انتصار الزيف في رواية (الأستاذ والقس) للكاتب البريطاني آدم سيسمان
بقلم: علي جبار عطية
برغم التطور التكنولوجي الكبير الذي حققته البشرية، ووصول الإنسان إلى الفضاء إلا أنَّ النفس ظلت سراً من الأسرار التي يجتهد العلماء في فك ألغازها.
يأتي دور الأدب ليقدم لنا رؤيته للصراع البشري المحموم على المكاسب من خلال أعمال أدبية حاولت أن تقدم تفسيراً لما يحصل من تناقضات بين الأقوال والأفعال، وما يجري من مفارقات في هذا الميدان الواسع.
نذكر في هذا السياق مسرحية (طرطوف) /١٦٦٤م للكاتب والشاعر الفرنسي موليير (١٦٢٢ م ـ ١٦٧٣م) التي تتحدث عن رجل دين منافق يدعي التقوى، وأنَّه من حراس الفضيلة، وهو على العكس من ذلك تماماً، والمسرحية فيها نقدٌ لاذعٌ لهذا السلوك الانتهازي الحقير.
أمّا الرواية التي بين أيدينا (الأستاذ والقس ـ قصة الرغبة والمكر) للكاتب البريطاني آدم سيسمان فهي تتناول شخصية حقيقية مثيرة للجدل، مختلف عليها، ومشكوك في كل ما يصدر منها ألا وهي شخصية قس مزيف، وأستاذ تاريخ ملفق يُدعى (روبرت مايكل بيترز) الذي ولد في سنة ١٩١٨ في مدينة كارلايل بإنجلترا ، وتوفي سنة ٢٠٠٥م في سانت مارتن جنوب رينهام ،نورفولك .
يقول عنه المؤرخ وأستاذ التاريخ تريفور روبر : إنَّ عمليات التزوير والخداع والغش التي قام بها روبرت باركين بيترز كفيلة بملء كتاب كامل. ص ١٠٣
ولد آدم سيسمان كاتب الرواية المختص بكتابة السيرة سنة ١٩٥٤وهو محرر وزميل الجمعية الملكية للآداب، وأستاذ فخري بجامعة سانت أندروز .
صدر له :(إيه جيه بي تايلور: سيرة ذاتية) /١٩٩٤ و(مهمة Boswell المفترضة)/١٩٩٩ و (وردزورث وكولريدج: الصداقة) /٢٠٠٥ و
(هيو تريفور روبر /(٢٠١٠) و (مئة رسالة من هيو تريفور روبر) / (٢٠١٣)، و(جون لو كاريه) / ٢٠١٥ و(الانطلاق من أجل المنصب: رسائل مختارة من باتريك لي فيرمور)/ (٢٠١٦)و(المزيد من الاندفاع: رسائل أخرى من باتريك لي فيرمور)/(٢٠١٨).
إنَّ ولع الكاتب آدم سيسمان بكتابة السيرة جعله قريباً من أجواء الشخصيات المثيرة للجدل ومنهم المؤرخ البريطاني تريفور ويبر الذي حظي بأكثر من عمل للكاتب ومنها روايته التي بين أيدينا (القس والأستاذ) التي صدرت باللغة الإنجليزية سنة ٢٠١٩م.
وكذلك تناول الكاتب في سيرته للمؤرخ تريفور روبر الفضيحة العلمية التي وقع فيها سنة ١٩٨٣ حين ادعت صحيفة (الصنداي تايمز) أنَّها حصلت على مذكرات هتلر المكتوبة بخط يده التي ستطبع في ما بعد في كتاب عنوانه (كفاحي) وقالت الصحيفة :إنَّها ستبدأ بنشر المذكرات على حلقات برغم تشكيك الكثير من المؤرخين بصحتها وقولهم إنَّها مزورة.
استشارت الصحيفة المؤرخ تريفور روبربصفته أحد كبار أعضاء هيأة التدريس، وطلبت منه أن يتحقق من صحة المذكرات بوصفه متخصصاً في التاريخ الألماني، ولأنَّه كان كتب كتابه الأشهر (أيام هتلر الأخيرة) سنة ١٩٤٧ فنَّد فيه مزاعم روسيا بأنَّ هتلر ما زال حياً فبناءً على خبرته في الموضوع فحص تريفور روبر المذكرات، وأفتى بصحتها ،فاستندت الصحيفة على ذلك فنشرت المذكرات المزعومة لكنَّ مؤرخين آخرين لم يقتنعوا بهذه النتيجة فحققوا في الأمر، وأثبتوا بشكل قطعي أنَّ المذكرات مزيفة، وأنَّ تريفور روبر خانه التوفيق، وإثر ذلك اهتزت سمعة أستاذ التاريخ، وفقد الكثير من احترام الناس !
يقدم الكاتب آدم سيسمان بطل روايته استناداً إلى علم النفس فينقل عن الأطباء النفسيين قولهم بأنَّ ثمة حالة نفسية تدعى اضطراب الشخصية النرجسية ومن أعراض هذه الحالة الخصائص الآتية:
شعور مبالغ فيه بأهمية الذات، وأنَّه يستحق المكانة والمجد أكثر من غيره ويريد من الآخرين التعبير عن إعجاب دائم به والامتثال لما يحب، والحصول على خدمات خاصة، ويتوقع الشخص المصاب من الآخرين أن يعترفوا بتفوقه عليهم، ويحسدهم، ويحاول الاستفادة منهم، ولا يهتم بمشاعرهم، ويظن أنَّه لا يمكن أن يفهمه إلا من كان مثله، فضلاً عن المبالغة بادعاء المواهب والإنجازات والانشغال بأوهام حول النجاح والقوة والتألق أو الجمال أو المثالية، والتصرف بغطرسة وتكبر.
ويعلق: يبدو أنَّ روبرت بيترز كان تجسيداً عمليا لحالات نظرية في علم النفس. ص٢٢٦ و٢٢٧.
تتناول الرواية ظروف نشأة بيترز ومحاولاته المتكررة للظفر بأكثر عدد من الشهادات العلمية المزورة، وكتب التزكية الملفقة التي يكتبها بنفسه فضلاً عن سعيه للحصول على الوظائف المهمة تعزيزاً للمكانة الاجتماعية التي يرجوها.
يشخّص الكاتب خط سير هذه الشخصية بقوله: تولي المناصب استناداً إلى مؤهلات مزورة، ادعاء التفوق والنجاح الباهر في الدراسة، مواجهة التحديات بقوة وهمة عالية حتى يصبح الاستمرار في ذلك مستحيلاً، ثمَّ اللواذ بالفرار. ص٦٠.
يرى روبر أنَّ نظائر هؤلاء المزورين فيلق كبير مثل بيترز الذي يصفه بـ (شخص مزور ومطرود من سلك الرهبنة وله تاريخ حافل بالدجل ويزعم بأنه يحمل العديد من الشهادات) ص ١٥٧
يفصل الكاتب بالقول : أصبحت مؤهلات بيترز في سيرته الذاتية أكثر إثارة للإعجاب : فهو الأول على قسم اللاهوت في أكسفورد، وهو حاصل على شهادة الماجستير من مانشستر، وهو الآن يتباهى بأنَّه أحرز الموقع الأول في قسم التاريخ في جامعة ليفربول في عام ١٩٥١وهو حاصل على شهادتي ماجستير في كل من أكسفورد وكامبريدج وعلى الدكتوراه من مانشستر! ص ١٢١
ويمضي بالقول: شعر تريفور روبر بالغبن وبأنَّه تعرض للخداع.. كانت الشخصيات الغريبة غير العادية تثير اهتمامه، لقد أصبح واضحاً بأنَّه ليس الوحيد الذي انطلت عليه ألاعيب بيترز بل إنَّ جميع الأساقفة والعمداء ورؤساء الجامعات والأساتذة كانوا ضحية لخداع بيترز، الشخص الوحيد الذي يبدو بأنَّه ما زال يؤمن بما يقوله هو زوجته على الرغم من تراكم الأدلة التي تدينه، كان تريفور روبر يشعر بالعجب من تصديق الناس لما يقوله بيترز وتقبلهم له. ص ٣٨ و٣٩.
لماذا؟
يجيب: لأنَّ بيترز يعمل بالمبدأ القائل: إنْ لم تنجح في البداية فيجب أن تحاول مرة أخرى في المحاولة حتى تصل إلى ما تريد ص٨٤.
إنَّ حصول مثل هذه الشخصية الملتوية على قدرٍ من القبول والمكاسب يمثل ضربةً قويةً للأُسس التي تقوم عليها مجتمعات تعتمد في بنائها على مبادىء الصدق والمحبة والتسامح المستمدة من تعاليم السيد المسيح، والأخطر من ذلك كما يقول الكاتب: إنَّه كان على رأس عدد من مراسيم الزواج ما يجعلها زيجات غير شرعية.
يضيف : لقد كانت القصة مصدر إزعاج وقلق لكل من يعنيه فأثناء الكتابة عن بيترز كنت غالباً ما أتذكر محتالاً من طراز خاص وشخصية استثنائية ألا وهو روني كورنويل.. على الرغم من التباين بين الشخصيتين إلا أنَّ ثمة أوجه تشابه بينهما،فكلاهما كان تواقاً إلى تحقيق مكانة مهمة، وكلاهما يملك إيماناً بالذات لا يتزعزع، وكلاهما كان يستغل الآخرين وخاصة النساء دون رحمة ولا شفقة، وكانا يجيدان التخفي وراء أقنعة كثيرة : يلبسان لكل حال لبوسها أنَّى حطت رحالهما، وأخيراً ، وليس آخراً، كان كلاهما لا يعرفان الإحساس بالندم على ما يرتكبان من مساوىء أو آثام.
يتقصى الكاتب عدد زوجات بيترز فيجدها بين سبع وثماني زوجات، وهو يجمع في آنٍ واحدٍ بين زوجتين أو أكثر.
أما الكنائس والكليات التي عمل ودرس فيها فموزعة على عددٍ من الدول الأوربية، وحين يُكتشف أمره يضطر للمغادرة كجزء من تكتيك تكيفه مع الوضع.
يقول البروفيسور سي. آر. بوكسر
المسؤول عن التقويم الأكاديمي في جامعة يال عن ريبتز : ينبغي على الأوساط الأكاديمية أن تغض النظر عن بيترز، وأن لا تحسب له أي حساب فهو من أصحاب السوابق وله سجل إجرامي يمتد من كندا إلى كورومانديل.
ويضيف : ثمة شيء يلفت الانتباه ويحير المراقب ألا وهو إقدامه على متابعة حيله وخداعه دون أدنى اعتبار للنكسات التي واجهها. ص١٣٣
يصرح آدم سيسمان بالقول : قد يشعر بعض القراء، الذين أفزعهم نجاح بيترز في جعل حيله ومكره تنطلي على الآخرين، بأنَّ هذه القصة هدفها هو قرع جرس الإنذار والتحذير من مكر الماكرين وحيل المحتالين، إلا أنَّ غايتي الحقيقية هي التسلية ، وليس الإرشاد. وآمل أن يجد العديد من القراء متعة وتسلية في مطالعة الكتاب كما وجدت أنا المتعة في تدبيجه .
المثير للدهشة والسخرية أنَّه في شهر حزيران عام ١٩٧٥نشرت صحيفة (صينداي بيبول) مقالاً بعنوان (أيتها الحبيبة الغالية إنَّ القس بيترز هو المزور) يبدأ المقال بهذه الجملة : (يدفع الكثير من الناس مبالغ كبيرة من المال لكي يستمع إلى كلمات التقوى والورع التي يلقيها القس روبرت بيترز لكنَّنا نقول لك الحقيقة : إنَّ ورعه زائف وتقواه كاذبة). ص ١٥٣
بعد أسبوعين فقط من نشر هذا المقال أو التحذير، ظهرت رسالة في ملحق صحيفة (أوقات التعليم العالي) يتذمر مرسلها من المؤسسات التي تمنح مؤهلات مزورة أو غيرمعترف بها. وكانت الرسالة بتوقيع مدير كلية (سانت أيدان سالوب) الذي لم يكن سوى
روبرت بيترز ! ص١٥٤
ترجم الرواية المترجم الأستاذ ربيع الطربوش التدريسي في كلية اللغات بجامعة بغداد بما عهد عنه من رشاقة ترجمته، وحسن صياغاته وتعبيراته، وبما عُرف عنه من رصانة علمية وأدبية وأكاديمية كما في ترجمته السابقة لكتاب (رسائل مارسيل بروست) الصادر سنة ٢٠١٩م.
تظهر براعة المترجم في ترجمته لهذه الرواية التي تأتي كأنَّها محاكية لواقعنا في حرق المراحل، وتزوير الشهادات، والتكالب على المناصب العليا،والتماس الوسائل الدنيئة في ذلك كأنّها تقول : إنَّ العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة في كل زمان ومكان !
* رواية (الأستاذ والقس ـ قصة الرغبة والمكر) للكاتب البريطاني آدم سيسمان.
ترجمة: ربيع الطربوش/دار الكتب العلمية /بغداد / ٢٠٢٣م /عدد صفحات الرواية ٢٤٠ صفحة من القطع المتوسط.