فكر

مقومات السلام والتلاحم المجتمعي والوطني

بقلم: عفاف عمورة ـ برلين

      من الواضح تماماً أن موضوع التلاحم المجتمعي بدأ بالتزايد يوماً بعد يوم، بخاصة في المجتمعات التي تشهد تنوعاً معرفياً وثقافياً وفكرياً بين مكوناته المجتمعية، وهذا الاهتمام لا ينحصر بين فئة المنظرين والمفكرين فحسب، بل يتعداهم إلى كبار المسؤولين وصناع القرار، والمؤسسات والإدارات والهيئات الرسمية، في عدد كبير من البلدان، كل ذلك في سبيل تحقيق التآلف بين مكونات المجتمع وتعزيزه، وتقوية روابط وأواصر العلاقة بين فئاته كافة، وذلك من أجل المضي قدماً لتحقيق المرامي والأهداف المشتركة في ظل التعددية والتنوع .
     إنَّ قوة التلاحم المجتمعي يعتمد اعتماداً كبيراً على مدى تمتع الأشخاص وأفراد المجتمع بالقيم والمبادئ المرتبطة بالمصلحة العامة لكل مكونات المجتمع. كالشعور الحقيقي بالانتماء وتقبّل الآخر وتقبّل التعددية، والمساهمة الفعّالة في تحقيق الأهداف المشتركة، وحجم الثقة المتبادلة ، واحترام وتقدير الجميع في ظل الهوية الجمعية للمجتمع .
     الجدير بالذكر أنَّ العديد من الأبحاث والدراسات تعرِّف التلاحم المجتمعي بمستوى التفاهم والتعاون بين أفراد المجتمع دون الرضوخ لضغوطات خارجية دون تحصيل مكاسب ومصالح خاصة. بينما نجد برنامج الأمم المتحدة للتنمية يقدِّم مفهوم التلاحم المجتمعي بارتباطه بالعديد من القيم كالتسامح وتقبّل الآخر، وتفهّم حالة التعدّدية وتقبّلها في المجتمع، والمساواة بين الأجناس والأعراق، والتجنب التام لأي عملية تهميش وإقصاء واستبعاد للآحر.
     هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى نجد أنَّ منظمة التعاون والاقتصاد والتنمية تقدّم تعريفاً آخر للتلاحم المجتمعي، وهو أنّ المجتمع الذي يعمل بشكلٍ جاد وعملي على توفير الرفاهية للجميع، ويحارب التهميش والإقصاء والاستبعاد، هو الذي يتمتّع أفراده بالإنتماء الحقيقي للمجتمع ،وتكون الثقة المتبادلة بينهم كبيرة جداً، وتحقيق الفرص المتساوية بين الجميع لتحقيق الحياة الحرة الكريمة والتقدم والإزدهار.

     مما لا شكّ فيه أنّه لا يوجد مجتمع مثالي بكل مكوناته الإنسانية، لكن عملية الالتزام بقيم التلاحم المجتمعي الوطني يضمن تحقيق مجتمع إنساني حضاري تغلب عليه السعادة والرفاهية والاعتزاز بالانتماء للمجتمع بما فيه من مكونات متنوعة. في عالمنا العربي يشكِّل التلاحم الاجتماعي حجر الزاوية في هوية عربية أكثر تماسكاً وقوةً كونه المرتكز الأساسي والحيوي لسلامة ونمو الوطن، حاضراً ومستقبلاً، وكونه مفتاح النجاح طويل الأمد للأجيال القادمة، والتخطيط السلوكي والمنهجي الذي يعتمد على المسارات الاستراتيجية التي تتوافق وتستجيب للتحولات المفاجئة والمُجَدوَلة بمنهجية مرنة تتعامل مع الواقع ومتغيراته، بمهارة فائقة تحاكي سلوك معظم الأنشطة المختلفة والمتنوعة وتحفّزها نحو تحقيق مبتغاها.

     لذا نعتبر من وجهة نظرنا أنّ التلاحم الاجتماعي المظلة الواسعة التي يستظّل بها المجتمع بكافة مكوناته. وهو الميثاق الذي يربط كل المعاني الإنسانية في سبيل بذل الجهود المناسبة ، والكشف عن المفاعيل الإيجابية والسجايا، والعمل على تفعيل وتسليط الضوء على الزوايا الخفية فيها . التي يمكن أن تساعد على الالتفاف حول القيم والمبادئ الوطنية، والتراحم والتآخي والتواد، وإشاعة الإيثار بين مكونات المجتمع وأطيافه، الذي عليه حسن النوايا والتسامح والممارسات، وضبط النفس المستند إلى قيم ومبادئ وقواعد الدين والأخلاق، والتأسي الفعلي لفضاء مشترك بين كافة مكونات المجتمع وأطيافه.
مما سبق يدعونا للتساؤل لماذا تحدث تشققات داخل المجتمعات تؤدي بها للإنفجار من داخلها. ولم تكن تلك المجتمعات قد وقعت في حالة حرب بين مكوناتها المجتمعية سابقاً. وما هي الأسباب الجوهرية التي تجعل مجتمعاً دون غيره قابلاً للانجرار إلى اشتباكات وصراعات واقتتال تحت عناوين دينية أو مذهبية أو جهوية، أو إيديولوجية ؟
    في وطننا العربي بكل مكوناته الاجتماعية يحتاج إلى الإجابة عن كل تلك التساؤلات، وذلك من خلال فتح مساحة واسعة للحوار والنقاش العملي والجاد، فجميعنا يعلم أنه لا شيئ أكثر خطورةً من تجاوز الأسئلة الحيوية والقفز عليها، في محاولات سياسية وأيديولوجية لنشر صورة غير واقعية وغير صحيحة عن التلاحم والترابط الاجتماعي الوطني. لقد أثبتت التجارب التاريخية وتحديداً في العقود الماضية، حالة عدم الاستقرار الكامل في مجتمعاتنا العربية، وأنّ أي حالة زعزعة أو خلخلة للأوضاع السائدة قد تذهب بالمجتمع نحو الاحتراب والصراعات العنيفة.

     وبالتالي تحدث عملية التشتت والتفتت والضياع وتعم الفوضى، ويتم افتقاد العدل والمساواة وإحقاق الحق كون حدوث الكوارث والخراب والدمار النسبي أو الكلي، المترافق مع أزمات اجتماعية وإنسانية واقتصادية، وهي التي أصبحت القاسم الأكبر للحياة العربية، وعنواناً رئيسياً لعدم الاستقرار في العديد من بلداننا العربية.
     في هذا السياق نجد أنّ الدولة تفقد دورها كونها تجسِّد العقد الاجتماعي، وتفقد جزء كبير من قوتها ونفوذها النسبي أو الكلي، وهذا يترافق مع تراجع الهوية الوطنية لمصلحة هويات فرعية تبرز في جو سياسي واجتماعي واقتصادي متردّي. تلك الهويات الفرعية غالباً ما توصف بأنها هويات قاتلة مادون الوطنية . ويفقد الفرد هويته الوطنية لأنه سيبدأ بالتعريف عن ذاته بأنه مجرَّد رقم في لوحة جماعته الصغيرة والضيقة، بدلاً من أن يعرِّف عن ذاته بدلالة المواطنية التي تشمل الجميع، حينها تصبح الشعارات الجامعة لامدلول ولا معنى لها، فالحروب الأهلية تكشف خفايا التمييز الطائفي والمذهبي والإثني، وتكشف ضعف وهشاشة الأسس والقواعد الوطنية . وضعف الدولة وتكوينها وتركيبتها، وعدم قدرتها الفعلية على بناء المشترك الوطني بين أبناء الوطن الواحد. لقد رسمت الدولة الحديثة النظام السياسي في صورة وفاق وطني يجميع الكل من خلال إظهار حالة التعايش العملي بين المكونات المجتمعية، وهي الصورة الأكثر تجسيداً وحضوراً إعلامياً في كل المناسبات الوطنية العامة، بخاصة في الدول التي لم تنجز مرحلة الدولة ـالأمةـ بمفهومها العام. لكن هذه السمة وتلك الصورة تتضمن إشارات بليغة إلى أنَّ حالة التعايش بين مكونات المجتمع تعترف بالمواطنين من خلال انتماءاتهم الفرعية الضيقة. وليس باعتبارهم مواطنين أو ليس من خلال وجودهم الشخصي الفردي المواطني ، أوى أنها تجعل موضوع السلم والأمن والأمان رهن حالة التعايش بين مكونات المجتمع، بصفتها الأهلية الاجتماعية ، وليس بصفتها الوطنية.

   من هنا وجدنا سهولة تتبع الخطابات في العديد من الدول العربية التي تعلي من شأن المجموعات والمكونات الأهلية ، في ظل الغياب النسبي أو الكلي للدولة وإداراتها ومؤسساتها وهيئاتها ، بخاصة الخطاب الديني الطائفي والمذهبي الذي يكرّس المذهبية بطريقةٍ فجّة مرفوضة، ومشرقنا العربي اليوم هو الصورة المتجسدة البارزة لهذا النموذج. كونه يجمع بين طياته أطياف وملل ونِحَل وقوميات (إثنيات) عديدة. وقد لا حظنا تسيّد الخطاب الجهوي في العديد من بلداننا العربية الذي يكرِّس حضور المكونات الأهلية الجهوية التي تحافظ بشدّة على تماسكها البنيوي في مقابل الدولة ومؤسساتها، بل لأنَّ الدولة ونظامها السياسي المتبع مارست لسنواتٍ طويلة من الحكم نوعاً من المراوغة والتعمية على الفضاء المجتمعي، وقضاياه الجوهرية، ومشكلاته العامة. وأغلقت الفضاء العام الرحب بل الأرحب في وجه الحوارات والنقاشات المجتمعية المطلوبة، واحتكرت لنفسها تشكيل الصورة الوطنية دون غيرها .
       في هذا الإطار يبدو أنَّ تحويل النسبي إلى مطلق، بمعنى آخر تحويل الهوية الفرعية الضيقة إلى هوية غير قابلة للنقد أو الاعتراض على بعض سماتها، وجعلها قيمة يتم بها القياس على باقي المبادئ والقيم، هو الطغيان والاستبداد بعينه، حيث تغدو الذات معصومة عن أي خطأ أخلاقي أو سياسي، بينما يتحوَّل الآخر إلى مصدر كل العيوب والعلل الأخلاقية والسياسية، كل هذا يجعل من السهل القيام بتهميش وإلغاء الآخر واستبعاده. والذي يبدأ بنفيه تماماً من الناحية الأخلاقية والقيمية، بل وفي كثير من الأحيان وضعه في مرتبة دون إنسانية،أو دون بشرية. وهو ما تتضمنه معظم خطابات الحقد والضغينة والكراهية، كل ذلك في سبيل تسهيل عملية تدميره وإفنائه وشطبه واقعياً من خلال الحرب الأهلية المدمِّرة .
في حقيقة الأمر الحرب بحد ذاتها شكل من أشكال نفي الآخر واستبعاده . وهو فعل غير تواصلي بين الذات والآخر، وهي في الآن ذاته تعبِّر بطريقة سيئة جداً عن سوء الفهم والتداول التواصلي بين الأطراف المتنازعة ، وعدم المعرفة الحقيقية بطبيعة الآخر ، يُمارس فيها عملية التخوين والتجهيل، وكل أشكال الإذلال والانتقاص والتحقير من ال|آخر . ففي الكثير من الحالات تدعمها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي تساهم في تعميق الخلل البنيوي المجتمعي من دون أدنى معرفة للظروف والشروط الموضوعية، أو فهم طبيعة التعدّد الإجتماعي وتنوعه الذي يمكن الاستفادة من مكوناته الثقافية والمعرفية وقدراته على البناء الإنساني والثبات المجتمعي، وعدم اعتباره نقيضاً لمبادئ وقيم الذات وخصوصياتها .
         إنّ معظم ضحايا الحروب الأهلية هم ضحايا عدم معرفة تاريخ وحياة الكتل والتجمعات البشرية ضمن حدود جغرافية محدّدة، وعدم معرفة أو فهم حالة التاريخ المتبادل بين الاطراف المجتمعية، فمعظم الطوائف والمذاهب والأقليات ينهلون من مشارب فكرية وثقافية ومعرفية وسياسية مختلفة ومتنوعة، ولم تتمكن تلك الأطراف من التواصل الحقيقي فيما بينها،وفي الوقت نفسه هم ضحايا التكبّر والاستعلاء مقابل الانتقاص وتحقير الآخر وتسفيهه. ومنحها الحق في استخدام العنف والقوة لإلغاء الآخر ونفيه من الوجدود، بل والتغني بتلك القوة وحجم الاستبداد والطغيان، والاحتفال الفاقع بمشهد إنهاء وسحق الآخر وموته. ففي الحروب الأهلية الداخلية ترى فيها الجماعات أو الأطراف كل فردٍ فيها عدوه اللدود، كما نرى من يريد أن يبقى على الحياد خائناً، لا يمكن التعايش معه، ولا العمل معه في نفس الأرض التي يعيشون عليها. وهنا لا يمكننا إغفال حقيقة ظاهرة للعيان في كل تاريخ الحروب الأهلية كونها تنطوي على تدخل قوى خارجية وهذا ما أكّد عليه باتريك م. ريغان أستاذ العلوم السياسية في جامعة بينغامتون بالولايات المتحدة الأمريكية في كتابه: (الحروب الأهلية والقوى الأجنبية) الصادر عام 2000 م .

      إنَّ الانتقال من الحروب الأهلية إلى حالة السلام المجتمعي المستدام وطنياً، أو تجنّب إنزلاق المجتمعات إلى مثل تلك الحروب المدمرة، له العديد من الشروط . وجميعها مهمة جداً، يمكن أن يأتي في مقدمتها الفعل التواصلي العملي بين جميع المكونات المجتمعية، من أجل إزالة أسباب عدم المعرفة وسوء فهم التاريخ الذي حدث عبر سيرورة تاريخية طويلة، وتجاوز حالة الجهل الحقيقي بالآخر. وبناء مفهوم جديد للهوية العامة، وبناء الذات كي يتم بناء المجتمع بناءاً سليماً معافى، ويصبح معه الانتماء الأساسي والأول للمواطنية، وهذا كله مرهون بوجود قد كبير من الحرية والديمقراطية، وفسحة واسعة للتعبير عن الرأي والرأي الآخر .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى