فكر

العدالة الانتقائية

الثبات على المبدأ هو تلك الغاية التي لابدَّ من السعي إليها

محمد أسامة – أمريكا الشمالية
يعاني الكثير من أصحاب الرأي والاتجاهات السياسِيَّة، وحملة المذاهب الفكريَّة، من داءٍ يتصادم كثيرًا مع مبادئهم، ويتعارض مع ظاهر أقوالهم، فلا يحتفطون بمبدأ واحد، ولا بقولٍ ثابت، فيما يواجهون من قضايا تخصُّ مجتمهم، وما تشتمل عليهم أفكارهم وآراؤهم، وهذا الداء المنتشر هو داء ما عُرف بـ”العدالة الانتقائية” والتي تخصُّ أحكامُها أناسًا دون سواهم، وتُطبَّق على فئة دون آخرين، ولعلَّ مفهوم العدالة الانتقائية هو الشر الذي يضع القيم الإنسانية في مقتلها، والزَّيف الذي يدفع بالمجتمعات إلى هاويتها، ولا نبعد كثيرًا عن الحق إذ قلنا أنَّ داء العدالة الانتقائية أشدُّ ضررًا، وأعظمُ خطرًا، من مفهوم الظُّلم نفسه، إذ أنَّ الظلم يُطبَّق بالتساوي على الجميع، فلا يفرِّق بينهم، ولا يفاضِل عليهم، فكان له مبدأٌ واحد، وقولٌ ثابت، وهو ما خلا منه مُصطلح العدالة الانتقائية.
فعلى سبيل المثال حينما قامت عداءةٌ رياضيَّةٌ مصرية بخلع ملابسها، وكشف عورتها، وجدنا العلمانيين اللادنيين يُدافعون عنها باستماتة، ويهاجمون من هاجمها بضراوة، ويعطونها حُرَّيتها فيما ترتديه، ويعتبرون انتقادها تدخُّلًا مرفوضا، وعملًا ممقوتًا، على أنَّهم ما إن فرضت إحدى المدارس على الطالبات زِيًّا محتشمًا موحَّدًا لا يعارض الدين، ولا يتنافى مع الخلق، وجدنا هؤلاء الذين دافعوا عن حرية المتبِّرجة بالأمس في الفجور والتعرِّي، قد هاجموا حُرِّيَّة المحتشمة في التستُّر، فأعطوا للمتبرجة حُرَّيتها في ملابسها، وأنكروا على المحتشمة احتشامها وتستَّرها، مجسِّدين بذاك جانبًا بغيضًا في إزدواج آرائهم الفكرية، وتناقض دعواتهم إلى الحُريَّة، حينما حرَّموا الهجوم على المتبرِّجة العارية، بينما هم أنفسهم هاجموا المحتشمة المتستِّرة، وهو ما يُفضي إلى مفهوم العدالة الانتقائية، والتي تُطبق مبادئها على ما تُوافق من أفكارهم وحدها، ولا تُطبَّق على ما خالف معتقداتهم.
وهذه الحضارة الأوربية الغربية التي لم تخلُ بالفعل من مفاهيم العدالة والحرية، والمساواة والعدل والديمقراطية، لم تسلم من هذا الداء البغيض، ولم تنج مما أصابها من ذاك المرض السقيم، وهذا هو الغرب الذي يرفع دائمًا راية الحُرِّيَّات، وردَّد في سبيلها الدعوات والشعارات، لا يلتزم بمبادئه إذا خرجت عن حدود قارتهم، أو تنافت مع أهوائهم وأغراضهم، فمنهم من أساؤوا للاجئين السوريين، بينما رحبُّوا باللاجئين الأوكرانيين، وقاموا بترويج المثلية الجنسية ودافعوا عن حرية الشذوذ ومن أيَّدها، وأنكروا من عارضها، فأعطوا الحقَّ لمن أيد الشذوذ أن يدافع عن رأيه، ولم يعطوا نفس الحق لمن يعارضه أن يُفصح عن قوله.
وبيما هم يرفضون المساس بالمبادئ الدينية، وما آمنوا به من قيم أخلاقيه، نراهم هم أنفسهم يتعدون على مبادئ الإسلام بكل تبجُّح، ويقدِمون على الإساءة لنبي الإسلام، وحرق المصحاف بكل فجورٍ وإجرام ، بدعوى حرِّيَّة الرأي، ولكنَّنا لا نرى حُريَّة الرأي تلك فيما يمس دياناتهم، وما يخص مقدساتهم ومُعتقداتهم.
وبعض الدول الغربية، التي تُعتبر نماذجًا عليا للديمقراطية، سرعان ما تقوم بإفساد التجارب الديمقراطية في الدول المجاورة لها، والتي تقع خارج نطاقها، وكأنَّ شريعة الحرية والديمقراطية حكرٌ عليها وحدها، وفضيلة لا تنبغي للسواها.
ولما كثر النزاع السياسي الفكري في البلاد العربية، وتصادمت الأفكار وتعدَّدت الاتجاهات الحزبية، استغلظ الاستقطاب، وتتطرف أصحاب تلك الأحزاب، فكثر اتهام كل فئة لمن يعارضهم بالخيانة ومعاداة الوطن، ووصف المخالف بالحمق والدعوة إلى الفتن، رفضوا من يتآمرون عليهم، بينما تآمروا هم على من سواهم، أجازوا من الأمور كا كان لصالحهم، بينما أنكروا ذات الأمور إذا كانت عليهم، بل ومنهم من استحلَّ سفك دم الآخر وأنكر على الأخر الرَّدَّ بالمثل، وحرموه حقَّ القول والفعل.
وحتى مواقع التواصل الاجتماعي ما لبث أن سيطر عليها هذا الداء، واجتاحها ذلك السَّقام، فنراها تقوم بمنع أي انتقاد أو هجوم على الصهاينة وحُلفائهم، وأي شتيمةٍ أو سبابٍ يخصُّ أنصارَهم، بينما تسمح علنا بسب سواهم، ولا تمانع من نشر ما يُسيء إلى من هم دونهم، بل إنَّها حتى تحظر مجرد التعاطف والتمجيد فيما يخص القضية الفلسطينية، وكل ما تتضمنه من معاير وقيم إنسانية، فكان هذا من آثار المبادئ المزدوجة، والقيم المتناقضة، التي سيطرت على تلك المواقع بمساومة من التيارات الصهيونية.
وحينما حاول بعض صحابة النبي ﷺ التشفُّع لامرأةٍ مخزومية سرقت بأن يعفيها من تطبيق الحد عليها، لشرفها ومنزلة قومها، غضب رسول الله ﷺ غضبًا شديدًا وقال “إنَّما أهلك الذين من قبلِكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعْتُ يدها” مُفصحًا بذلك على أن الحدَّ لابد أن يُطبَّق على الجميع بلا استثناء، ويتساوى فيه الكل بلا جدال، رافضًا مفهوم العدالة الانتقائية الظالمة، وما تجرُّه على المجتمع من ويلات وأزمات قاتمة، وأن الحكم سيطبَّق حتى ولو كان على أحد أولاده، أو بعض أهل بيته ﷺ.
إنَّ المساواة في الحقوق بين الناس غاية سامية، وضرورة واجبة، وفضيلة لازمة، وركن من الأركان الواجبة لتحقيق العدل، ووجه من وجوه تطبيق الدين، ودعامة لتحقيق إنصاف المجتمع، فلا يحقد شخص على آخر، ولا يعادي إنسان إنسان، ولا يقع التبافض والتحاسد بين الناس، فيغضب فريق لا يحظى بما يحظى به غيره، حينما يرى معايير العدالة لا تطبَّق عليه، ولا يمتد نطاقها إليهم، فتنهدم لبنة المجتمع، ويسود التباغض والتحاسد بما يجره من ويلات وفزع، فتختفي معالمه، وتضيع مبادئه.
إنَّ الثبات على المبدأ هو تلك الغاية التي لابدَّ من السعي إليها، والاعتماد بكل الوجوه عليها، فمن آمن بمبدأ لابد من تطبيقه على نفسه وعلى غيره، ويعملُ بما فيه سواء كان له أو عليه، ويقرُّه سواء كان معه أو ضده، إذ لا يليق بصاحب الرأي أن يتعصَّب برأيه ويرفض تسفيهه، بينما يقوم هو بتسفيه رأي ألاخرين، وينبغي على صاحب الدين أن يحترم معتقدات غيره، إذا أراد الناس احترام معتقدِه، حتى وإن لم يُؤمن بها، أويقرُّ بصدقها، فله أن يجادلَفيتَّفقَ أويختلف، ويتَّفِقَأوينتقد، فهذا حقُّه أن يُعبِّر عن رأيه، ولا يصادَرُ عليه قوله، ولكن عليه احترام أراء المخالف ومعتقداته، والعمل بمبدئه بكل أركانه،فمن طبق مبدأه فقط فيما يتوافق معه، وتركه فيما خالف هواه، فقد أمام الناس مصداقيَّته، وخسر منزلته ومكانته، واتَّضح أمام العين أنَّه صاحب غرض لا صاحب مبدأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى