الشعر الجاهلي بين الحداثة والكينونة
بقلم : عماد خالد رحمة | برلين
عندما نقرأ بعمق شديد في ضوء ثقافتنا المعاصرة لشعراء كبار جسّدوا حقيقة الشعر العربي الأصيل القادم من عمق (العصر الجاهلي) فإننا نعتز بالكثير من قصائدهم ونتاجهم الشعري الثر وصورهم المبكرة والمبتكرة، وكأنها توجد الآن وتتجسّد أمامنا.
من هنا، تكمن حداثة ذلك المنتج الشعري الغني الخارج من إطار الزمن الماضي السحيق، لأننا نرى في مفهوم الحداثة المعاصرة ما يوازي مفهوم الكينونة والماهية. فالإبداع الفني الراقي والكثيف عندما يحقق ذاته فإنه بالتأكيد يحقق كينونته وماهيته، أي يحقق وجوداً فعلياً وعملياً لا يقل تأثيراً وأهميةً عن أي وجود آخر له مكانته وفضائه الواسع ، بل إنه ينحاز لحرارته الشعرية بنيته وماهيته العالية الذي يخلقه مختلفاً ومغايراً، واختلافه هذا ومغايرته هو ما يصنع حداثته المنشودة، فكلما عاينّا إبداعاً كينونياً، أو فكراً كينونياً، فإننا نعيش على تخوم الاختلاف والمغايرة، وهذا ما يعيد اتصالنا بالعالم من جديد. ومن زاوية جديدة نحسُّ بهذا التغيير نحو ما هو الأجمل، وما هو الأفضل، وما هو الأحق والأبقى.
ولو أخذنا الشعر –على سبيل المثال- فإننا نجد أنّ الشعري لم يعد مصطلحاً على الشعر، بل دخل في مختلف شؤون الإنتاج الإبداعي وأنواعه، وكذلك إنتاج الحياة بكل معانيها وإرهاصاتها ، لأنّ الشعري هو ما يُدخِل عنصر الاختلاف والمغايرة في الشيء المبدع، وبالذوات المتذوقة بأعلى سماتها ومعانيها، بمعنى إنه يغيّر جوهرياً من آلية المعاناة وقساوتها، ويجعلنا فجأة نكتشف أنّ ما كنّا نحكي عليه ليس هو الحياة التي بقدر ما تغير فينا، فإننا نغيّر فيها أيضاً. من هنا كانت عودة المفهوم الشعري المرتبط مع الكينونة.
إذن لم يعد الشعري مجرد نتاج لعابي وزخرفي، أو أقرب إلى إنتاج الثرثرة اليومية المتوالية في الكلام المزركش، بل الشعري يطلبنا كينونياً، يريد أن يبعث فينا من جديد ما نحن بحاجة إليه من دون أن ندري. ما يجعلنا نقف بالفعل على تخوم المختلف والمغايرة والمفارقة، وتقتحم هذه التخوم والأسوار بنحوٍ مستمر.
إنّ الحداثة ليست بمعنى تجديد الألفاظ والعبارات والكلمات، أو الأساليب، أو كل هذا الكلام الذي يُقال في مجال الأداب والفنون بنحو ثرثرة يومية متوالية. وهي – كذلك – ليست مفهوماً محصوراً بأمةٍ معينةٍ أو بشعبٍ معيّن، ولا بعصرٍ محدّد، بل هي مشاعة أمام ثورة الكينونة التي حلًت في إنسانٍ ما وتماهت معه، أو في مجتمعٍ ما، أو في أمّةٍ ما. والأمة العربية والإسلامية بما تملك من حضارة كينونية مدعوةٌ، والدعوة ذاتية اولاً، لأن تباشر كينونتها وماهيتها باختلافٍ كلي وشامل. أن توجد كما لو لم توجد من قبل أبداً .إذاً هي مدعوةٌ ومطلوبةٌ لأن تفجر في ذاتها من الإمكانات والطاقات الكامنة، ومن القوى والقدرة ما لم تكن تدري بها أو تعيها أصلاً .
هنا بقدر ما تفرض كينونتها وماهيتها فإنها تصنع حداثتها المعاصرة الخاصة بها، وعندئذ يكون ممكناً التحدث بعمق شديد عن حداثة عربية معاصرة