مقال

هل حقّا انقضى زمن الشعر؟

خالد رمضان| كاتب مصري
الشعر ديوان العرب، وسجل مفاخرها، ومٱثرها، هو مرٱة الشعوب الذي يعكس عاداتها، وتقاليدها، وموروثها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي،وقد اشتهر العرب قديما بأنهم أمة لغة وفصاحة وبيان، ولم يكن ذلك لسواهم،فكانت الكلمات تنسال على ألسنتهم سيلان الماء العذب،فيأسرون القلوب القاسية، ويستميلون النفوس النافرة، فتنحني لبلاغتهم القامات، ويطرب لفصاحتهم العبيد والسادات، وإنّ أول من أقاموا سوقا للكلام،سلعتهم قصائدهم، وتجارتهم أبياتهم وخطبهم، مثل سوق عكاظ وذي المجاز، وذي المجنة؛ فتبارى الشعراء، وتنافس الخطباء، حتى ملأوا الدنيا بيانا وإبداعا،على حد قول الشاعر:
ملأنا البر حتى فاض عنا
ونحن البحر نملؤه سفينا
فلا زلنا حتى الٱن ننهل من معينهم الذي لا ينضب، ونقبس من مدادهم الذي لا ينقطع. لكن، هل حقا انقضى زمن الشعر والشعراء؟ هل حقا رحل الشعر برحيل هؤلاء؟ إنّ الشعر موهبة بشرية لا تقتصر على زمن دون زمن، ولا تخصّ قوما دون الآخرين، لا تولد في عصر وتموت في باقي العصور، وإن ذلك الشعر هو كالنبات أينما وجد التربة الخصبة، والمياه العذبة، والرعاية الصادقة شبّ قويا يافعا، وأثمر أيّما إثمار وإلا شبّ هزيلا ضعيفا لا تجد له ثمرا، ولا ترى له أثرا.. الشعر مرٱة لحال صاحبه، وبيئته، فتارة تراه قويا مزدهرا متلألأ براقا، وتارة تجده خافتا مغمورا للرقي تواقا.
فلو تتبعنا عصور الشعر منذ القدم لوجدنا تفاوتا واضحا بينها، فمن قوة جاهلية ومعلقات ومناطحات ولقاءات وإبداعات ومفاخرات ومنافرات، إلى خبوة إسلامية؛ حيث عمل الإسلام على تنقيته وغربلته مما يشوبه من أغراض بذيئة تتنافى مع الروح السمحة للإسلام وأهله، فحرم الإسلام الغزل الماجن، والمدح الزائف، والهجاء المقزع، والفخر الفردي والقبلي، فقلت أغراض الشعر، واعتزله البعض أمثال لبيد بن ربيعة الذي قال: أغنتني بلاغة القرآن عن إنشاد الشعر، فلم ينشد إلا بيتا واحد فقال؛ الحمد لله الذي لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
إضافة إلى ذلك انشغال الشعراء وانبهارهم ببلاغة القرآن الكريم، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يشتد عوده شيئا فشيئا إبان العصر الأموي عند ظهور الأحزاب السياسية، وتبني كل حزب عددا من الشعراء ليناصروه ويظاهروه على الأحزاب المضادة، فيخوض في صحائفهم فيدنسها ويهدم ما حاولوا تشييده، باستثناء فترة حكم الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز الذي أبعد الشعراء، وقرب الفقراء. ثم تعود للشعر صهوته، ويزأر زئير الأسود الضواري في عصور بني العباس الذين قربوا الشعراء، وأسبغوا عليهم نعمهم ظاهرة وباطنة، فقالوا وأطالوا، وخلفوا ميراثا ثمينا، وأسماء لامعة براقة أمثال المتنبي، وأبي نواس وبشار بن برد وغيرهم. حتى بلغ من كِبر المتنبي أن قال:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصمُ
ثم ومع مرور الزمن تنتاب الشعر لحظات ضعف كما حدث إبّان الحكم العثماني الذي عمل على توطيد اللغة العثمانية، وفرضها على البلاد، وتهميش اللغة العربية حتى قال القائل:
ما كنت أحسب والخطوب كثيرة
أن القريض يباع في الأسواق
وبالطبع ضعف الشعر، وانزوى الشعراء. كذلك كان الحال إبان حكم المماليك الذين انشغلوا بالحروب وصراعات الملك، فما كان شعر ولا شعراء إلا القلة القليلة. حتى إذا وصلنا للعصر الحديث، فسنجد أن الشعر قد قام من سباته الطويل، وأماط اللثام عن وجهه المضيء، فعادت له صولته وزهوته، وظهر على ساحاته مجموعة من الشعراء خلدوا أسماءهم بما خلفوه من قصائدهم وكلماتهم البراقة اللامعة، فتركوا قصائد لا أتحرج أن أسميها معلقات العصر الحديث، أمثال أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ونصيف اليازجي، ومعروف الرصافي، وأمل دنقل، ونازك الملائكة، وإبراهيم ناجي، والعقاد، والمازني، وشكري، وخليل جبران، ومطران، وشيخ الشعراء الشاعر العماني عبد الله الخليلي، وأبي مسلم النبهاني، وسيف الرحبي، ومحمد إبراهيم أبي سنة، والكثير والكثير ممن لمعت أسماؤهم في سماء الشعر والشعراء.
سيأتيك أحدهم ويقول لك: أين هؤلاء من شعراء الجاهلية ذوي الألفاظ القوية المعجمية، والتصويرات الخيالية الإبداعية؟!
نقول له: صدقت، ولكن هذه الألفاظ المعجمية، والتصويرات الإعجازية لم يكن للشاعر فضلٌ في تأليفها، أو اختراعها، أو إيجادها من العدم؛ لأنها منتزعة من بيئته الطبيعية، وتوارثها عن ٱبائه وأجداده، وإلا فلتأتِ بها الآن إلى بيئتنا، وعصرنا ولننظر كيف ينشد؟!
إن الإبداع اللغوي لا يعني أنك تأتي بألفاظ عفا عليها الزمن، واندثرت تحت التراب فتخرجها من الأجداث، وتلقي بها بين أناس لا يفهمونها، ولا يتذوقونها، فتكون كمن يموت جوعا ثم تأتي فتعطيه قطعة ذهبية. الشعر والشعور والمشاعر جذورها اللغوية واحدة، فمن لم يحرك المشاعر فما هو بشاعر.. تأمل هؤلاء الشعراء المحدثين
أليس من الإبداع قول شوقي:
محمد صفوة الباري ورحمته..
وبغية الله من خلق ومن نسم
أليس من الإبداع قول حافظ:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به..
رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
أليس من الإبداع قول إيليا أبي ماضي:
لتكن حياتك كلها .. أملا جميلا طيبا
ولتملأ الأحلام نفسك.. في الكهولة والصبا.
أليس من الإبداع قول الشاعر السعودي مهذل الصقور:
أتظن أنك عندما أحرقتني..
ورقصت كالشيطان فوق رفاتي
أتظن أنك قد طمست هويتي
ومحوت تاريخي ومعتقداتي؟
أليس من الإبداع قول الشاعر اليمني أسامة الرضي:
أنا ابن الريح والأمطار أمي..
وخفت الغيم تمطرني الحكايا
أنا وطنٌ تؤرقه دموعٌ..
جفاف الأرض يسقى من بكايا
أليس من الإبداع قول السلطان سليمان النبهاني العماني:
ولي أبدا قدور راسيات..
تناصبها جفانٌ كالجوابي
تذل لعزي الأملاك طرا..
وتحسد راحتي جون السحابِ
إذا اكتسبت ملوك الأرض ذما..
فإن الحمد قَسمي واكتسابي
ما أود قوله: إن الشعر إبداع لغوي لا يختص به زمن دون زمن، ولا قوم دون قوم، إنما هو كباقي الأحياء يقوى ويضعف، ينمو ويجف، يمرض لكنه لا يموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى