فكر

لوتريامون.. أحد الركائز الكبرى التي نهضت الفوقواقعية عليها

بقلم : عماد خالد رحمة

     لوتريامون هو واحدٌ من كبار الشعراء الفرنسيين الذين زرعوا العاصفة وحصدوا الصواعق، وهو واحدٌ من القافزين على الواقع، والمسكون بالسخرية والمزاح الأسود، وهو المتمرس بالعجب العجاب، والمستبطن لخبايا الجنون والحلم، ومطاوي الوجدان، ومخابئ اللا وعي التي تعج بالأجوبة على الأسئلة الكبرى المحيّرة للعقل البشري.
   ولأنَّ لوتريامون أبعد الناس عن الرمزية، فإنه يرى كل شيءٍ عدم وخواء؟؟ ولأنه عضليٌ أكثر منه هائجُ الأحاسيس فقد تناول المزاج بأكمله، لأنَّ العضلية هي محور حياته، بل إنها الحركة في قسوتها وعنفها البدائيين، من أجل الغوص في معاناتها واختبارها وتحريرها، وجعلها المدار الذي تدور حياته حواليه، إنها اللاوعي الطليق.
لوتريامون واحد من كبار الشعراء الفرنسيين الذين زرعوا العاصفة في الشعر الفرنسي المعاصر، وهو بالذات الذي زرع العاصفة ليحصد الصواعق. قبل أن يعصف به الموت عام 1870 عن عمر يناهز الرابعة والعشرين. فقد وُلد لوتريامون واسمه الحقيقي (ايزيدور دوكاس) في مونتيبيدايو عام 1846 لأب دبلوماسي كان يعمل قيّماً على قنصلية فرنسا في الأوروغواي. وهو الذي أرسله في الرابعة عشرة من عمره إلى العاصمة باريس بعد أن أتم دراسته التكميلية والثانوية في مدينة (تارب) ومدينة (بو) ليتقدّم إلى امتحانات البولوتكنيك، هذا الشارد في شوارع وأزقة باريس كان يقرأ في كل زاوية وركن ما تخفيه تلك الجدران من أسرار وكمائن، وعفونة، فهي مدينتين متكاملتين، مدينة النهار ومدينة الليل، لم يكن ملاذه من تلك الصراعات والتقلبات والمسوخات التي يراها بعين رجيمة، إلا الكتابة التي ظهرت في مجموعته الشعرية اليتيمة (أناشيد مالدورور) في العام 1869 التي لم تلق رواجاً بل واجهت منعاً للتوزيع لأنها تتضمن نصوصاً فيها من الجرأة والجسارة ما تعصف بنا الهول، وترتعد الفرائص، ويصبح الجوُّ الذي نعيشه خانقاً كأنما نحن في بهو المجانيين، نشعر بأننا فريسة المسخ العملاق، وبأنَّ الكون كابوس رجيم، وبأنَّ عقلنا يتزحزح عن ركائزه وقواعده أمام هذا العالم المتشظي الذي يُبنى ويُهدم كل لحظة، ولا ندري أهو عالم اللاوعي الذي سينسخه الفوقواقعيون ؟؟؟؟ لهذا وما تضمنته مجموعته الشعرية (أناشيد مالدورور) اليتيمة لم يتم اللإفراج عنها إلا بعد أربعين عاماً من موته أي عام 1910. والتي يقول فيها :
(أنا أستبدل بالسويداء الشجاعة، وبالشك اليقين، وباليأس الرجاء، وبالخيانة الخير، وبالشكاوى الواجب، وبالارتيابية الإيمان ، وبالسفسطات برودة الهدوء، وبالكبرياء الخفَر). إلى أن يقول: (الاختلالات والغصص، والفساد، والموت والشواذُّ في النظام الطبيعي أو الأدبي، والرفض، والتخيّل، والهلوسات التي تخدمها الإرادة، والوجاع والتخريب، والانقلابات، والدموع، والجشع، والاسترقاق، والمخيلات الحافرة، والروايات، وما لا نتوقعه، وما لا يجب صنعه، تفردات عُقاب سري يتربص جيفة بعض الأوهام المائتة ، والاختبارات البدرية والجهضية، والمعميات المدرعة كالبقّ، وهاجس الكبرياء الرهيب المقيم، وأهواء النفس، والحمازات، والمسوخ، والقياسات المفسدة، والقذاعات، وما لا يفكر كالولد، والخراب، وهذا المثقف الشبيه بشجرة الموت، والقُرَح المعطَّرة والأديب المذنب الذي يتدحرج على منحدر العدم ويحتقر نفسه بهتافات الفرح، ونخس الضمير، والرياء، والمشاريع المبهمة التي تسحقك بين دواليبها الخفية، والبصاق الرزين على المبادئ المقدسة، والهوامُّ وما تدبه فيك من الدغدغة، والمقدمات الخرقاء كمقدمات (كرامويل) و(مدموازيل دي موبين) و(دوما) الابن، والأمور البالية، والعجز، والسباب، والاختناقات، وضيق النَّفس، وسورة الغضب، أمام هذه الأكداس من الجثث القذرة التي تعلوني حُمرة الخجل إذا ما ذكرتُها ، لقد آن أوان الانقضاض على ما يصدمنا ويجعلنا نحني الرؤوس بسلطان).
هذا هو لوتريامون في مجموعته اليتيمة (أناشيد مالدورور) التي قال عنها (غي ميشو): (هو أنَّ لوتريامون في (أناشيد مالدورور) ليس نشيطاً وحسب بل إنَّ شيمته الهجوم، فالقوى الحيوية التي تفور في أعماقه، إنما هي سُمٌّ حرور، حتى لنخال أعضائه للضرب، وأظافره للتخديش، وأسنانه للعض والقضم، إنه شاعر ُ الحياة الحيوانية المفترسة).
من الواضح أنَّ نصوص (لوتريامون) تأتي على قارئها كالشهب الحارقة، وكأنها ألف مجرّةٍ تهاوت على الأرض، رُجُمٌ هي الثورة بأعنف أشكالها وأكثرها شمولاً حتى لا تبقى ذرّةٌ مما تواضع الناس عليه إلا وتلتفُّ ذاهلةً في دوامة الإعصار . لذا فقد تقاطع رأي (غي ميشو) مع رأي (باشلار) القائل : (حركات لوتريامون تجيئنا بخبرٍ عن ليلتنا الحميمية)، كما تقاطع رأي (بيار كنت) مع السابِقَينْ حين قال عن لوتريامون ومجموعته الشعرية (أناشيد مالدورور) : (أنه كتاب الثورة العصري الأكبر)… وهنا نرى أن (أناشيد مالدورور) أذنت لميلاد طريقة غنائية جديدة، وفريدة من نوعها، هي الغنائية العضلية، بها يعبِّرُ الاندفاع الحيوي عن نفسه، لا بحركات حقيقية من العنف، بل بتدفق كلاميِّ وبِدِرَّة الخيال .
لقد اندفع لوتريامون مهاجماً كل معتقدات وأعراف وتقاليد الإنسان، كما هاجم نظام الكون المعقّد وترتيب الخلق والخليقة وأوضاعهم ومستقبلهم المنشود، كما تهجّم على الإنسان بجوهره وقيمه وناموسه، وقد هدف من وراء ذلك الرجم اللعين تهشيم الكون ومدبره من خلال مهاجمة الإنسان أفضل مخلوقات الله على الأرض قاصداً من وراء ذلك إشاعة جو الحمى والعفونة والقروح والجنون حتى ليخيّل إلى القارئ أنه فاقداً عقله ونفسه، وكأنه تم نثره هباءً مع الريح التي رجمتها كلماته وقصائده التي تحاول مسح وسحق أي فضيلةٍ، فالشاعر لوتريامون شاعرٌ رجيم يعتبر العدم والوجود سيان. يقول : (لقد تعاقدت مع الدعارة، لكي أزرع البلبلة في العائلات، أنا أذكر الليلة التي سبقت العقد الخَطر. رأيت قبراً أمامي، سمعتُ حُباحِبَ، كبيراً كأنه بيت، يقول لي: (ها إنني سأنيرُكَ. إقرأ الكتابة، لستُ أنا مصدر هذا الأمر السلطاني نورٌ رحيبٌ بلون الدم، لدى رؤيته اصطكّت أسناني وتهاوى ذراعاي بدون حراك، شاع في الجو حتى الأفق. استندت إلى سورٍ متداعٍ لأنني كنتُ على وشك أن أسقط أرضاً. لم يعد يشعّ النور المُدمَّى. وا أسفاه، وا أسفاه ! !! صاحت المرأة الجميلة العارية، ماذا صنعتَ ؟؟؟؟ ” هل أنا إليها : أفضّلكِ عليه، لأنني أشفق على التعساء. ليس الذنب ذنبَكَ إذا العدالة الأبدية خلقتكَ. منذ يومي هذا سأطلِّق الفضيلة، لذلك أيها الشعوب عندما تسمعون ريح الشتاء تولولُ فوق البحر وقرب شطآنه، أو فوق المدن الكبيرة التي تلفَّعَتْ بالحداد لأجلي منذ أمد أو عبر الأقطار القطبية الباردة، قولوا : (ليس روح الله هو الذي يمر)، إنَّ هو إلّا تولولٌ فوق البحر وقرب شطآنه، أو فوق المدن الكبيرة التي تلفّعت بالحداد لأجلي منذ أمدٍ طويل، أو عبر الأقطار القطبية الباردة قولوا : (ليس روح الله هو زفير الدعارة الحاد يمتزج بنحيبي)).
لقد رأى العديد من علماء النفس والاجتماع الخلل البنيوي في نفسية وتربية لوتريامون الذي وُلِدَ في مونتيبيدايو وتركته أمه وهو طفل صغير بعد موتها المؤلم،ثم انتقل إلى فرنسا في الرابعة عشرة من عمره ليواجه الحياة الصعبة وحده ، ومن ثم انتقل إلى الأروغواي، فإلى باريس عام 1870. ليموت وحيداً بعد شهرين من وصوله إلى باريس في غرفة فندقه معزولاً عن العالم.
كما أن علم نفس الأدب كان قد أكّد أنَّ لوتريامون كان يعاني من أزمات نفسية حادة نتيجة العديد من الصدمات التي تلقاها في حياته ولم يقف أحد إلى جانبه هذه الصدمات دفعته لان يرجم العالم والخلق والخليقة وكل المقدسات الإنسانية، فقد قال : (الانحرافات الهجومية والجنون، والسأم، والمخاوف المدروسة والقلق الغريب الذي يفضّل القارئ ألا يُعانيه، والتصعيرات، والأمراض العصبية، والدربات المدماة التي يترصدها المنطق، والإغراق والمواربة، والتكرار، والتفاهات والهجوم، والولادات التي هي أشد هولاً من القتل، والأهواء، والمآسي، والنشيدات، والميلودرامات … وروائح الدجاجة المبللة، والتفه، والضفادع، والصَّبِّيدجُ، وكلاب البحر وسموم الصحارى، وكل ما هو سائر بنومه مريب، ليلي منِّم، لزج، فقمة ناطقة، مشبوه مصدور، تشنجي، مهيِّج للشبق).
إنَّ من يقرأ تاريخ الأدب يجد أنَّ هناك مقاربات شديدة الوضوح في أعمال العديد من الشعراء، فلو قاربنا شخصية لوتريامون مع شخصية رامبو لوجدنا أنَّ كلا الشخصيتين قامتا بتحقيق ثورة على السلف، ثورة على الماضي والحاضر، ثورة عبقرية تنظر إلى المستقبل بعينٍ ثاقبة عينٌ راجمة وعينٌ مستلهمة، وكلا الشاعرين مات في ريعان الشباب، فصمت رامبو ومات لوتريامون، فالصمت والموت هنا سواء، و(موسم في الجحيم) و(أناشيد مالدورور) دخلا برزخ القبر ، وبعهدها قرأت الأجيال نتاجهما. وهما مع بودلير الذين جعلوا الشعر الفرنسي شعراً حديثاً، ولحقهم من أعلام الشعر الفرنسي بطريك الشِعر أندره بروتون ولحقه مالارمه، وأبولينير. وهم جميعاً من الركائز القوية للفوقواقعيون الذين أجبروا الشعر العمودي التقليدي يستسلم ويتنحى جانباً. بعد أن أغرقوا قصائدهم بالصور والمعاني والتعبيرات الجميلة الأخّاذة التي مثّلت تغيّر جوهر وكينونة الإنسان مع تطور الأزمان والعصور.
لوتريامون المرمّد مات، ومازال شعره ينبض برجمٍ دامي ينتفض كالعنقاء في ليس في سماء الشعر الفرنسي الحديث، بل في سماء الشعر الحديث والمعاصر في العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى