مقال

الثقافة الشعبية والمنتج الأدبي

تقديم كتاب مؤتمر فرع ثقافة المنوفية، المنعقد يوم الاثنين ١٤ من مارس ٢٠٢٢م

د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – كلية الآداب ـ جامعة المنوفية

رئيس لجنة العلاقات العربية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. وبعد.. فيطيب لي بعد شكرا القائمين على الثقافة في محافظة المنوفية، واللجنة المنظمة لهذا المؤتمر المهم، على حسن ظنهم بي، واختياري رئيسا لمؤتمر اليوم الواحد لهذا العام، يطيب لي أن أخط هذه الكلمات على سبيل التقديم لهذا الكتاب الذي يتضمن بحوث المؤتمر الذي جاء عنوانه: “الثقافة الشعبية والمنتج الأدبي”، وهو عنوان موفق يؤكد على أهمية البيئة وأثرها الكبير في المنتج الأدبي.

ولهذا الموضوع جذور في تراثنا الثقافي والأدبي، فقد أكد عليه رسولنا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حين كان يخاطب وفود القبائل العربية بلغاتها (لهجاتها)، حتى لقد لفت ذلك نظر الصحابة رضوان الله عليه، فسأله الإمام علي كرم الله وجهه قائلا: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم الوفود بما لا نفهمه!، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”.

وقد لاحظ نقادنا القدامى والمحدثون أثر البيئة في الأدب عموما وفي الشعر خصوصا، ومن القدماء نذكر ابن سلام الجمحي في كتابه “طبقات فحول الشعراء”، حيث قسم الشعراء إلى طبقات، وخص الشعراء أصحاب القرى (مكة والمدينة والطائف) بقسم مستقل مما يدل على وعيه المبكر بأثر البيئة في الشعر، فالشاعر يمتح من معطيات بيئته، ويستمد صوره مما تقع عليه عينه، ولعل أصدق دليل على ذلك ما روي عن علي بن الجهم الشاعر العباسي الذي كان يعيش في الصحراء، فوفد على الخليفة المتوكل العباسي فمدحه بقوله:

أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب

أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
من كبار الدِّلا عظيم الذَّنوب

فهم الحضور ليبطشوا به، ولكن الخليفة عذره، وأمر له بدار على نهر دجلة ووكل به من يجالسونه ويثقفونه، فكان يرى الحسان يذهبن إلى النهر، ويستمتع بالمرائي الحسنة والرياض المزهرة، فمدح الخليفة بعد فترة بقصيدة مطلعها:

عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

فقال الخليفة: “لقد كاد يذوب رقة ولطافة”.

ولا يفوتنا موقف الشاعر العباسي الكبير ابن الرومي المصور الفنان، الذي سُئل يوما: لم لا تشبه تشبيهات ابن المعتز؟!، فقال: فيم ذلك؟ فقالوا إنه يقول في الهلال:

انظر إليه كزورق من فضة
قد أثقلته حمولة من عنبر

فقال ابن الرومي: هذا ابن خلائف إنما يشبه بماعون بيته فهو يأكل في صحاف الذهب والفضة، أما أنا فأقول:

ما أنسَ لا أنسَ خبازًا مررت به
يدحو الرقاقةَ وَشْكَ اللمح بالبصر

ما بين رؤيتها في كفه كرةً
وبين رؤيتها قوراءَ كالقمر

إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء يُرمَى فيه بالحجر

فقد استلهم ابن الرومي بيئته في التصوير الشعري، مثلما استلهم ابن المعتز بيئته، وشتان بين الصورتين، على جمالهما وضرب المثل بهما.

ومن القدماء كذلك في المشرق، أبو منصور الثعالبي صاحب “يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر”، وفي الأندلس ابن بسام في كتابه القيم “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة”، وكلاهما مقسم على الأقاليم، و قد تضمن أولهما قسما للطارئين على المشرق من الأندلس، وتضمن الآخر قسما للطارئين على الأندلس من المشرق.

ومن المعاصرين الذين نادوا بدراسة الأدب وفقا للبيئة الأستاذ أمين الخولي ابن محافظة المنوفية، والدكتور شوقي ضيف في موسوعته القيمة “تاريخ الأدب العربي” التي قسمها على العصور التاريخية من جهة وعلى البيئات من جهة أخرى، ناهيك عن كتابه الرائد في ميدانه “الشعر واطوابعه الشعبية عبر العصور”.

ومن هنا يتأكد لدينا أثر البيئة بمعطياتها المختلفة ومنها البيئة الشعبية ومكوناتها المادية والمعنوية في المنتج الأدبي على اختلاف صوره وأشكاله بدءا من المفردات وانتهاء بالأنواع الأدبية من مثل وقصة شعبية وموال شعبي، وكذلك الأدب الرسمي كما يحلو لبعض النقاد أن يطلقوه على أشكال الأدب الفصيح من قصة قصيرة ورواية ومسرحية وشعر.

وهذا ما يتناوله الباحثون في المحور الأول من هذا الكتاب، فنجد بلاغة الإبحار في التراث ومفرداته، ونجد انعكاس الأدب الشعبي في الأدب الرسمي، والتراث والمأثور والإبداع، وهي بحوث تتناول علاقة الثقافة الشعبية بالمنتج الأدبي.
أما المحور الثاني، فيركز على الثقافة الشعبية، من خلال الموال وأنواعه وأهدافه وتأثيره في الجماعة الشعبية، ثم يعود ليربط بين الثقافة الشعبية بوصفها مكونا من مكونات الثقافة.
ولا يفوتني التأكيد على أهمية موضوع المؤتمر في عصر العولمة الثقافية التي تهدف إلى محو الهوية الثقافية للشعوب المختلفة وذوبانها في محيط ثقافة واحدة هي الثقافة الغربية وخصوصا الثقافة الأمريكية من خلال الأفلام والمسلسلات والإعلانات والبرامج الإعلامية والثقافية، ومحاولة نشر اللغة والأدب وصولا إلى طرائق العيش المختلفة من طعام وشراب وسلوك صار شبابنا يقلدونه وهم معصوبو الأعين، مما جعل الشعوب المختلفة تعتصم بتراثها وتعود إليه مستلهمة إياه في أدبها حتى تحافظ على هويتها، وتستقل بشخصيتها الثقافية.

إننا نؤكد على أهمية أن نعيش عصرنا ونساير التقدم العلمي والتكنولوجي، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ولكننا في الوقت نفسه نؤكد على أهمية الحفاظ على هويتنا الثقافية وتراثنا الفكري، فلكل أمة ثقافتها النابعة من دينها وتراثها والتي تصبغها بصبغة مميزة لها عن بقية الأمم، وهو ما أكد عليه الحق تبارك وتعالى في قوله:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير” (سورة الحجرات آية 13).

إن لكل بلد خصوصيته الثقافية وعاداته وتقاليده التي تؤثر في ثقافة شعبه وتترك بصمتها في أدبه الشعبي والرسمي، كما أن لكل إقليم داخل البلد الواحد ثقافته الشعبية وعاداته وتقاليده التي تنعكس على مرآة الأدب شعبيا كان هذا الأدب أم رسميا، ولهذا كان هذا المؤتمر الذي نأمل أن يكون لبنة في صرح الثقافة المصرية والعربية في عصر البناء والتنمية والنهضة الشاملة في كافة مناحي الحياة، في عصر الجمهورية الجديدة، داعين الله أن يكون مؤتمرا ناجحا، ويكون لبنة في صرح البناء الثقافي في محافظتنا العريقة ” محافظة المنوفية”، الضاربة بجذورها في الثقافة والتي تلعب دورا كبيرا في الحياة الثقافية المصرية والعربية بأدبائها الكبار وشعرائها وعلمائها الذين أثروا الحياة الثقافية بنتاجهم الأدبي وما يزال عطاؤهم موصولا في كافة ميادين العلوم والفنون، ناهيك عن جوانب الحياة الأخرى دينا وسياسة وعمارة للأرض وحماية للوطن ونهضة مباركة يشهد بها القاصي والداني لأبناء محافظة المنوفية في مصر والوطن العربي بل والعالم كله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى