الذكاء الاصطناعي في إطار المؤسسات الدينية الكنسية
د. إبراهيم الزنداني| اليمن
أستاذ القانون الجنائي المساعد، محاضر متخصص في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والجرائم الإلكترونية، نائب رئيس الدائرة الرقمية في الادعاء العام اليمني، خبير غير مقيم في كلية الدراسات العليا بجامعة فطاني، مملكة تايلند.
هكذا ودونما مقدمات يقتحم الذكاء الاصطناعي قِباب الكنائس وجدارياتها الفسيفسائية التي تجسد رموزا “للعذراء والطفل” و”للسيد المسيح”و”المبشرين الأربعة” و”رئيس الملائكة”ميخائيل”؛ وهو يدوس الشيطان محدثا جدلا دينيا كنسيا وفوضى عارمة من التصريحات المتناقضة سواءً في الفاتيكان بروما أوفي بطريركية موسكو ليزيد بذلك من حدة الانقسام في العالم المسيحي..
الذكاء الاصطناعي في ضيافة الفاتيكان
في غمرة الجلبة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي يهتز الكرسي الرسولي في “الفاتيكان” Vatican مرة أخرى وكأنه كان في غيبوبة منذ آخر تدخل له في شأن التكنولوجيا الحيوية “استنساخ البشر” والذكاء الاصطناعي، وما بدا جليا أن وجهة نظر قادة الكنيسة هذه المرة أكثر شمولا عن المرة السابقة باعتبار أنه أصبح لديهم مستشارين متخصصين من أبناء الكنيسة لعل أبرزهم الراهب الفرنسيسكاني الأب”باولو بينانتي”Paolo Benanti كبير مستشاري “البابا” بشأن الأضرار المحتملة للتكنولوجيا الجديدة والذي لعب دورا هاما في تشكيل وعي ” بابا الفاتيكان ” وكبار أساقفته حول مخاطر الذكاء الاصطناعي.
تستمر الندوات والمؤتمرات التي تناقش المخاطر المحدقة بالبشرية جراء إساءة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.. يلعب المونسنيور “فينشينزو باليا” Vincenzo Paglia رئيس الأكاديمية البابوية للحياة ومؤسسة RenAlssance دورا مهما في تلك الندوات… يؤكد البابا ” فرنسيس ” Pope Francis رأس الكنيسة الكاثوليكية أن ربط مصير الإنسان بخوارزمية ما يعد أمرا غير مقبولا تماما.
المتابع لمجريات ما حدث من نقاشات داخل الكرسي الرسولي يدرك أن أيادٍ خفية لها نفوذها وسطوتها تدخلت لحرف الأمور عن نصابها وأنتجت مشهدا عبثيا قل نظيره، فبعد أن كانت المناقشات تدور حول كيفية إنشاء تحالف عالمي أكثر تنوعا لمحاسبة شركات الذكاء الاصطناعي عن المخاطر التي قد تتسبب بها نتيجة الاستخدام الخاطئ لتلك التقنيات واستغلالها للإضرار بالبشر الأمر الذي أثار ذعر رؤساء والمدراء التنفيذيين لعمالقة شركات التكنولوجيا الغربية ( مايكروسوفت، ديب مايند للذكاء الاصطناعي المملوكة لشركة ألفابت،أي بي إم، فيسبوك )Microsoft, DeepMind AI owned by Alphabet, IBM, Facebook وهو ما دفعهم للتقاطر إلى” الفاتيكان” أرسالا وفرادا، ومع توالي الزيارات والاجتماعات انكمشت المواضيع العريضة وتقزم الطموح الكبير واضمحل الهدف النبيل حتى باتت النقاشات تدور حول تحيز خوارزمي لنظام صحي هنا أو هناك يعطي الأولوية للمرضى الأصحاء البيض على حساب المرضى السود الأكثر مرضا بالإضافة إلى التحيز الخوارزمي في التوظيف ومنح القروض البنكية والتعليم والحكم بالسجن وضد المهاجرين … لقد كان أغلب تلك الأنظمة التي دارت النقاشات حولها أمريكية بامتياز..
يبلغ العبث منتهاه بصياغة التزام أخلاقي بعنوان “نداء روما” في العام 2020م وقعته شركة “مايكروسوفت” و “أي بي إم” Microsoft, IBM والحكومة الإيطالية، ويكتمل المشهد بكوميديا سوداء في العاشر من يناير 2023م بتوقيع ميثاق أخلاقي متعددالأديان لحماية المجتمع البشري من أضرار الذكاء الاصطناعي وقعه بحسب وصفهم قادة من جميع الديانات “الإبراهيمية” الثلاث المسيحية والإسلام واليهودية، ولقد كان حدثا فريدا وفقا لتعبيرهم وقد كان القادة الموقعون من الديانات “الإبراهيمية” هم (رئيس أساقفةباليا، الحاخام الأكبر إليعازر سمحا فايس عضو مجلس الحاخاميةالرئيسية الإسرائيلية، الشيخ عبدالله بن بيه أمين عام منتدى أبوظبي للسلم) !!.
الذكاء الاصطناعي في مائدة بطريركية موسكو المستديرة
نشد الرحال شرقا صوب آخر حصن للعقيدة الأرثوذكسية الحقة كاتدرائية المسيح المخلص “بطريركية موسكو ” МосковскийПатриархат تعقد الندوات رسميا في مجلس النشر التابع للكنيسة الأرثوذكسية الروسية ابتداء من العام 2020م حول تحديات الذكاء الاصطناعي بقيادة رئيس الأساقفة ” المتروبوليتان كليمنت من كالوغاوبوروفسكي ” Климент Калужский и Боровский وبحضور مجموعة من الأكاديميين والكتاب ورجال الدين.
كان الحديث الذي ابتدأه رئيس الأساقفة عن ضرورة إجراء تقييم أخلاقي للظواهر التقنية الجديدة التي دخلت حياة البشر بما في ذلك الرقمنة والروبوتات والذكاء الاصطناعي، تستمر الجلسة بمخاوف أبداها الحاضرون منها ما يتعلق بالخصوصية واستخدام الذكاء الاصطناعي في الطب والأمن.. كان من ضمن ما أقلق أحدالحاضرين هو أن قضية الذكاء الاصطناعي في بعض الحالات قدتكون مرتبطة بالأيديولوجيا المعادية للمسيحية..
ما لفت نظرنا في تلك الندوة هو الطرح الجريء الذي قدمه الكاتب “سيرجي سيزاريف” Сергей Цезарев عندما أشار إلى أن الذكاء الاصطناعي الذي يعالج كميات كبيرة من المعلومات قادر على التحليل والتنبؤ واتخاذ القرارات الإدارية وأن هذه التكنولوجيا تستخدم في الشؤون العسكرية والحرب الإلكترونية وأن ما يقلقه هو استخدام الذكاء الاصطناعي في المعدات العسكرية.
في العام 2021م أعلن المنظمون لوكالة ” ريا نوفوستي ” РИА Новости أن رجال الدين في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية سيجتمعون بالخبراء من روسيا وألمانيا وأنهم سيناقشون آفاق ومخاطر تطوير أنظمة الكمبيوتر الذكية في المائدة المستديرة وأنه سيتمتقديم النظرة الإنجيلية للتكنولوجيات الجيدة والسيئة كتقرير دافع في المنتدى من قبل الأسقف ” ثيوكتيست من بيريسيل وأوغليك ” Феоктист Перисила и Углика، وأن رئيس كنيسة القديس ” سيرجيوس في رادونيج في كرابيفنيكي” Сергия Радонежскогов Крапивниках سيتحدث عن نهج ” الفاتيكان ” والمنظمات المشتركة بين الدول والمنظمات غير الحكومية في الذكاء الاصطناعي ..
مع دخول العام 2022م وانطلاق أول شرارة للحرب الروسية الأوكرانيةرصدنا خفوتا لوميض الحراك المتقد والنشط الذي قادته “بطريركية موسكو ” حول الذكاء الاصطناعي، تزامن ذلك مع أخبار تصلهم من مصادر سيادية روسية تفيد بأن “بابا الفاتيكان” استقبل ضيفا وصل بطائرة خاصة يدعى ” براد سميث ” Brad Smith رئيس عملاق التكنولوجيا الأمريكي “مايكروسوفت”، وأن اجتماعا عقد بين الضيف والمضيف وخلال الاجتماع كان على الضيف أن يجيب على ثلاثةأسئلة فقط أحدهما ممزوج بقلق:
1. كيف يمكن للبشرية ككل الاستفادة من هذه التكنولوجياالقوية بدلا من أن تكون تحت رحمتها؟
2. قلق البابا بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب التي شنها الروس على أوكرانيا؟
3. ما الذي يمكن فعله لمنع التكنولوجيا من تدمير نسيج البشرية في نهاية المطاف؟
أتبع ذلك الخفوت جمودا استمر حتى يناير من العام 2023م عندما عقدت المائدة المستديرة في مجلس النشر التابع للكنيسة الأرثوذكسية ندوة بعنوان البعد الأخلاقي للذكاء الاصطناعي تحدث فيها الحضور وفي مقدمتهم “المتروبوليتان كليمنت ” عن صعوبة التنبؤ بالاتجاه الذي سيذهب إليه تطوير التكنولوجيا في المستقبل وأن المخاوف غالباما تنشأ تحت تأثير الخيال العلمي للأعمال الأدبية والسينمائية والرسوم المتحركة وتخلل ذلك العديد من المشاركات كان أبرزها تقديم أحد الحاضرين عرضا تقديميا حول التنظيم الأخلاقي لتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في تشريعات الاتحاد الروسي.
تستمر ” بطريركية موسكو ” في تغيير نمط تصريحاتها عن الذكاء الاصطناعي وستدعو الكنيسة الأرثوذكسية في أبريل من العام 2023م عبر رئيس اللجنة المعنية بحماية الأسرة والطفولة في الكنيسة الكاهن “فيودور لوكيانوف” Федор Лукьянов لحظر استخدام صورة الإنسان ومثاله وصفاته ككائن حي في برامج وتقنيات الذكاء الاصطناعي وكذا حماية القاصرين من الشبكات العصبية التي قد ترفع خطر التأثير على نفسية الطفل.
خلال تلك الدعوة يبدو أن الكاهن “فيودور” قد خرج عن النص عندما أوصى بتحديد مسؤولية المطور عن محتوى المعلومات التي يبثها البرنامج على غرار ما فعلته الصين في تشريعاتها الإدارية والجنائية،وسريعا خرج من يهمهم الأمر في محاولة لامتصاص ما أثاره “فيودور” ويتم الحديث عن أن المقترحات مجدية من الناحية الفنية ولكنها قد تضعف الشبكات العصبية الروسية في منافسة الشبكات الغربية.
تتسرب مخاوف معهد مستقبل الحياة في موسكو إلى ” الكريملين ” عبر رسالة تدعو فيها جميع مختبرات الذكاء الاصطناعي إلى التعليق الفوري لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي لمدة ستة أشهر على الأقل وتحث الحكومة للتدخل في هذا الأمر، فيسارع المتحدث باسم الرئاسةالروسية “ديمتري بيسكوف” Дмитрий Песков للرد بأن الرئيس”فلاديمير بوتين “Владимир Путин قد تحدث مرارا وتكرارا عن أهمية هذا العمل من أجل مواكبة التطور والتقدم في هذا المجال وأن هذا العمل سيستمر وأما بالنسبة لوجهة نظر أولئك الذين يتحدثون عن مخاطر الذكاء الاصطناعي فإن أي دواء يتحول إلى سم عنداستخدامه بشكل غير صحيح.
يمكنك ملاحظة أن فترة الجمود أنتجت لنا محاور مختلفة عن تلكم المحاور الجريئة والواقعية والمهمة التي قُدمت مع بداية الحراك، وهو وإن تشابه نوعا ما مع التحول الذي طرأ على موقف ” الفاتيكان ” بعد سلسلة الاجتماعات مع عمالقة التكنولوجيا الغربية إلا أن الفارق الواضح هو الدهاء والخبث الذي مارسته شركات التكنولوجيا الغربية لتحييد أي نقاش يمكن أن يضعها تحت طائلة المحاسبة نتيجةالاستخدام الخاطئ لتلك التقنيات واستغلالها للإضرار بالبشر خاصةوأنها تبسط سيطرتها على أغلب التقنيات التكنولوجية في أرجاء المعمورة.
فاتيكان روما يتهم ذكاء روسيا الاصطناعي وبطريركية موسكو تتجاهل
يوم الثلاثاء الثامن من أغسطس 2023م بابا الفاتيكان “فرانسيسالأول” Pope Francis يحذر من أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يشكل خطرا على المجتمع مسلطا الضوء عن إمكانياته التخريبية والمدمرة وآثاره المتناقضة ويلمح إلى تهديد التحيز الخوارزمي في التكنولوجيا ودعا الجمهور إلى اليقظة حتى لايتجذر منطق العنف والتمييز في إنتاج واستخدام مثل هذه الأجهزة على حساب الأكثر هشاشة واستبعادا.
قرأت مطابخ الصحافة الغربية في تحذير “بابا الفاتيكان” ما يجب أن يصل إلى جموع المؤمنين وللرأي العام الغربي واستثمرته للتعبئة مجددا ضد روسيا الاتحادية مستحضرة بين ثناياه ما اعتبرته الغزو الروسي لأوكرانيا والمخاوف بشأن الاستخدام المحتمل لأنظمة الأسلحة المستقلة التي يشار إليها عادة باسم الروبوتات القاتلة فضلا عن الحرب الإلكترونية التي تستخدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
لا تبدي “بطريركية موسكو” أي امتعاض من التحشيد الإعلامي الغربي بزعامة “فاتيكان روما” ضد روسيا الإتحادية، ولكنها كانتترصد صدى ذلك التحشيد في العالم المسيحي وتستعد لاستراتيجية ما.
يوم الخميس التاسع عشر من شهر أكتوبر للعام 2023م وفي إحدى قاعات “كاتدرائية المسيح المخلص”يخرج البطريرك” كيريل”Святейший Патриарх Кирилл أمام ممثلي وسائل الإعلام وهو أعلى سلطة في الهرم الكنسي الأرثوذكسي وخلافا للتكهنات فقد انصب حديثه حول التقليل من شأن فكرة خروج الذكاء الاصطناعي عن سيطرة البشر باعتبارها فرضية مصدرها الخيال العلمي مع اعتقاده باستحالة ذلك في المستقبل القريب، كما أشار إلى أن الغالبيةالعظمى من الإنجازات العلمية تعمل لصالح الإنسان وفيها ما يمكن أن تستخدم للضرر، وأنهى حديثه قائلا: ” لن نتجنب تطوير ما يتعلق بتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي ولكن يجب علينا تطوير الفلسفة المناسبة وقواعد التفاعل البشري مع الذكاء الاصطناعي .. وأنهى حديثه بالقول: إذا كان تطوير الذكاء الاصطناعي متقدما على إنشاء أنظمة التحكم لهذا الذكاء فإن أفظع الصور الرائعة التي يرسمها المؤلفون ذوو الصلة بأعمالهم يمكن أن تصبح حقيقة واقعة، (أي أنه إذا خرج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة البشرية فإنه يتوقف عن أن يكون اصطناعيا ويعيش حياته الخاصة).
وفي ظل كل ذلك الجدل والتناقضات والجدليات فإن ما يبدو جليا للعيان أن كلا الفريقين قد قادهم يقينهم إلى أن مصير المخاطر المحدقة بالبشرية جراء إساءة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي مرهون بمدى تعقل صانعوا السياسات في الدول الفاعلة في مجال الذكاء الاصطناعي فهم الوحيدون من بإمكانهم أن يحولون بين البشرية وبين الجحيم الذي ينتظرها في دهاليز الجهات السيادية والمجمعات الصناعية العسكرية.