المقالة تطور وتاريخ
د.محمد عبدالعظيم حبيب دكتوراه في الأدب والنقد
الصحافة فى مصر مرت بثلاثة أطوار: الطور الأول يتمثل في الاهتمام بالمقالة الأدبية أكثر من اهتمامها بالخبر الصحفى، والطور الثانى يتمثل في الاهتمام بالمقالة والخبر على حد سواء، والطور الثالث يتمثل في الاهتمام بالخبر على حساب المقالة الأدبية، وهذا الذى تحياه الصحافة منذ زمن طويل.. عنيت المقالة فى طورها الأول بالألفاظ على حساب المعانى، وفى طورها الثانى عنيت بالمعانى والموضوعات على حساب اللفظ لوجود طائفة من المبدعين حازوا على معرفة متجذرة بالفكر الغربى قديمه وحديثه. لم يعرف العرب القدماء فن المقالة، وإنما عرفوا قالبا أطول منه يأخذ شكل كتاب صغير، سموه الرسالة مثل رسائل الجاحظ. ولم ينشئوه من تلقاء أنفسهم، بل أخذوه عن اليونان والفرس، وأدوا فيه بعض الموضوعات الأدبية التى خاطبوا بها الطبقة الممتازة من المثقفين فى عصورهم.وقد أخذ العرب المحدثون المقالة عن الغرب، وهى تخاطب جميع المستويات الثقافية للمجتمع؛ لأنها تعتمد على البساطة لا التعقيد .
وعند الحديث عن المقالة السياسية نجد تأثيرها الكبير فى المجتمع المصرى إبان الثورة العرابية؛ لذا نجد كتابها ما بين منفى أو مطارد أو مبعد أو مختف. ارتقت هذه المقالة فى العشرينات مع نشأة الأحزاب السياسية، والتصارع بينها من أجل الحكم، فظهر العقاد، وهيكل، وطه حسين ، ومن قبلهم مصطفى كامل وأحمد لطفى السيد .
نشأت مع المقالة السياسية المقالة الأدبية، ولم تلبث أن أفردت لها مجلات خاصة أسبوعية أو شهرية مثل المقتطف والهلال .وعلى طول السنين فى القرن العشرين تنشأ مجلات مختلفة مثل السياسة الأسبوعية ، والبلاغ الأسبوعى، والرسالة ، والثقافة.
والمقالة الأدبية أصبح لها تأثير كبير على يد العقاد ، والمازنى، وطه حسين، وهيكل الذين استطاعوا أن يتناولوا بثقافتهم العالية مباحث عميقة فى الأدب والنقد العربى والغربى على حد سواء، وسار فى هذا الطريق آخرين كتوفيق الحكيم بما يحمله من آثار الفكر الغربى .
وظهرت المقالة الاجتماعية التى قام بها مصطفى صادق الرافعى وأحمد أمين وغيرهما، تم فيها انتقاد الجوانب السلبية فى المجتمع فى هدوء وإمتاع .
وإذا نظرنا إلى مقالات محمد عبده الصحفية فقد اعتمدت فى بداياتها على لغة السجع، وذلك لمحدودية ثقافته فى ذلك الزمن ، وعند اطلاعه على الكتب القديمة تنبه إلى المرونة التى تتمتع بها اللغة ، فتطور أسلوبه إلى تلك المرونة والسهولة التى عرف بها بعد ذلك.
ومن هنا يحسب لمحمد عبده أنه أخرج الكتابات الصحفية من أسلوب السجع المشهور فى عصره وفى العصر السابق على عصره إلى أسلوب مرن سهل غير مثقل بقيود البديع.
أما عن المقالات الاجتماعية التى كتبها المنفلوطى فى النظرات فنجد أنها كتبت بأسلوب ليس فيه شىء من العامية احتذى فيهانثر الجاحظ أو نثر بديع الزمان ، ولكن ما يحتذيه أو ما ينقله يدخل فى كيان تعبيره ، بحيث يصبح كأنه يعاد خلقه من جديد.
والمنفلوطى لا يعنى بموضوعه فحسب، بل يحاول أن يؤديه أداء فنيا يتخير فيه اللفظ، ويحاول أن يؤثر به فى سمع القارئ ووجدانه. وهو فى ذلك يتأثر بطريقة القدماء الذين كانوا يعنون بالجرس الموسيقى للكلام، وانتهت بهم هذه العناية إلى السجع. والمنفلوطى لايسجع، ولكنه يعنى عناية شديدة بموسيقى ألفاظه.وأسلوبه فى النظرات جزل رصين يحرص على الموسيقى العذبة التى تأسر النفس بوقعها الساحر. أما عن مقالات وحى القلم فهى نثر فنى بليغ يفيض بالإخلاص، والطهر، والإحساس بآلام الجماعة، وكوارثها، والشعور الدقيق بمآثر العرب ودورهم فى التاريخ وبمعانى الإسلام ومثله الرفيعة .
والمقالة البيانيةعنده تؤثر فى العاطفة والخيال، ولا بد لصاحبها من أن تكون له بصيرة نافذة يزيح بها الأستار عن حقائق الدنيا الخارجية، وبذلك ينكشف له عالمها الداخلى، وما يموج به من أسرار ويلمع فيه من أفكار، فيعيش فيه هذه المعيشة التى تجعله يحمله إلينا بكل ما فيه من جمال وروعة.
فالرافعى تجاوز حقائق الدنيا الظاهرة الحسية إلى قواعدها الروحية الباطنية، وقد ساعده صممه الذى جعله غريبا يتحدث إلى الناس ولا يسمعهم . واقرأ له فى وحى القلم أية مقالة، فستراه يحول أى موضوع اجتماعى أو سياسى أو تاريخى وأى مشهد فى الطبيعة أو فى حياة الناس وأى خبر من أخبار العرب أو الإسلام إلى ما يشبه ينبوعا لاتزال تتدفق منه المعانى الخفية التى تروع بدلالاتها ، وبما أخرجه فيها من صيغة عربية بديعة . فتملكه لزمام اللغة لا يقل عن تملكه لزمام المعانى، وبصره بجمال أساليبها لا يقل عن بصره بالقوى الكامنة فى حقائق الأشياء. واستلهم فى مقالات وحى القلم القيم الإسلامية والعربية، وهذا ما يلاحظ فى عناوين بعض مقالاته كفلسفة الإسلام ووحى الهجرة وغيرها من المقالات.
وهذا أحمد لطفى السيد الذى برع فى المقالة السياسية، وكأنه بمثل هذا الأسلوب الجزل الرصين كان يعلم أمته بمقالاته، وهى ليست مقالات فارغة، وإنما هى مقالات مليئة بالثقافة الواسعة وبالفكر العميق. ووسع دائرة هذه المقالات وجعلها تشمل كل ما يتصل بتربية الأمة من وجهات أخلاقية واجتماعية، إذ عنى بكل جوانب الحياة المصرية عناية فاحصة دقيقة، تقوم على الدرس وتبين الخصائص والصفات حتى نعرف ما ينقصنا بالقياس إلى مثلنا العليا معرفة واضحة.
وأهم ما يمتاز به فى كتابته المنطق والوضوح وحشد الأدلة والأقيسة والانتقال من العام إلى الخاص والخاص إلى العام ، يلهمه فى ذلك ذكاؤه واتساع قراءاته فى الفكر الغربى. وهو يدعو إلى المعنى المباشر دون تعقيد، لذا دعا إلى التقريب بين العامية والفصحى، ودعا أيضا إلى الاعتماد على الأصول الغربية لتأسيس حياة عقلية سليمة ؛ لذا سعى إلى ترجمة أرسططاليس وهو المعلم الأول عند اليونان.