النخب البنّاءة والنخب الضالّة
بقلم: د. عماد خالد رحمة ـ برلين
شهد التاريخ الإنساني وما زال يشهد حالتان من صعود وهبوط الحضارة الإنسانية، وذلك من خلال التطور والبناء أو نقيضه الانحطاط والتدنّي والتهاوي في التاريخ.
هاتين القضيتين تؤكدان على وجود صراع خفي وصراع ظاهر بين النخب، هذا الاستنتاج قد يبدو مبالغاً فيه لأنّه أغفل منطق التناقض والتضاد في الصراعات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، أو لجهة إغفال دور الشعب،أو الجمهور العام، أو العامّة من الناس، لكن أيّاً يكن منطق النزاعات والصراعات في التاريخ الإنساني، فإنَّ النخب في قلب هذا الصراع ومحوره، وليست بعيدة أو غريبة عنه، أو هي فئة متعالية كلياً عن الواقع والحراك العام، وإنما هي إحدى نتائج هذا الصراع الساخن الخفي والظاهر، الذي يؤكد على ضرورة بناء نخبه، تلك النخبة تعبّر عن تمام التعبير عن النزاعات البينية، أو بشكلٍ أدق، تعبِّر عن اتجاهات الصراعات المتواصلة في الواقع الاجتماعي التاريخي.
لذا نجد مجموعةً من المثقفين يحملون إرثاً ضخماً من الإحباط والتهاوي، الذي تراكم خلال عقود طويلة من الزمن،أكّدوا أنهم فشلوا وما يزالوا يفشلون في التواصل مع الجموع، ومع الأمة، ومع الشعب، الذي كان يعتبر شرطاً هاماً وأساسياً من أجل التقدم لقيادتها.
عندما ينتهي عصر من العصور، تتلاشى دولة بكل كيانها، تنتهي وتختفي وكأنها لم تكن، وتتقسّم إلى ولايات وإمارات محلية، وكنتونات ومعازل صغيرة، أو تسقط إمبراطورية لها قوتها وجبروتها كان لها وقع كبير بين دول العالم، أو تصعد امبراطوريات أخرى، إلى جانب نخب تتراجع وتنكمش أمام نخب أخرى، أو نخب جديدة تصعد بشكلٍ متسارع ،وتنتصر على النخب السابقة لها.
الجدير بالذكر أنَّ تاريخ العالم فيه الكثير من التكوينات المتشابكة والمتعدِّدة والمتنوعة والمعقّدة في آنٍ معاً، أي انَّ تاريخ الصراعات والنزاعات الساخنة في العالم هو تاريخ صراع حاد بين نخب متعدِّدة ومتنوعة المشارب والاتجاهات، لكلٍ منها مكانها وتموضعها في الحياة، ولها دور فاعل في الواقع الذي تنتمي إليه، ولها قيم ونواميس خاصة بها، هذا المنطق يمكن أن يكون صحيحاً لأنّه يولي النخب أهميةً خاصة واستثنائية في صناعة التاريخ وأحداثه ومسيرة تطوره، لأنَّ تحليل النزاعات والصراعات يكون قائماً على تحليل منسوب ومستويات التفاوت، أو حالة التوازن بين النخب، والفروقات فيما بينها، والبحث في أيديولوجيتها، واتجاهاتها ومشكلاتها، ونوازعها، ومستوى معرفتها وتعبيرها عن فئات ومجموعات صغيرة،أو واسعة من مجتمعها، ومدى إدراكها ومعرفتها للتحوّلات التي تجري حولها، أوقصر نظرها في رؤية تلك التحوّلات وتلك التغيرات التي يمكن أن تكون بنيوية ومفصلية.
لو تتبّعنا فكرة نشوء مفهوم النخبة لوجدنا أنَّ المفهوم حديث نسبياً، حيث بدأ استخدامه في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لكن تاريخنا العربي وتراثنا الغني الثر يؤكد وجود هذا المفهوم منذ زمنٍ بعيد، فقد جاء بشكلٍ آخر أو بتسمية أخرى وهو (الصفوة) ،و(الجوهر)، و (الأخيار)، و(سَرَاة).
والنخبة بشكلٍ عام تكون مؤلفة من مجموعة صغيرة منتقاة بعنايةٍ فائقة، وتمتاز بالثقافة العالية الرفيعة، وبامتلاكها الثروة والجاه والمال،وتكون قد خضعت للتدريب النوعي المميز،أو بامتلاكها السلطة السياسية، أو المركز الاجتماعي.
وقد جاء شرح تفاوتاتها واستخدامها في أكثر من موضع كنخبة المجتمع الذين هم قادة الرأي العام، والذين لهم تأثير قوي فيه، ويشكّلون اتجاهات الرأي العام وتوجهات المجتمع بكل فئاته، ولأنَّ النخبة تتميّز بدرجةٍ عاليةٍ من الحصافة والثقة بالنفس والقدرة الفائقة على رؤية أماكن وهن وضعف وحساسية الآخرين واستغلالها لمصالحها الخاصة، بينما يكون الشعب عادةً مُرتبكاً وعالقاً في شبكةٍ من المشاعر والتصورات والأحكام المُسبقة، وهذا يُبرروُجود انقسام في بنية المجتمع الذي ينقسم إلى قسمين، القسم الأول تسود فيه المعرفة والثقافة العالية الرفيعة، ويقوم بحكم الثاني الشعب الذي تسود فيه المشاعر والتصورات، بحيث يكون الفعل قوياً جداً وموجهاً بحكمة ومنطقية. في هذا السياق نجد أنّ الحكومات تقوم إما باستخدام القوة والعنف،أو تتعامل مع الشعب بوسائل الاتفاق والتسوية، مع أنَّ القوة والإكراه هي وسائل وأساليب تم استخدامها طوال التاريخ الإنساني.
لذا فقد تمَّ تطويرر فكرة حُكم الشعب بتطويع مشاعرهم بوسائل الأفكار التي تُخضع الشعب بكل فئاته لمصالح الطبقة الحاكمة مستفيدةً من الرواسب الاجتماعية للشعب .
كما نجد استخدامها في مجال سياسة النخبة ونخبة السياسة.كون نظرية النخبة السياسية من أهم الموضوعات التي بحثها علم الاجتماع السياسي، ولأنَّ الشواهد التاريخية وواقع المجتمعات السابقة والمعاصرة، تتميز بشكلٍ خاص بوجود أقلية حاكمة، وهذه الأقلية محتكرة لأهم المناصب السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية، وبيدها مقاليد الأمور، وأغلبية محكومة منقادة وليس لها صلة بصنع القرار السياسي بشكل عام. وكان الفيلسوفان الألمانيان كارل ماركس وماكس فيبر قد ساهما في تأسيس علم الاجتماع السياسي وعملا على دراسته لتطوير النظريات السياسية، انطلاقا من حقيقة القلّة الحاكمة من النخبة، والأغلبية المحكومة من الشعب.
من روَّاد نظرية النخبة (ولفريد فريتز باريتو Vilfredo Federico Damaso Pareto). أحد كبار علماء الاقتصاد الإيطاليين المشهورين الذي يرى أنَّ النخبة هم أؤلئك الذين يتفوقون في مجالات عملهم في مجمل نواحي الحياة، وهي على ـ حد تعبيره ـ (مباراة الحياة)، وحين يجد أنَّ هذا التعريف مستوفٍ يستدرك الأمر وينتقل إلى المجال الأضيق في تعريف النخبة وماهيتها، فيقوم بربط مفهوم النخبة الاجتماعية بقدرة وإمكانية هؤلاء المتفوقين على ممارسة أدوار ووظائف سياسية أو اجتماعية تخلق منهم طبقة قادرة على أن تحكم البلاد والشعب، وليست بحاجة إلى دعم وتأييد شعبي وجماهيري لأنها تقتصر في حكمها على مواصفات ذاتية خاصة تتمتع بها، وهذا ما يؤهلها ويميزها لاحتكار المناصب ومراكز القوة في الدولة.
وكانت الحكومات قد تم تقسيمها لعدّة أنواع عبر التاريخ ابتداءاً من عصر الفلسفة اليونانية إلى العصر الحديث. فمثلاً يقسِّم الفيلسوف اليوناني أرسطو الحكومات إلى ملكية وأرستقراطية وديمقراطية.
وفي القرون الوسطى تنقسم الحكومات إلى دينية أو تقليدية، وقسّمها الفيلسوف والكاتب وعالم الاجتماع، والرياضي الفرنسي (أوغست كونت) إلى ثلاثة أدوار: دينية وفلسفية ووضعية، تقابلها الدولة العسكرية المدججة بالسلاح، فالدولة الإقطاعية، فالدولة الصناعية، ثم يختصر الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر مؤلف كتاب (الرجل ضد الدولة) هذا التقسيم إلى قسمين: أحدهما الدور العسكري والدور الصناعي، ويقرن الأول بالاستبداد والطغيان والعنف والحجر على التجارة، ويقرن الثاني بالحرية، وإجراء المعاملات بشكل سلمي، ويتم تحقيق القضايا الملحّة والعاجلة ضمن سياق الصفقات التجارية التي تأخذ شكل التعاقد والتوكيل والاتفاق.
في هذا الإطار يمكننا معرفة كنه وطبيعة النخبة الدينية التي تتمثل في القادة الدينيون ووجهاء الطوائف والمذاهب الدينية، وعلماء العقيدة واللاهوت، وجميع من يشكّلون مراجع دينية هامة، وأصبحوا قادة وزعماء لروابطهم الدينية الطائفية والمذهبية، فمثلاً: يشكِّل المسيحيون من أتباع الطائفة الكاثوليكية وكاردينالات وكهنة الفاتيكان نخبة المسيحيين في العالم، بينما يعدّ علماء الدين والفقهاء عند المسلمين نخبة النخبة الدينية دون أي منازع.ولا يمكن اعتبار من يعمل في مجال الإرشاد وتعليم تأدية الشعائر والطقوس من النخبة. بل هم أقلّ مستوى من النخبة المفكرة .
وكان مفهوم (النخبة) قد أتى استخدامه في سياق العديد من الدراسات والأبحاث التي تطرَّق لها علم الاجتماع لمسائل التفاضل الاجتماعي، ولم يظهر مفهوم الخبة متبلوراً بشكلٍ فكري كما هو عليه الآن، وفي سياق نظري متكامل، إلا مع ظهور كتاب هام بعنوان : (تطور وانحدار النخبة)، الصادر في عام 1920م، لواحد من كبار علماء الاقتصاد والاجتماع الفرنسيين فلفريدو باريتو (1848- 1923)، وقد عرف باسم (مخطط باريتو) وكذلك في نظرية الاحتمالات والاحصاء (توزيع باريتو Pareto distribution) وهو توزيع احتمالي مستمر سمي تيمناً باسم الاقتصادي الإيطالي (ولفريد فريتز باريتو Vilfredo Federico Damaso Pareto).ويسمى خارج الأوساط الاقتصادية باسم توزيع برادفورد. و(ولفريد فريتز باريتو) وهو الذي قال مقولته الشهيرة: (التاريخ مقبرة من الطبقات الأرستقراطية). والمعروف عنه أنّه تحوّل من مهندس مدني إلى اقتصادي ليبرالي كلاسيكي شهير .
كما أسَّس الفيلسوف اليوناني زينون السيجومي المذهب الرواقي الذي يندرج تحت فلسفة الأخلاقيات أسّس الشخصية، بهدف توفير دعامة أخلاقية لمواقف الحياة اليومية، والقدرة على مواجهة الصعاب والحواجز .وهؤلاء قدَّروا التفكير العقلاني المتزن على السلوك والتصرفات المتهورة.
كما طبّق الفيلسوف والشاعر والكاتب الأميركي (هنري ديفيد ثورو(Henry David Thoreau مبادئ (الفلسفة المتعالية) في حياته، وهي حركة فلسفية ظهرت خلال القرن الثامن عشر ، وعندما تجلّت أكثر كانت تعني بالطبيعة بصفةٍ خاصة وحمايتها من الإنسان الذي يعمل على تدميرها، وقد كانت تلك الحركة الفلسفية تعتمد على (حدس) الإنسان وحده.
كما كان الفيلسوف الألماني،(أرتور شوبنهاورArthur Schopenhauer)، يمتاز بمزاجه السوداوي وكان اهتمامه منصباً على قراءة الكتب الدينية الهندية وفلسفة بوذا ، فقد تحدّ في أوّل كتاب له عن عن الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي. ويقصد في كتابه هذا بالسبب الكافي علاقته بالعالم الخارجي وفهمه إياه.
ويرى أن السبب الكافي الذي يتحدث عنه يقوم على أصول أربعة هي:(علاقة بين مبدأ ونتيجة – علاقة بين علّة ومعلول- علاقة بين زمان ومكان – علاقة بين داعٍ وفعل). هذا التفكير قد يقودك شوبنهاور إلى العزاءات الفلسفية وتجاوز المحن.
كان الفيلسوف الألماني شوبنهاور متأثرًا بملاحظة تركها أرسطو في كتاب الأخلاق لنيكوماخوس، تقول إن الحكيم يجب أن يسعى نحو التخلص من الألم والقهر والصعوبات، عوضاً عن السعي إلى الفرح والسعادة، وهو الأمر الذي شكل غالبية أفكار شوبنهاور.
لكن مفهوم النخبة أخذ بالتبلور أكثر مع عالم الاجتماع الأمريكي الراديكالي (تشارلز رايت ميلز right Mills)، في كتابه (صفوة القوة)، الصادر في عام 1956 م، والمصنّف بين أفضل مئة كتاب في مجال العلوم السياسية، وكتاب: (الشخصية والبناء الاجتماعي وذو الياقات البيضاء) الصادر عام 1953م، وأهمية إنجاز (تشارلز رايت ميلز right Mills)، الكبير في أطروحته الهامّة تلك حول النخبة أنه يقوم بالتمييز الدقيق والواضح بين النخبة الحاكمة السياسية وبين النخب التي تتولى مهام أخرى، ويمنح هذه النخبة دوراً رئيسياً واستثنائياً في صناعة اتجاهات التاريخ ومساره.
إنَّ ضعف النخب على تنوعها وتعدّدها أو حتى انحطاطها له أسباب عديدة، من بينها ضيق المساحةِ التي تساهم في تشكيل النخبة نفسها، أي ابتعادها وانعزالها عن شروط تطورها ونموها وتصاعدها، إذ إنه لا يمكن أن نتخيّل تطوراً تقدمياً حقيقياً لنخبةٍ سياسيةٍ أو نخبة حاكمة لها دور كبير في إدارة البلاد اليوم، من دون أن تكون، معزولة عزلاً تاماً أو بعيدةً عن تقدّم وتطور مجالات البحث العلمي والفكري والتكنولوجي التي تنتجها مراكز الأبحاث، والدراسات المتخصِّصة، فهذه القطاعات هي التي توسّع مجال النخبة وتغذيها وتدعمها وتقويها، شرط وجود مستوى مرموق من الوعي المعرفي ومستوى عالٍ من حريات البحث الأكاديمي والدراسات المحكّمة التي تخضع لقوانين علمية صارمة، ودعم كبير يمنح لهذه المراكز والقطاعات.
من الطبيعي أن تمرّ النخبة بحالةٍ من التأزم وعدم التوازن نتيجة فقدان الكثير من العوامل التي تحفظ قوتها ورصانتها واستمرارها.
وأهم تلك العوامل هو تراجع مكانة الدول وحكوماتها على قدرتها على الاستمرار بنهجها، بما فيها المكانة الإقليمية أي المحيط الجغرافي والحدودي. والتي أطلق عليها الفكر القومي العربي اسم (المركز والأطراف) الذي أطلقه أوّل مرة في التاريخ هو عالم الاجتماع العربي الكبير عبد الرحمن ابن خلدون (732-808 هـ/ 1332-1406م).
وفي العصر الحديث أكّد الفيلسوف الألماني كارل ماركس على العلاقة بين البادية والمدينة.وقد عزاها بعض المفكرين إلى ورنر سومبار (1902)م صاحب كتاب (الرأسماليَّة المعاصرة)، أو إلى نيقولاي إيفانوفيتش بوخارين، أو إلى راؤول بريبش (1949) الاقتصادي الأرجنتيني .
ومفهوم المركز والأطراف هوالانزياح من محيط المركز إلى موقع طرفي هامشي ضعيف، نتيجة مباشرة لواقع النخبة الحاكمة المأزومة التي تعاني الصعوبات الجمّة، وتراجع منظومتها القيمية والأخلاقية والإنسانية، وانغلاقها المشدّد على نفسها وابتعادها عن الناس، وفقدانها لأي دور تاريخي، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (مأزق النخبة)،الذي يتحوّل بالضرورة إلى مآزق عامة لمجتمعاتها لا تنتهي بل تكبر وتتضخم ولا تجد حلاً منطقياً ولا حلاً عادلاً لأزماتها، التي قد تدخل في مرحلة تهاوي وانحطاط طويلة وانكسار غير متوقع، أو حتى نشوب صراعات داخلية تتسم بالحدّة وعدم التوازن وربما تصل إلى مستوى الصراع الدموي في بعض الأحيان، كما في الحروب الأهلية، أو تراجع الواقع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي وحدوث تضخم نقدي كبير، وفقدان معايير الأمن والأمان والسلم الأهلي، والدخول بشكل قسري في دائرة الفقر والإفقار المزمن، التي تصاحبها أنواع من الفوضى والفساد الممنهج.
بمعنى آخر عندما تفقد النخبة دورها التاريخي والإنساني والاجتماعي ،وتصبح هي ذاتها عقبة وحاجز تقف في مواجهة التاريخ ومسيرته وتطوره.