نظرات في إشكالية سؤال: ما السعادة؟
بقلم: عمر اليدري أفيلال | المغرب
التمكن من طرح السؤال، مُنَى أي بحث جاد، وأي حقل فكري أو لغوي رصين، وفهمه نصف الجواب كما يقولون، أما عن صياغته صياغة سليمة ومنطقية -فتلك لعمري- تنم عن إدراك خفي لماهيته، ومن الأسئلة التي أرقت التفكير الإنساني، سؤال السعادة؛ فهل نحن مدركون تمام الإدراك لماهية السعادة؟ ؛ وهل صيغ هذا السؤال صياغة سليمة؟
إن قولنا ما السعادة؟ ؛ بمعنى ما الشيء الذي يقال عنه سعادة؟ يستلزم بالضرورة أنه شيء حسي يمكن إدراكه بإحدى المدارك، ويستتبع كذلك حصره فيكون الجواب عنه ذا طابع اختزالي؛ بأن نختزل السعادة في شيء ما؛ كأن نقول السعادة هي كذا، على نحو ما تقول في “ما السيارة؟” السيارة : وسيلة نقل ذات عجلات أربع، ولك أن تذكر بعد ذلك من صفاتها الأخرى قدر ما شئت، فهل يمكن أن نختزل السعادة في شيء ما ؟ أم أن لها تمظهرات مختلفة لا يمكن حصرها في الحياة؟
كانت المرة الأولى التي يشق فيها هذا السؤال طريقه إلى تفكيري، حينما كنت في الثانوي، أعالج موضوعا فلسفيا، ولعل السؤال أو القولة التي كانت طيَّ الاختبار -إذا لم تخني الذاكرة- عن العمل ومدى اضطرار الإنسان إليه ؛ بحيث لا يجلب له إلا الشقاء، ولم أكن قد وعيت بالإشكالية التي تثيرها صياغة سؤال كالسعادة على هذا النحو الذي أتيت على ذكره في البداية، والذي أضحى اليوم موضع تساؤل الفلسفة اللغوية التي يرى بعض روادها -سيما- فتجنشتاين أن أغلب الأخطاء الفلسفية كانت أخطاء لغوية، بل استقيت حينها تمثلي للسعادة من واقعي الحي، من خبرتي الضئيلة بالحياة، ومن نظرتي التي تكونت لدي من موقعي في الأعمال التي كنت أزاولها إذاك بالموازاة مع دراستي سعيا في طلب الرزق؛ فكان حديثي عن العمل من وحي التجربة المحسوسة ؛ انطلقت منها في معالجة إشكال، ربطته بالسعادة.
رأيت أن للسعادة تجلياتٍ مختلفةً في حياتنا، وهي ليست كالمتعة في ضآلتها وقصر مدتها؛ فإذا كانت المتعة محسوسة، ويمكن الشعور بها بدنيا، عند مزاولة أمر ما، فإن السعادة -على خلاف ذلك- مما يُدْرَكُ ولا يُفْرَكُ على تعبير ابن خلدون، لا يُشعر بها ولا تَحُلُّ إلا في القلب، وهي من ذلك قد تدوم، مع أنها يصعب أن تُحَدَّ بزمن، فالمتعة فردية، أما السعادة فلا تتبدى إلا في علاقاتنا بالآخر والعالم، فقد تقول استمتعت بالطعام، لكنك لا تقول -على الأغلب- سُعِدت به إلا مجازا، لأن الطعام آني ويتعلق بالفرد.
غير إنك قد تقول في مقام آخر، سُعِدت بالعمل معك، بصداقتك، بمعرفتك، بنجاحك، بالزواج بك، بالانضمام إليك،وجودك معي يسعدني، إسعادك غايتي ؛ فهاته أمور معنوية لها تحققات مختلفة؛ غير إن السعادة إلى ذلك ممتدة، وهي اجتماعية، ومما كان خطر لي حينها سوى أقوال بعض الفلاسفة حديث “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، يأتيه قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها” ؛ إذ فهمت هذا الحديث، وقرأته، وتلقيته، على أنه تجليات متباينة للسعادة ؛ أمنا في السكن، معافاة في البدن، وقوتا يوميا، يعادل ذلك في نظر المرء الدنيا وما فيها؛ ومن هنا تنجلي عظمة التشبيه ب”كأنما” في الحديث، فتلك التجليات في كفة، والدنيا في كفة أخرى.
وفي الإنسان طبع متجذر قد جُبِلَ عليه ؛ فهو لا يُدرك الشيءَ، ولا يتبينه إلا بأن يضعه إزاء ضده سواء كان ذلك طوعا منه أو كرها؛ فبالأضداد تنجلي الأشياء-كما يقولون- فلا تُتَصَوَّرُ سعادةُ الأمنِ في السكن إلا مع تصورِ الحرمان منه، ولا سعادةُ المعافاةِ في البدن إلا بتصور نقيضها، ولا القوت اليومي إلا بالبطالة؛ وهكذا دواليك؛ فتلك اللقمة التي يتناولها الزوج بجوار زوجته، والأب حِذاءَ أبنائه، تجل من تجليات السعادة التي يذوب بها الألم ويختفي، في ظل ابتسامة على محياهم، وسرور يعتري أفئدتهم .
وإذا ما اجتمع إلى ذلك الأمن في السكن، والمعافاة في البدن؛ فذانك تجليان آخران من تجلياتها، ولا يقف الأمر على هذه التجليات بل يمتد إلى أخرى لا تنحصر، فكلما عانى المرء في طلب الشيء في البداية غمرته السعادة وكانت حليفا له عند الظفر بها في النهاية، وإذا كان هناك من شيء يمكن استنتاجه مما ذكرناه أن السعادة لا يمكن أن تختزل في شيء محدد محسوس؛ ومنه اشتدت الحاجة إلى إعادة صياغتها على نحو يتفق مع ماهيتها بأنها جوهر له تجليات مختلفة، قد يقول قائل وهل ثمة من أسئلة مقترحة قد تتلاءم وماهية السعادة؟ ولعل السؤال يمكن أن يكون السؤال من قبيل ماذا نعني بالسعادة؟ ما تجلياتها؟