اليد العاملة التي سترافق مشروع المحطة الصناعية، وعجز المقاربة الكلاسيكية التي استعملت للقضاء على الدور الصفيحية بهذه المدينة رغم كل المجهودات التي بذلت من طرف المتدخلين في إطار الاتفاقيتين (2004/2005 و 2004/2007) للبرنامج الوطني “مدن بدون صفيح” الذي يهم المدينة، فإنه بات من الضروري اعتماد مقاربة جديدة تعتمد مبدأ التشارك والتعاقد مع كل الفاعلين[21].
وقد حتم ذلك على المدينة التوسع صوب عقار الجماعة السلالية الرحاونة، وذلك راجع إلى أن جزء مهم من الحي مهدد بالفيضانات نظرا لتواجد بمنطقة فيضية، وحي تعتبره شركة العمران في عداد الأحياء التي تمت هيكلتها على الرغم من إخفاق العملية، وكذا قرب الأحياء الصفيحية من مشروع القطب الصناعي MEDZ الذي تم إنشاؤه سنة 2010 بإقليم القنيطرة.
ولتجاوز هذه المشاكل والقضاء على الدور الصفيحية بالمدينة تم اقتراح مقاربة أسست على تفويت عقارين تابعين للجماعة السلالية الرحاونة بدرهم رمزي لفائدة الجماعة الحضرية سيدي يحيى الغرب من أجل حل إشكالية العقار الذي يعيق أجرأة برنامج مدن بدون صفيح وعقار ثالث لفائدة شركة العمران.
العقار الأول: يخص 34 هكتار 80 آر 90 سنتيار الذي يقام عليه دوار الشانطي قصد تسوية وضعيته القانونية لتمكين الساكنة من الحصول على رسوم عقارية فردية تسمح لها بالولوج للقروض FOGARIM.
العقار الثاني: يهم 17 هكتار 78 آر 07 سنتيار الذي يأوي دوار الرحاونة التي ترجع ملكيته للجماعة السلالية الرحاونة التي اشترطت إعادة هيكلة الدوار لفائدة ذوي الحقوق كشرط أساسي لقبول تفويت 51 هكتار لفائدة شركة العمران لإنجاز تجزئة سكنية في إطار برنامج “مدن بدون صفيح” والتي ستوفر 1248 بقعة أرضية لفائدة ساكنة الدور الصفيحية بالمدينة.
هذا وتجدر الإشارة أن شركة العمران أبدت موافقتها على تحويل الأرصدة المالية الصافية المتبقية من إنجاز تجزئة الوحدة 4 لفائدة عملية إعادة هيكلة دوار الرحاونة.
العقار الثالث: يتعلق الأمر ب 51 هكتار 56 آر 10 سنتيار غير مبنية لتمكين شركة العمران من إنجاز التجزئة السكنية الوحدة 4 التي تقدر تكلفتها الإجمالية بحوالي 205 مليون درهم.
والمشروع عموما يتكون من 2271 بقعة تخصص منها 1248 لإيواء قاطني دور الصفيح في إطار البرنامج دور بدون صفيح، وتخصيص مساحة 3.5 هكتار لفائدة وزارة الصحة لإنجاز مستشفى للاختصاصات بالمدينة، وبقع أرضية لإنجاز مرافق القرب الاجتماعية، الاقتصادية والإدارية لفائدة ساكنة التجزئة على مساحة 42445 متر مربع.[22]
ويتوخى المشروع التأثر على الجماعة السلالية المالكة للوعاء العقاري للمشروع، وذلك بتفويت هذا العقار مقابل تجهيز دوار الرحاونة بالبنيات التحتية وتمليك بقع سكنية لذوي الحقوق، والتأثير كذلك على الجماعة المحلية التي يتواجد المشروع في نفوذها الترابي بتمكينها من محاربة السكن غير اللائق، وذلك بانخراطها في تنفيذ برنامج مدن بدون صفيح وحل مشكل دوار الشانطي بتوفير وعاء عقاري له. هذا ناهيك عن حماية المدينة من الفيضانات ومحاربة السكن غير اللائق.
- إعادة هيكلة أم تجزئة عمرانية؟
ينطوي التساؤل عن عملية الاختيار هذه على هدف قياس درجة القبول والرفض لمسألة الاندماج في المجال الحضري، والتخلي، بالتالي، عن المعالم القروية، فالمفهوم البسيط لإعادة الهيكلة هو تزويد الدوار بالبنيات التحتية مع الحفاظ على معالم الحياة القروية ونمط العيش البدوي السائد لدى الجماعة السلالية الرحاونة (الحفاظ على مساحة السكن الشاسعة، البناء التقليدي، الحفاظ على الحظيرة…)، على اعتبار أن “السكن والمحطات السكنية التي يتألف منها هذا الدوار لا تشكل مجالا سكنيا محضا، بل هي امتداد للنشاط الاقتصادي الفلاحي والرعوي لساكنته. ولهذا نجد الدوار في صورته الخارجية ومشهده العام يعكس الطابع القروي (نوعية السكن، بعض الأشجار المثمرة التقليدية، وأحيانا بعض الفلاحات المنزلية الصغيرة…). كما نجد أن المحطة السكنية من الداخل لا تشمل فقط السكن بل الإسطبل أو مربط دواب الجر وعربة النقل وأحيانا الفرس بالإضافة إلى الدواجن وبعض الآليات الفلاحية الصغيرة وبعض المرافق المنزلية التابعة كالفرن التقليدي والبئر…إلخ”[23]
والمعنى الأقرب إلى تجزئة عمرانية هو تغيير معالم الدوار، بشكل كلي، بحيث يصبح متوفر على جميع مقومات المجال الحضري. هذا الرهان يقابل بدرجة التكيف والاندماج في الحياة الحضرية، فإذا كان التحضر هو انتشار لنمط العيش الحضري، فإنه سيرورة من سيرورات التعبير تتم بواسطة انتقال أهل البادية إلى المدينة، أو تحول المناطق الريفية الى مناطق حضرية، وعادة ما تؤثر هذه العملية على التركيب المهني والاجتماعي والاقتصادي لسكان البدو والحضر على السواء.
وإذا كان مفهوم التحضر يشير إلى أكثر من الارتفاع أو الانخفاض في عدد سكان المدينة والقرية والانتقال من الزراعة إلى الصناعة، إذ يتضمن تغيرا في حياة الإنسان الذي ينتقل إلى المدينة، كما يضم تغيرا في جو العمل الذي يتطلب بدوره تقسيما جديدا، ويمكن تعريف التحضر على أساس أنه تلك العملية التي تصبح بها الحضرية أسلوبا مميزا للحياة.
ضمن هذا السياق يبقى لزاما علينا التأكيد على أن الأمر بالنسبة لسكان الجماعة السلالية الرحاونة، يختلف عن وضع السكان الذي ينتقلون إلى المدينة بمحض إرادتهم، فسكان الجماعة السلالية المعنية بالدراسة يتم نقلهم إلى المدينة لبعض الخدمات –كما عبر عن ذلك أحد الفاعلين-، وبذلك ينطرح سؤال المستقبل بقوة على الفاعل المحلي، هل مستقبل الجماعة السلالية الذي تم التعبير عنه عبر مطالب اجتماعية متعددة حاضر في استراتيجيات الفاعل المحلي الممثل في الجماعة الترابية بسيدي يحيى الغرب؟. البحث عن جواب عن هذا السؤال يدفعنا إلى مساءلة استراتيجية الفاعل المحلي عبر تحليل الوثائق التعميرية.
إن مسألة تدبير شأن التهيئة الحضرية لها ضوابط قانونية تحدد كيفية إنجاز تصميم التهيئة ومدته، وذلك واضح في النظم القانونية المؤطرة له، غير أن الإشكال المطروح هنا يرتبط بالبعد الاستشرافي، ف”جماعة الترابية ليس لها تصور استراتيجي واضح المعالم على ضوئه يمكن للجماعة تدبير النمو الحضري في علاقته بالوعاء العقاري للجماعة السلالية الرحاونة، هناك بعض الإجراءات التي اتخذت على المستوى الإقليمي، بموجبها تم وضع مقاربة تزاوج بين الأراضي السلالية وغير السلالية، لكن الجماعة لا تتحمل المسؤولية في تدبير شأن التهيئة الترابية للمدينة، فهو تدبير إقليمي صرف، والقرارات كلها تؤخذ على المستوى الإقليمي، بالرغم أن الجماعة أعطيت لها اختصاصات التدبير المحلي، ومع ذلك فالجماعة غير مبادرة لتدبير الشأن المحلي للمدينة”[24]. وعلى الرغم من أن الجماعة الترابية هي الفاعل الرئيس في تدبير شأن المدينة ككل، فليس لها بعد استراتيجي، وليس لها كذلك رؤية مستقبلية للمدينة حتى في بعدها القريب.
وفي ظل غياب رؤية استراتيجية يغيب التدبير، ل”نأخذ مثلا مشكلة القطاع غير المهيكل، الذي يطرح مشكل لدى السلطات والجهات المعنية، فليس هناك باحات للباعة المتجولين أو مركز تجاري. وفي المجال السكاني تعاني المدينة من دور الصفيح الذي لا زال يغطي ضواحي المدينة بشكل كبير. هذا إن دل على شيء فإنما يدل على غياب رؤية استراتيجية لتدبير المدينة من الناحية الديموغرافية والاقتصادية والسوسيوثقافية، يجب توفر مرافق جديدية ومساحات جديدة التي تأوي الساكنة، فبالإضافة إلى النمو الديموغرافي الذي تعرفه المدينة بفعل الهجرة القروية في اتجاه المدينة أصبحنا نلاحظ توافد أعداد كبيرة من السكان من مختلف المدن الأخرى إلى المدينة للعمل في الوحدة الصناعية التي أقيمت بالقرب من المدينة، والتي تستوجب توفير دور سكنية لها، ولذلك إن لم يتم تدبير شأن التهيئة الحضرية بالشكل الجيد ستتفاقم الوضعية الحضرية للمدينة”[25]. هذا ناهيك عن تصميم التهيئة الذي انتهت صلاحيته في سنة 2016، وغياب وثائق التعمير وهاجس تنظيم المدينة، يبقى مع ذلك الطابع العشوائي هو الطاغي.
وفي هذا الإطار يصعب إنجاز عمل تركيبي –أثناء إعداد مخطط توجيهي لمجال حضري-يأخذ بالاعتبار مجمل المكونات المرتبطة بذلك المجال، ويحصر كافة المتغيرات ذات الأثر في صيرورته وتطوره، وإن كانت المتغيرات والمكونات الكبرى والحاسمة واضحة ومعروفة على العموم (طبيعية وديموغرافية واقتصادية وعقارية…)[26].
وكما سبق وتمت الإشارة فإن “جزءا هاما من الأنشطة الاقتصادية لساكنة هذا الدوار ما تزال مقترنة بالفلاحة، وخاصة بأرض المرجة المجاورة لواد تيفلت والقريبة من الدوار، ومقترنة كذلك بالرعي والكسب لكي لا نقول تربية الماشية، ولا يمكن لأصحابها الاستغناء –بين ليلة وضحاها-عن حيواناتهم وآلياتهم ونمط عيشهم”[27].
وعموما فالإجراءات المتسرعة وغير المخطط لها، والتي لا تستشرف البعد المستقبلي دائما ما يكون لها الأثر السلبي على المدينة، حيث ابتدأ مشروع إدماج دوار الرحاونة في المجال الحضري بإعادة الهيكلة، وانتهى بتجزئة عمرانية.
- المطالب الاجتماعية للجماعة السلالية الرحاونة.
عرفت الساحة الوطنية خلال العقد الأخير تنامي المطالب الاجتماعية للنساء السلاليات بخصوص حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالحرمان المتعدد الأوجه من الانتفاع من الأراضي السلالية، وخاصة منها تلك الواقعة بالدوائر الحضرية، ناهيك عن تنامي المطالب الاجتماعية للجماعات السلالية عموما. هذا الواقع المليء بالتوترات أضحى يتجدد مع كل توسع تخضع له مدينة ما على حساب أراضي الجموع، وهو ما عقب النمو الحضري الذي تعرفه مدينة سيدي يحيى الغرب، حيث ظهرت، نتيجة لذلك، مطالب اجتماعية جديدة، تخص الجماعة السلالية الرحاونة عموما، ونساء وشباب هذه الجماعة خصوصا، على اعتبار أن هذه الفئة هي المتضرر الأكبر من عمليات النمو التي تعرفها المدينة.
4-1- وضعية النساء والشباب في الجماعة السلالية الرحاونة.
يقتضي الحديث عن وضعية الشباب والنساء السلاليات في الجماعة السلالية الرحاونة الوقوف عند الأعراف والقيم السائدة لدى الجماعة، خاصة تلك التي ترتبط بطرق استغلال وتوزيع الأراضي، والتي طال معظمها النسيان بفعل تداخل عوامل كثيرة، أبرزها الإدماج في المجال الحضري لمدينة سيدي يحيى الغرب، وضمنها، أي أعراف الجماعة السلالية، الشروط المحددة لصفة ذي حق.
ضمن هذا السياق فالشروط اللازمة لاكتساب صفة ذي حق في إطار الجماعة السلالية الرحاونة، تستلهم من الأعراف السائدة لدى الجماعة، نظرا لعدم تحديد المشرع المغربي لهذه الشروط، وهكذا نجد الجماعة السلالية الرحاونة تضع معياري الذكورة والزواج لاكتساب صفة ذي حق، وبذلك كان يتم إقصاء النساء والشباب من الحق في الانتفاع، على الرغم من المكانة التي كانت تحظى بها المرأة لدى الجماعة.
فقد “كانت المرأة تحظى بأهمية كبيرة في الدوار، حيث كانت حاضرة بقوة في كل شيء، في الحصاد، والبيت، وفي العمل الفلاحي، كانت تعمل أكثر من الرجل مما جعلها تكتسب احتراما من طرف زوجها، فالمرأة كانت تشكل هبة الرجل وصورته عند الجماعة”[28]. هذا الحضور القوي للمرأة السلالية بدوار الرحاونة لم يشفع لها للاستفادة من الأراضي المستغلة، وعقب كل توسع كانت تخضع له المدينة، كان يتم إقصاء النساء من الاستفادة.
ومع تنامي المطالب الاجتماعية للنساء السلاليات في الآونة الأخيرة، انخرط نساء الجماعة السلالية بدورهن في هذا الحراك الذي تعرفه البلاد، حيث أصبحن يطالبن بحقوقهن من الأراضي.
- الحراك الاجتماعي حول أراضي الجموع وبروز النساء السلاليات
منذ تسعينيات القرن الماضي والجماعة السلالية الرحاونة تعيش على وقع صراعات ونزاعات حول الأراضي الجماعية، سواء مع المستعمر أو مع الجماعات المجاورة لها، ف”مع خروج الاستعمار من البلاد وقعت صراعات بين القبائل للاستحواذ على الأراضي، ليتم حل النزاعات وتم الاتفاق على تحديد الأراضي بينهم. غير أن تحفيظ الأراضي لم يكن بشكل كبير نظرا لعدم الوعي بأهمية الأرض، وكذا تهاون الإدارات في تحفيظ الأراضي”[29].
ومع تنامي ظاهرة التوسع الحضري لمدينة سيدي يحيى الغرب احتدم الصراع حول أراضي الجماعة السلالية الرحاونة، وذلك راجع إلى أن التوسع، غالبا ما يتم على حساب هذه الجماعة، مما أدى إلى تقلص مساحة الأراضي الفلاحية لدى الجماعة. وهذا كان له وقع كبير على وضعية الجماعة السلالية ومستقبلها، فكثير من الأسر بالرحاونة كان مصدر عيشها يرتبط بالفلاحة وتربية الماشية، غير أنه مع توالي النمو الحضري على حساب أراضيها، وجدت العديد من الأسر نفسها بدون الأرض.
وبفعل ذلك الترامي ظهرت إلى الوجود مطالب اجتماعية خاصة بالجماعة السلالية، ترجمت في مسيرات تعلن عن أزمة الأراضي الجماعية بدوار الرحاونة، وتنادي بوقف الترامي والأشغال بتلك الأراضي، غير أن المتتبع للشأن المحلي بمدينة سيدي يحيى الغرب، يرى على أن واقع النمو الحضري للمدينة على حساب أراضي الجماعة السلالية، أمر محتم بفعل ضعف الوضعية العقارية بالمدينة، فالحديث عن التهميش الذي يطال الجماعة السلالية الرحاونة، يقابله تهميش يطال أحياء الصفيح بالمدينة.
خاتمة
وتبعا لذلك نخلص إلى القول بافتقار تدخلات الفاعل المحلي في تدبيره للنمو الحضري للمدينة، في ظل نظام عقاري خاص بالأراضي السلالية، إلى البعد المستقبلي، مما يجعل تدابيره ذات قواعد تنظيمية وتدخلية لا تسمح بتصور “تقديري” لشأن التهيئة الحضرية للمدينة ككل، وغالبا ما يطغى الهاجس السياسي على مختلف تدخلاته في المجال، مع ما يترتب عن ذلك من توترات وتجاذبات واحتجاجات اجتماعية للساكنة المحلية، وظهور أخرى ترتبط بإعادة الإسكان، وتنظيم المجال والاندماج الحضري وتنامي العنف والجريمة بالمدينة. هذا الواقع الذي يزداد تأزما بناء على النتائج التي توصلنا إليها، وفيما يلي أهم النتائج والخلاصات:
أولا: إن تدبير الفاعل المحلي المؤسساتي النمو الحضري للمدينة، يغلب عليه الطابع التدخلي-الآني، ويطغى عليه الهاجس السياسي الذي يحضر بقوة في تعامل مختلف الفاعلين مع مختلف القضايا التي تهم المدينة، وهو ما تترتب عنه اختلالات عديدة لعل أبرزها ما يرتبط بالاختلال المجالي والاقصاء الاجتماعي وهشاشة الاقتصاد وضعف التدبير الحضري، اعتبارا للتداخل بين اختصاصات ومهام الفاعلين، واعتبارا كذلك للخلافات السياسية داخل المجلس الجماعي، الذي يتأرجح بين أغلبية ومعارضة، كلها عوامل تساهم في اختلال النسيج الحضري. هذا ناهيك عن تعقد الأنظمة العقارية للأراضي المحيطة بالمدينة تساهم هي الأخرى في حدوث شرخ في التنمية الحضرية للمدينة وتضر بانسجام تدبيرها وتنظيم مركزها، هذا دون الحديث عن انتشار السكن غير اللائق الذي ينعكس سلبا على مورفولوجية المدينة.
ثانيا: يشكل الوضع العقاري المعقد للأرض أبرز المشاكل التي تحول دون إنجاز المشاريع الاستثمارية وتوسع المدينة بشكل سليم، فالنظام العقاري للأراضي السلالية الواقعة في النطاق الحضري للمدينة ينعكس على تدبير الفاعل المحلي للنمو الحضري، مما يؤدي إلى ظهور السكن غير اللائق، واستفحال ظاهرة أحياء الصفيح، وتدهور الوضعية السكنية بالمدينة.
ثالثا: تواجد جماعة سلالية في النطاق الحضري أفرز علاقات اجتماعية متوترة، تتأرجح بين القبول والرفض، فهناك تفاعل دائم ومتبادل بين الفاعل المحلي والفاعلين في الحياة المدنية، خاصة الجمعيات التي تنشط بشكل مستمر، وبلوغ الأهداف والتخطيط للسياسات العمومية في المدينة لا يتم إلا في إطار العلاقات المسماة سياسية، وهو ما يجعل نجاح تلك السياسات، وبالتالي مستقبل المدينة والجماعة السلالية الرحاونة، رهين بمدى نجاح تلك العلاقات.
رابعا: عملية إدماج دوار الرحاونة في المدار الحضري لمدينة سيدي يحيى الغرب لم تنطلق من مخطط استراتيجي يأخذ بعين الاعتبار مستقبل الجماعة السلالية، ولم يضع في الحسبان الخصوصيات الاجتماعية والثقافية لسكان الجماعة، إذ يسعى الفاعل المحلي إلى توسيع المجال الحضري للمدينة دون تفكير مسبق في المستقبل، وما التوترات والاحتجاجات والصراعات التي عرفها وما يزال يعرفها مشروع تجزئة الوحدة 4 إلا نتيجة من النتائج التي ترتبت عن الإجراءات المتسرعة وغير المخطط لها.
المراجع المعتمدة:
[1] : عبد الإله حبيبي، أراضي الجموع من المشترك القبلي إلى الهيمنة الإدارية للدولة: نموذج من قبائل زايان إقليم خنيفرة، في كتاب: القانون والمجتمع بالمغرب، تنسيق: الحسين وعزي والحسين آيت باحسين، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 7. الرباط 2005، ص 201.
[2] – عبد الرحيم العطري: تحولات المغرب القروي: أسئلة التنمية المؤجلة، طوب بريس الرباط، ط2، 2012 ، ص 25.
[3] – د. عمار حمداش: المخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية لمدينة سيدي يحيى الغرب، مساهمة في النقاش: من أجل إدماج المكونات القروية في المخطط، ضمن أشغال اليوم الدراسي، سيدي يحيى الغرب أي أفق للتنمية الحضرية بعد 80 سنة من التأسيس، جمعية البحث من أجل تنمية القنيطرة والغرب، فرع سيدي يحيى الغرب، 07 يونيو 1998، ص 49.
[4] – رحمة بورقية: الدولة والسلطة والمجتمع: دراسة في الثابت والمتحول في علاقة الدولة بالقبائل في المغرب، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1991، ص 120.
[5] – د. عمار حمداش، نفس المرجع السابق، 49.
[6] – د.عمار حمداش، نفس المرجع السابق، ص 51.
[7] – الدراسة التي قام بها الدكتور عمار حمداش حول المنطقة، والتي دعا فيها إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المنطقة، وأن يتم حصر المساحة الإجمالية الحالية لدوار الرحاونة وتعيينها كمجال سكني انتقالي يضمن التحول التدريجي وغير المتسرع نحو الاندماج التام لاحقا في المجال الحضري. هذا مع الحفاظ على خصوصيات الجماعة السلالية.
[8] – د. عمار حمداش، نفس المرجع السابق، ص 51.
[9] – محيي الدين صابر ولويس كامل مليكة: البدو والبداوة: مفاهيم ومناهج، منشورات المكتبة العصرية صيدا-بيروت، 1986، ص 144.
[10] : عبد الإله حبيبي، أراضي الجموع من المشترك القبلي إلى الهيمنة الإدارية للدولة: نموذج من قبائل زايان إقليم خنيفرة، في كتاب: القانون والمجتمع بالمغرب، تنسيق: الحسين وعزي والحسين آيت باحسين، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 7. الرباط 2005، ص 201.
[11] – عبد الرحيم العطري: نفس المرجع السابق، ص 25.
[12] – عبدالرحيم العطري: تحولات المغرب القروي: أسئلة التنمية المؤجلة، طوب بريس-الرباط، ط2، 2012، ص 59.
[13] – يميز إميل دوركايم بين نوعين من المجتمعات، الأول يسوده التضامن الآلي، وهو المجتمع القروي الذي يتميز بالتماسك الاجتماعي بين أفراده، أما الثاني فيقوم على التضامن العضوي لأن الأفراد فيه يعتمد بعضهم على بعض على أساس تبادل المنفعة مثل أعضاء الجسم الواحد والحديث هنا عن المجتمع الحضري.
[14] – عبد الإله حبيبي، أراضي الجموع من المشترك القبلي إلى الهيمنة الإدارية للدولة: نموذج من قبائل زايان إقليم خنيفرة، في كتاب: القانون والمجتمع بالمغرب، تنسيق: الحسين وعزي والحسين آيت باحسين، ص 201.
[15] – د. عمار حمداش: نفس المرجع السابق.
[16] – مقابلة مع أحد ممثلي السلطة المحلية.
[17] – مقابلة مع أحد الفاعلين في الحياة المدنية، السن 57 سنة، يشتغل في التعليم، يقطن بمدينة سيدي يحيى الغرب.
[18] -د. عمار حمداش: نفسه ص49.
[19] – نص الفصل الحادي عشر على إمكانية اقتناء عقار جماعي من طرف الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسسات العمومية أو الجماعات الأصلية نفسها، إما بالمراضاة إذا وافق مجلس الوصاية والجماعة المالكة على مبدا التفويت، وإما بواسطة نزع الملكية في حالة العكس، أنظر في هذا الصدد، عبد الكريم بالزاغ، أراضي الجموع: محاولة لدراسة بنيتها السياسية والاجتماعية ودورها في التنمية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1998، ط1 ص، 53.
[20] – عمار حمداش، نفسه، ص، 49.
[21] – عمالة سيدي سليمان، قسم الشؤون القروية.
[22] -عمالة سيدي سليمان، قسم الشؤون القروية.
[23] – د، عمار حمداش، مرجع سابق ص51.
[24] – مقابلة مع أحد الفاعلين في الحياة المدنية، أستاذ التعليم الثانوي، يقطن بمدينة سيدي يحيى الغرب.
[25] -مقابلة مع أحد ممثلي السلطة المحلية.
[26] – د، عمار حمداش، ص47.
[27] -د، عمار حمداش، ص51.
[28] – مقابلة مع نائب الجماعة السلالية الرحاونة،
[29] – مقابلة مع نائب الجماعة السلالية الرحاونة.
^^^^
- عبد الإله حبيبي، أراضي الجموع من المشترك القبلي إلى الهيمنة الإدارية للدولة: نموذج من قبائل زايان إقليم خنيفرة، في كتاب: القانون والمجتمع بالمغرب، تنسيق: الحسين وعزي والحسين آيت باحسين، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 7. الرباط 2005
- عبد الرحيم العطري: تحولات المغرب القروي: أسئلة التنمية المؤجلة، طوب بريس الرباط، ط2، 2012
- عبد الكريم بالزاغ، أراضي الجموع: محاولة لدراسة بنيتها السياسية والاجتماعية ودورها في التنمية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1998، ط1
- د. عمار حمداش: المخطط التوجيهي للتهيئة العمرانية لمدينة سيدي يحيى الغرب، مساهمة في النقاش: من أجل إدماج المكونات القروية في المخطط، ضمن أشغال اليوم الدراسي، سيدي يحيى الغرب أي أفق للتنمية الحضرية بعد 80 سنة من التأسيس، جمعية البحث من أجل تنمية القنيطرة والغرب، فرع سيدي يحيى الغرب، 07 يونيو 1998
- رحمة بورقية: الدولة والسلطة والمجتمع: دراسة في الثابت والمتحول في علاقة الدولة بالقبائل في المغرب، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1991
- محيي الدين صابر ولويس كامل مليكة: البدو والبداوة: مفاهيم ومناهج، منشورات المكتبة العصرية صيدا-بيروت، 1986