البناء النفسي، وبنيان العمل
بقلم: محمد عبد العظيم العجمي
يتشابه بنيان العمل، بل يتطابق مع هذه النفس التي أخرجته، وما كان ليحيد عن تكوينها الفكري شيئا ولو يسيرا ومهما جدّ الإنسان واجتهد في إخراج عكس ما بداخله، فلن يفلح؛ بل تفضحه دواخله من نفسه، وليس يكشف من طريق آخر، فهو يظهر من القول والفعل ما يشي عما بداخله، وقد رٌتب له حينا من الدهر وأعد له إعدادا، ثم يخرج عفوا أو عمدا حين تغالب الدواخل صاحبها فتغلبه معلنة عن نفسها، ويستبين ـــ طوعا أو كرها ـــ ذلك المكنون.
وقد أكد القرآن هذه الحقيقة الفطرية، بل جعلها مقياسا لصدق دعاوى البشر فيما يدعون؛ لا أن يحكم الناس على دواخل بعضهم بعض، ولكن أن تفصح الأعمال عن دعاوى النفوس من الإصلاح والإقبال والمحبة والإحسان، فما تلبث أن تطابق الأعمال الدعاوى أو تخالفها فيكون الحكم عليها عن بينة وآية .
هكذا يقارب القرآن الأعمال مع النوايا “وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى“.. “قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر”.. ” يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم”.. “ولتعرفنهم في لحن القول”
إن هذا المرآة النفسية لا تعكس إلا ما يموج بداخلها من الخبيث والطيب، ولا يجوز لها أن تناهض فطرتها التي جبلت عليها، وإلا لالتبس في الكون الحق بالباطل، وعمي على البشر الصالح من الطالح، والغث من السمين.. ولكن أبى الله إلا تنبئ كل نفس عما انطوت عليه وتعلن عما أضمرت دواخلها، شاءت أم أبت.
وهذه قاعدة أصولية في العمل أسس عليها القرآن قبول العمل، فلا يقبل إلا أن يطابق ظاهره باطنه، ويخلص فيه القلب قبل اليد واللسان، وما خالف ذلك فهو مردود مرفوض ، بل مأزور غير مأجور، وقد أكده القرآن في قوله ” إن الله لا يصلح عمل المفسدين“، “ولا يفلح الساحر حيث أتى”، “إن الذن يفترون على الله الكذب لا يفلحون “، “إنه لا يفلح الظالمون”.
وحين نمرر هذه القاعدة نجدها أساسا متينا ومقياسا عدلا في الحكم على الأعمال العامة والخاصة .. في الدول والشعوب والمجتمعات والمؤسسات، وهذا ما يتجلى في قوله “أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)”التوبة.
إن دعاوى الإصلاح والإعمار والإحسان لتلوكها الألسن ليل نهار، وتدبج لها وسائل الإعلام (الإكذاب) صباح مساء، وقد نرى من بعض مظاهرها قليلا أو كثيرا كما ادعى من قبلنا من تأسيس مسجد لإقامة الصلاة، بل وأقسموا جهد أيمانهم ما أرادوا بذلك إلا الحسنى، ولكن شهد الله على كذب دعواهم وبطلان عملهم..
ولو كان هينا أن تصح أعمال الدعاة وتخلد وتنفع بغض النظر عما أسست عليه هذه الأعمال من فساد النفوس وبطلان الفكر الذي قامت عليه لانصلح كثير من حال الكون ولأرغد وجه الحياة، لكن كما قيل “إن الناقد بصير”، والنوايا الفاسدة لا تنتج أعمالا صالحة .
لقد شاعت في بلادنا منذ عصر النهضة وسقوط الخلافة، شاعت أفكار وفلسفات ورؤى ودعوات إصلاحية، وأيدولوجيات وأفكار مستوردة أو مستهجنة أو مستولدة؛ فمن القومية العربية والبعث العروبي إلى الاشتراكية والرأسمالية إلى العلمانية والليبرالية وصولا إلى الحداثة، وما بعد الحداثة .. فأي هذه الفلسفات والرؤى والأفكار أثمر شيئا في بلادنا رغم ما جد به دعاتها وأجهدوا في اعتناقها ودافعوا عنها، فرضا بالقوة وقهرا، وكتابة وتدبيجا ، وإعلاما وصحافة ، ونوادي اجتماعية، وروابط وتجمعات واتحادات ونقابات!!.
قد آل كل ذلك إلى بوار ولم تغن عن أصحابها شيئا، ولم تنتفع بها بلادنا شبرا أو ذراعا، وإن آثارها الهدامة على بلادنا لا تخفى على ذي عقل، ولا تخطؤها عين حيث ولت شرقا أو غربا، ولم تفلح دعاوى المبطلين الذي أجهدوا أن يخرجوا هذه الأمة عن ناموسها الطبيعي الذي نشأت عليه وأثمرت على يديه حيث لم تثمر قبله حين كانت في جاهليتها، ولم تثمر بعده حين تخلت عن أصولها التي قامت عليها حضارتها، فسمت معها وسمت بها.
“أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)”[التوبة.] إن هذه القاعدة التأصيلية في بناء الأفكار والرؤى الإصلاحية ، هي ذاتها الأصل في بناء الحضارات المستنبتة والمستولدة من ثقافة الصدق والمطابقة بين أعمال الباطن والظاهر، وأن المنطلق الذي تهب منه الحضارة لا يكون اعتمادا على دوافع نفوس مريضة ، ولا شيفونية زهواء، ولا نرجسية عمياء لا ترى في الكون إلا نفسها، ولا تنشد إلا أن تخلد أسماءها وترضي غرور أمراضها ودواخلها الخربة.
قال القرطبي رحمه الله “وَالْجُرُفُ: مَا يَتَجَرَّفُ بِالسُّيُولِ مِنَ الْأَوْدِيَةِ، وَهُوَ جَوَانِبُهُ الَّتِي تَنْحَفِرُ بِالْمَاءِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَرْفِ وَالِاجْتِرَافِ، وَهُوَ اقْتِلَاعُ الشَّيْءِ مِنْ أَصْلِهِ.” هَارٍ” سَاقِطٍ، يُقَالُ. تَهَوَّرَ الْبِنَاءُ إِذَا سَقَطَ، وَأَصْلُهُ هَائِرٌ، فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ” وهكذا جعل القرآن الحكم على هذه النفوس المريضة ، وعلى أعمالها بالانهيار والبوار إذ لم تكن ثمة مطابقة بين ما تطويه النفوس من سوء الطوي، وما تظهره الأعمال ولو كان ذلك في إقامة مسجد أو أبنية وزخرفة وبناءات وتشييد بدعوى الحضارات.
“وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) ” [البقرة ].
وهنا يؤكد القرآن كذلك على ضرورة (تثبيت) النفس وانطوائها على نوايا الخير وبغية الإصلاح، ومتى ما تحقق ذلك حتى يؤتي أكله أضعافا مضاعفة، ثم تكون المكافأة على قدر عين الناقد البصير، إذ يوفي كل عمل بقدر ما نوى ، إما وابل من الجزاء، وإما طل .. وجماعه كله خير طالما صلحت الدواخل، وطابقت الأعمال النوايا.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
لكن هذا مثل آخر لمثل هؤلاء الذين خلت أعمالهم من ثبات النفس والتبييت على الخير والإصلاح؛ فما تلبث هذه الأعمال أن تبور حين ما يكون صاحبها في أمس الحاجة إليها ، حين تنقطع به السبل، ويمتد به العمر، وتوهن منه القوة القادرة على العمل والعطاء، حينئذ يسقط في يده، ويحترق ما قدم بين يديه إذ لم تنطو نفسه على نية أصيلة صادقة. (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (110)[التوبة]،
هكذا تقطِّعٌ تلك النفوس وقلوبها حسرة على بنيانهم المشيد على أسس من النفاق والشك والريبة، وهكذا جزاء كل من تصدر لدعوى باطلة أو فاسدة لم يرد بها وجه الحق، ولم تخرج إلا من نفس دعية مريضة ابتغت ذكرا بين الناس وإشباع غرور أسير في نفس مريضة ما لها من قرار.