مقال

شموخ العزة.. بلا جذور، بلا جذوع لا تثبت الأشجار

ومن يبقى شامخا  يعانقه البياض والأنفة دوماً إلى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه

مالكة حبرشيد | المغرب

لم يكن النهار من قبل أعمى، كانت له عيون ترى، وقلوب تشهد أن لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لكنه فقد البصيرة حين ولى وجهه حائط المبكى، وحشر أدعيته في شقوقه تقربا إلى رب لا يبرح الجدار.
أي عار أيها المليار المكبر في انحاء الكون؟!
كيف كسر الطغيان عمود الكرامة، وهد خيمة الكبرياء وزعزع اليقين، وبنى هيكلا للشك في الأفئدة الضعيفة حتى صار الاستسلام باغية تتسول عند عتبات الذل رأفة الجلاد، والصمت يقدم قرابين الدم والعرض والأرض تمسحا، ولا يحظى بكرامات آمون وكهنته الأوفياء، مهما أقام من مهرجانات الردح و التملق، وخطابات الطاعة والتواطؤ، ومهما قدم الشمس قربانا لتموت الشعوب صدأ، ومهما قطع أطرافه، وقدَّ جوانبه، وعرى سوأته، ويظل بنظر المتغطرسين المطلين على العالم من أبراج عالية، طمعا في استعباد البشرية، مجرد مومس خرفة لا يرغب رب الأقمار الدوارة، والطائرات النفاثة في مضاجعتها؛ بل يقرر حرق أرض الدمى الممسك بخيوطها ليهنأ باله ويستمر طغيانه.

لم يكن الليل بهذي العتمة قبل أن يصيب سهم الباطل الحق في الخاصرة، وقبل ان تقام المهرجانات على انقاض التاريخ الأبي، ويرقص الطغيان على أشلاء البراءة، وتصوب البنادق نحو الملائكة، وعيون المكر غير بعيد تستمتع بالفاجعة، بإبادة شعب احترف الغضب لإحقاق حق من بين خلايا الضمائر الميتة ينسرب؛ لكنه شعب لا يخضع مهما بالنار حاصروه، فقد علمته رعونة السفاح أن فضاءه روافد حجارة، وحصون صبر وصمود، وتحد أبدا لا يلين في قلوب المرابطين القابضين على الجمر، ينتصرون أو يستشهدون. والمليار المنتشر عبر حدود الكون ينتقي عبارات التنديد والتنضيد يرصفها من البعيد البعيد، وهو يتفرج على أبناء جلدته وهم يذبحون من الوريد إلى الوريد حتى إنه نسي أن إكرام الميت دفنه، ولم يبعد الأرواح الشريرة عنه، بل أدى صلاة القاديشيا، وردد تراتيل الشيفعا، حفاظا على كراسي تآكلت جوانبها، ونخر السوس أعمدتها لا يدرك أن الشعوب تغير الكراسي المهترئة، لكن الكراسي ليس ولم يكن يوما بمقدورها تغيير شعوب شاملة كالفصول عميقة كأبهة البحر، تعرف كيف تضرم الوقت، وتحرق التسويف في أعلى أراجيح السماوات تغني ، وأشجار السرو عليها في نسيم القبلة تصلي، وعبير الزعتر البري يسلم، وفي الواقفين المرددين التكبير والتهليل تحل أرواح الراحلين، منها ينهلون سحر التأويل، ويرددون: هنا سوف نبقى على هذه الأرض ولدنا وعليها نموت، لن نتزحزح قيد ذراع، ولن نتسامح قيد ذراع، سنصبر حتى يجن الطغاة، ونبرأ من المذبحة.

لم يكن الحلم كابوسا بل كان غالبا محمودا، يفتح في الأفق مسارا للطامحين العيش في حب وسلام، كان ذلك قبل تسليم الشر مشيمة الفصول يديرها كيف يشاء؛ ليمنع الهواء والماء والغذاء على العزل الأوفياء للأرض والتراب، الذين أقسموا إلا أن ينصفوا التاريخ، ويحرروا الجغرافية من مكائد الاسفار المتناقضة، والهياكل الوهمية ترسيخا للوحي الصادق: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79]
ماكان الياسمين الأبيض يوما ينحني، وتاريخه يشهد أن من ينحني يسهل تغييره، وتشكيله، وتلوينه،ومن يبقى شامخاً  يعانقه البياض والأنفة دوماً إلى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه –

بلا جذور، بلا جذوع لا تثبت الأشجار، بلا أغصان بلا تلاقح لا تثمر، والزيتون شاهد دائم الخضرة صيفا وشتاء، ويستمر اخضراره مئات السنين. لا يخشى الرياح ولا النار ولا الأمطار؛ هو أكثر الصامدين في وجه الاعتداء المختصر لملحمة المقاومة والصمود، لا يشبهه غير شهيد يسلم المفتاح لشهيد وشهيد يسلمه لمقاوم لا يغادر ولو مادت الأرض وأغارت عليه المياه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى