فنونمقال

الفنان حامد ندا.. هل كان سرياليا؟!!

الفنان الفلسطيني عبد الهادي شلا | كندا
(كل عمل فني لا يخلو من السيريالية)! قالها الفنان المصري “حامد ندا” وإستوقفتني في حينه لما فيها من تطابق مع شخصيته الفنية والتي تجلت في كل لوحاته بتنوع موضوعاتها وتعددها.
فهل كان “حامد ندا” سيرياليا في أسلوبه الفني؟
أم هو مزيج منها ومذاهب أخرى التقت في لوحاته لتمنحنا هذه الروائع التي تسلسلت وتصاعدت فيها إيقاعات المذاهب الفنية مجتمعة؟!
لعلنا نتكئ على مقولته التي صَدرّنا بها هذا المقال فلا شك أنها ستعيننا على تشخيص أسلوبه الفني حين نرجح كفة المذهب السريالي على باقي المذاهب الأخرى التي التقت معا بتناغم وتوافق صنع توازنا لم تكن السيريالية وحدها تكفي لصنعه في كل ما طرق الفنان “ندا” من موضوعات التراث الشعبي المصري والعادات والطقوس الإجتماعية و ما غفل التعبيرعن التفاصيل الدقيقة التي قد تمر عليها العين دون أن تتثبت من معانيها ومضمونها الأبعد مما ترى وهذا هو جوهرأسلوبه الفني الذي تسيدت فيه “السيريالية” على مساحات المذاهب الأخرى وخاصة “الواقعية” التي استند على موضوعاتها.
وكذلك “التعبيرية” التي ترك لمعانيها حرية التعبير والحركة لشخصوه المميزة بإستطالة أعضائها وتمددها بالشكل الذي يرى فيه الفنان إستكمالا ضروريا لقوام اللوحة ضمن إسلوبه الفريد.
“ندا” فنان عرف كيف يطوع السيريالية ويدمجها لتسود على كل المذاهب الأخرى وخاصة الواقعية رغم حضورها القوي بروح شرقية بل ونكاد نقول “مصرية” امتدت جذورها إلى كل الموروث الشعبي عبر تاريخها.
بكل الرموز والروح والتقنية التي عالج بها الفنان “ندا” لوحاته كانت سيرياليته “خاصة” جدا لم يسبقه إليها أحد ، وقد ملك سر إبداعه فكرا وفلسفة طوعها إلى أبسط صورها وهي تحمل الكثير من التفاصيل الصغيرة والدقيقة فكانت لوحاته وجبات دسمة للعين الباحثة عن الجمال والتاريخ والتراث.
ولعلنا وقبل الغوص أبعد في عالم ” ندا ” علينا أن نـُذَكــِر بتعريفات للمذهب السيريالي :
أول من استخدم كلمة السيريالية (1924م) هو الفرنسي”اندريه بروتون ” لترمز للحركة الفنية التي ظهرت وقتذاك لتضع بعض الأسس ولتطورالمدرسة “الدادية” والتي قال عنها: (السيريالية هي فن الغرابة و فن الدهشة اللامتوقع).
وفي تسمية أخرى لها سميت السيريالية بـــ (الفواقعية) أي “فوق الواقع” ، وتهدف إلى البعد عن الحقيقة وإطلاق الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية وسيطرة الأحلام إذ اعتمد السيرياليون على نظريات فرويد رائد التحليل النفسي، خاصة فيما يتعلق بتفسير الأحلام.
وهي فن اللامعقول الذي نرى فيه الشيء المألوف بشكل غير مألوف،وهناك الكثير من التعريفات لها أبدع فيه الكتاب والشعراء والفنانون والمبدعون في كل مجالاتهم.
“ندا” الذي أطلق جملته الموجزة، لم يخرج عن السياق السيريالي في عمق فكرته التي قام عليها وأسس الفوق واقع أو ماوراء الطبيعة ذلك ان بدايات العمل كما قال “بروتون” أيضا، في تشخيص السيريالية:(أن تدخل العقل يُفسد الفن)..وهي دعوة إلى أن يطلق المبدع العنان لفكره ويدع الأشياء تتوالد بين يديه ولا يجعل للعقل سيطرة على تدفقه فإنه يفسد نقائه.
وفي رأينا أن هذا التشخيص سيخضع لاحقا إلى حسابات الفنان السيريالي الأخرى التي يحتاجها العمل الفني،وهنا سيأتي دور ” العقل” الذي سيعيد ترتيب كل معطيات الفنان..أي أننا نفهم من هذا التشخيص أن يترك الفنان “العنان” لمشاعره وأفكاره تتوارد وتتدفق في بداية العمل دون قيد ،ثم يأتي العقل ليرتبها ويضعها في أماكنها التي تتحق فيها رؤية الفنان.
لوحات حامد ندا:
لوحاته لو جمعناها متجاورة لصنعت لنا ملحمة كبيرة كجدار في معبد قديم سجل عليه تاريخ حضارة من الموروثات الشعبية التي تجسد الحالات النفسية والإجتماعية لشخوصة التي ألَّـفها بصيغة لم تألفها العين إلآ في لوحاته، فكانت شخوص لوحاته من صنع خياله وهي التي منحته الشخصية الفنية.
أغنى “حامد ندا”و لأكثر من أربعين عاماً الحركة التشكيلية بإبداعاته وتميزه الفنى مؤكداً فى أعماله على الطابع الوطني بجانب ما أشرنا إليه من الموروث الشعبي.
سنمرعلى لوحة ( ليلة الحنة) كنموذجا من أعماله الكثيرة، نقرأها بحثا عن سر جديد من أسرار أعماله التي طفحت بالمعاني الجميلة والمشاعر والغرائز البشرية ونكشف عنها الغطاء ونفك طلاسمها ببساطة خطوطه وشفافية ألوانه ونقائها.
ما نراه في هذه اللوحة – ليلة الحنة – استخدامه للون الأبيض الذي طغى في مساحات اللوحة ممزوجا ببعض الألوان الأخرى مما منح اللوحة طبقة شفافة كشفت عن الخطوط التي تركت أثرها في اللوحة “ذبذبة” كنسمة الفجر الندية بإيقاع موسيقي قادم من ضفة النيل الأخرى مس الوجدان وارتد نشوة وسمى بالروح جمالا.
وهي التي قصدها الفرنسي”أندريه بروتون” فيلسوف المذهب السريالي: (أن الفن يأتي من اللاشعور ، و أن تدخل العقل يفسده ).
نرى الفنان”ندا” قد ترك هذه الخطوط بقصد منه لترشدنا إلى كل المعاني والصور التي تزاحمت لتكون في المقدمة وذلك كله من “عالم اللاوعي” في لحظات التدفق العالية، دون تدخل العقل إلا في المراحل الأخيرة التي تحكم فيها الفنان لتكون النتيجة كما أراد لها أن تكون ضمن نسيج أسلوبه وشخصيته الفنية.
(ليلة الحنة) هي أحد طقوس الأعراس من التراث الشعبي التي تسبق ليلة الدخلة وهي معروفة في معظم البلاد العربية وبشكل يكاد يكون متشابه إلا في بعض خصوصيات كل بلد. وتبقى “الحنة”العامل المشترك في هذا الطقس الإجتماعي.ولسنا هنا بصدد الحديث عن تفاصيل هذه الليلة وإن ما يعنيناهوانطباع الفنان ورؤيته الفنية التي قدمها لنا في لوحة فنية.
اللون الأبيض ودرجات من الأزرق والرمادي من أكثر الألوان تواجدا في أعمال الفنان”حامد ندا” منحت التفاصيل الأخرى مكانة سامية وواضحة لقرأة تفاصيلها فلم تغب عن العين تلك الذبذبات الرفيعة المتناثرة في أجزاء اللوحة،ولا غاب الإيقاع اللوني الذي تردد بين الفاتح والغامق من الألوان وسط تشابك الخطوط التي ما فلت منها جزء من سيطرته إلا حيث اراد له أن يكون وقد انطلق من العقل الباطن الذي اختزن كل هذه الصورة في وجدان الفنان على مر سنين ولا نتصور أنه انعكاس عابر- وإن كان من الممكن أن يحدث هذا- إلا أن البلاغة العالية في إيجاز تفاصيل الشخوص في اللوحة تجعلنا نميل إلى أن تراكم الصورة في وجدان الفنان كان وراء شكلها النهائي الذي انتظم بكل إيقاعاته المتنافرة والمتوافقة ضمن سيمفونية لونية مست جوارح المتلقي بحنان وحب لا يمكن الإفلات من آثاره إلا بالعودة إلى اللوحة مرة أخرى للتزود بما لم يحصل عليه كاملا.
طاووس أبيض في أعلى اللوحة بمبالغة ظاهرة في شكله ، وطيور أخر تتكرر في لوحات هذا الفنان إبن البيئة المصرية تتبدل أدوارها وأماكنها ولعل ” الديك” هو سيد هذه الطيور في أعمال الفنان”ندا” لما له من خصوصية ودلالات في البيئة الشعبية المصرية.
لوحة” ليلة الحنة”..فتاة تتصدرها،في وضع الجالسة توحي بأنها تنتظر شيئا وذلك من حركة يدها اليمنى وقد رسم عليها عين زرقاء تغطي ما فوق عينيها لترى بشكل أوضح هذا الحلم القادم ولتتعرف على بعض ملامحه.
ينكشف من جسدها مساحة كبيرة بمبالغة هي من علامات شخوص الفنان ورغم أن الفتاة في وضع الجلوس إلا أننا لا نرى مقعدا تجلس عليه بل أن الفنان ترك ” لعين المتلقي” هذا الفعل كي تقوم به دون خلل في توازن اللوحة،خاصة أن هناك شخصين في الجانب الآخر أحدهما يعزف على “الربابة” والآخر على “ناي” يجلسان في وضع “مسقط رأسي” مما يوحي بأن الفتاة في عالم آخر غير الذي تراه العين،وأن كل ما في خلفية اللوحة وما حول الفتاة من شخوص وأشكال وخطوط هي إيقاعات وأغنيات وأحلام وهواجس تسبق ليلة الدخلة وكلها حضرت متلاصقة ومتعاضدة لتندمج في بوتقة من مزيج من المذاهب الفنية تفوقت فيها”السيريالية” على كل ما عداها.
بقي أن نقول :أن هذا الفنان يحتاج إلى المزيد من الكتابة عنه ،فما كــُتب عنه حتى الآن لا يرقى لمستوى ما ترك من إرث فني عظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى