الهوية السليبة في رواية: نزيف المسافات للكاتب صالح البياتي
علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية
تأتي رواية الكاتب صالح البياتي (نزيف المسافات) لتعيد إلى الأذهان أكبر جريمة ارتكبها النظام الدكتاتوري في العراق ألا وهي حملات تهجير الكرد الفيلية خاصةً بعد استيلاء صدام على السلطة سنة ١٩٧٩م بدعوى ولائهم للأجنبي .
لم يستثنِ التهجير أحداً، والأدهى والأمر من ذلك منع المهجرين من أخذ ممتلكاتهم في أكبر عملية تسليبٍ علنيةٍ صارخةٍ تنبىء عن وحشية النظام .
وحسب الموسوعة الحرة فإنَّ حملة تهجير الكرد الفيلية بدأت في سنة ١٩٦٩ م بحملة ترحيل ونفي قسري، وفي عام ١٩٧٠م، جرى ترحيل أكثر من ٧٠ ألف كردي فيلي إلى إيران وتم سحب جنسيتهم، واستهدفت حملة التهجير التجار والأكاديميين البارزين ورفيعي المستوى في بغداد على وجه التحديد.
في السابع من آيار سنة ١٩٨٠ وقع صدام على المرسوم المرقم ٦٦٦ الذي ينص على: (استناداً الى أحكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والأربعين من الدستور … قرر مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة بتاريخ ١٩٨٠/٥/٧م ما يلي : –
١. تسقط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة .
٢. على وزير الداخلية أن يأمر بإبعاد كل من أسقطت عنه الجنسية العراقية بموجب الفقرة (١) ما لم يقتنع بناء على أسباب كافية بأنَّ بقاءه في العراق أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسمياً .
٣. يتولى وزير الداخلية تنفيذ هذا القرار). هكذا صارت هذه الجريمة مشرعنة قانونياً.
تلقي رواية (نزيف المسافات) الضوء على هذه الجريمة، وتجري أحداثها الرئيسة في محافظة ميسان أما أحداثها الثانوية فتجري في بغداد، وتروى براويين: الأول : الأكاديمي الإداري (نوح فرحان عبد الله) ، والثاني هو الراوي العليم.وأما الشخصيات الثانوية فتتقاسم الأدوار حسب أهميتها فشخصية المسؤول الأمني (سليم الخماش) يمثل السلطة القمعية بأجلى مظاهرها، وشخصية (سعيد) اليساري أنموذج للماركسي، و(سيناء سبتي) الفتاة التي يجد فيها نوح الزوجة المناسبة ، و( عبد الهادي) القاضي النزيه الملتزم بالقانون، و(موسى الكيال) الثري الذي لم ينفعه غناه في وقف تهجيره ، و(عاشور) المجنون، و(الشيخ المندائي) الذي يتنبأ بحلول (الطرقاعة) أي المصيبة التي ستحل بالبلد ويطلق عليها (دولاب) حسب تعبير (أم سعيد)، ويتحقق ذلك بنشوب الحرب العراقية الإيرانية.. كل هذه الشخصيات لها أدوار محددة، ومسارات تلتقي، وتبتعد عن مسار بطل الرواية. يجعل الكاتب سبباً معقولاً لمجيء نوح إلى بغداد لمرافقة أمه المريضة للعلاج في بغداد، يقول: (لطالما كانت المسافة بين مدينتي الجنوبية وبغداد والتي قطعتها حتى هذه اللحظة مرات عدة لا تحصى تذكرني دائماً بدرب الآم المسيح، يؤرقني الطريق كثيراً كلما سلكته ذاهباً أو آيباً كنت أراه كل مرة ينزف دماً.. ) ص ١٢١ ويكون نوح شاهداً وراوياً لما حصل من التهجير القسري لعوائل عراقية مخلصة لانتمائها للوطن والناس بدعوى التبعية، والولاء للأجنبي الذي لا يوجد سونار لفحصه!
يصف الكاتب غياب بعض هؤلاء الناس بالتهجير بالموت المؤقت: (أفكر أنَّ غياب إنسان عن ناظريك هو موت مؤقت) ص ٢٤١. يكون الزمن الفعلي لأحداث الرواية نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، لكن التمهيد لما حصل يعود إلى العهد الملكي الذي يطلق عليه الكاتب (زمن الاسترخاء) معتمداً على وجود دفتر مذكرات. يقول نوح: (في دفتر المذكرة الذي يحمل اسم كنزي الثمين للزمن القديم، انقلبت الأوراق على صفحة جديدة.. انقضى ذاك الزمن قبل ما يقرب العقدين وانقرضت معه المملكة الفتية وماتت معها إلى الأبد أمنية مدير مدرستنا بدوام بقائها (يا دار السيد مأمونة) .. يحلو لي عندما أسترجع ذاك الزمن، أن أسميه زمن الاسترخاء الطويل والاغفاءة الناعمة اللذيذة المستسلمة) ص ١٠٧
لم تعد الأمور كما وصفها الكاتب مع بداية تأسيس الدولة العراقية إذ يقول : كنا نعيد أخطاءنا عمداً أكثر من مرة لكي نطيل وقت اللعب أكثر من أجل المزيد من المرح والضحك لهذا كل منا الآن، يحب الطفل الذي يختبىء فيه لأنَّ أخطاءنا كانت مثلنا بريئة) ص ٣٥٨
لكنَّ العهد الجمهوري تصل دورة الحكم فيه إلى استفحال الديكتاتورية والخوف: (هذا هو الآن زمن الترقب والتربص الذي نعيشه، زمن سليم الخماش وجهازه البوليسي المرعب وتحت تأثير تلك النبوءة الغامضة التي كسر هلال يوماً ما أختامها، وأخرجها من كثافة الظلام إلى شفافية الضوء) ص ١٠٧
يشخّص الكاتب وجود مؤشراتٍ قويةٍ على استعداد المجتمع العراقي لدورة العنف والدم والدمار والظلم، وهي لم تأتِ مصادفةً. يقول نوح : (الأشياء التي قد تبدو تافهةً، ولا قيمة لها بنظر الآخرين، قد تكون على العكس بنظر غيرهم.. أذكر يوماً في مدرستي الابتدائية، كنت أبري قلم رصاص جديد، أثناء فترة الاستراحة، جاء تلميذ فخطفه مني وهرب، جريت وراءه، ولكن حين لحقت به لأستعيده، كسره نصفين ورماه للأرض.. كان الولد أكبر وأقوى مني ، فلم أستطع أن أفعل شيئاً، شعرت بانسحاق قاهر.. كان قلبي تلك اللحظة يغلي بنار الغضب.. يا إلهي الرحيم لو أنَّ ذرة من عدلك تسود العالم لكانت كافية، ولما كنا نعاني كل هذا العذاب الذي لا ينتهي) ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧
وبرغم أنَّ هذه هي أول رواية للكاتب بعد مجموعة قصصية عنوانها (أرشيف مدينة تحتضر) صدرت عام ٢٠٠٨م عن مركز الحضارة العربية في القاهرة إلا أنَّها تكشف عن مهارة في السرد والتشويق مع اعتناء واضح بالخط الفكري الذي يعلي من قيمة الإنسان، ويدعو إلى قيم المحبة والجمال، ونضم صوتنا إلى صوت الكاتب الذي يقول : (أتمنى أنَّ جميع مشاكل العراق تنتهي هكذا، بالحب فقط..) ص ٣٢٦
*(نزيف المسافات) للكاتب صالح البياتي، عدد صفحات الكتاب ٣٦٠صفحة من القطع المتوسط / دار الورشة / بغداد / ٢٠٢١م