عباس فاضل الساخر الحزين
علي جبار عطية| رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية
تعرفتُ إلى رسام الكاريكاتير عباس فاضل مساء يوم الثلاثاء الموافق ١٩٩٣/٥/٢٥ في جريدة (العراق) إذ كتبت موضوعاً عن الأحلام، حييت فيه الحالمين بغدٍ أفضل، وكان المطلوب رسماً كاريكاتيرياً ينشر مع الموضوع في الصفحة الأخيرة التي يديرها الصحفي السوداني عادل الشوية مع الصحفي والكاتب فؤاد العبودي.
كانت الرسمة التي أنجزها عباس فاضل ذكيةً ومعبرةً برغم بساطة خطوطها تحكي مفارقةً إذ تخبر فتاة حبيبها أنَّها حلمت به أمسِ، وهو يخبرها بشيء لا تعرفه فما هو هذا الشيء؟
كانت هذه الرسمة مناسبة لطيفة للتعرف إليه.
شكرته عليها فعلق بالقول : هذا الكاريكاتير حقيقي، وحصل معي؛ لأنَّ أغلب النساء فضوليات !
كانت إجابته تغلف الإحباط بالسخرية المشوبة بالحزن، ولم استرسل معه أكثر؛ لأنَّ المكان والزمان لا يسمحان ، وقد وعدني بالتعاون معي أكثر ، ورسم رسمة لموضوع آخر لي عن كذبة نيسان، نُشر في الصفحة الأخيرة للجريدة، ولم ينقطع خيط الود حتى بعد انقطاع عباس فاضل عن العمل في جريدة (العراق) بعد مدةٍ قصيرة، لسببٍ مجهولٍ، ثمَّ ترك العمل في الصحافة، ليبيع السكائر على الرصيف ربما ليمارس احتجاجاً من نوعٍ آخر على الظروف بمجملها.
يقول عنه الصحفي محسن حسين في مقال نشرته جريدة الزمان يوم ٢٠٢٢/٥/٢٢ بمناسبة ذكرى صدور مجلة (ألف باء):(عرفته منذ أن بدأ العمل في ألف باء عام ١٩٨٣.. فقد أنيطت بي مسؤولية الإشراف على صفحات الكاريكاتير، ولكن ذلك الإشراف توَّسع لتكون مشاركة عباس فاضل في جلسات شبه يومية لوضع أفكار الرسوم وما تتضمنه من نقد معلن أو مخفي للأوضاع الاقتصادية.
وأزعم أنَّني كنت مبتكر شخصية الدلالة وتحمس لها عباس فاضل، ووضعنا الكثير من أفكار الرسوم مما جعله يضع في كتابه الذي أصدرته ألف باء رسماً للدلالات بقيادة أم ستوري ، وهنَّ يطاردن بالحجارة عباس فاضل، ومحسن حسين. كان عباس شخصاً محبوباً من الجميع هادئاً أنيقاً لكنه مدقع الفقر عاش ومات فقيراً.
وأذكر أنَّ المجلة قامت باستفتاء لقرائها فظهر أنَّ أغلب القراء يبدأون تصفح المجلة من نهايتها ليطلعوا على كاريكاتيراته الجميلة التي كانوا ينتظرونها كل أربعاء).
تتفاوت رسوماته بين البساطة والوضوح والرمزية ففي أحدها رسم رجلاً، وقد قطع رأسه، وهو يقول : (هسه ارتاحيت) !
كما ركز على بعض الظواهر الاجتماعية غير اللائقة مثل الخروج من البيت بالبيحاما فخصص لها زاوية عنوانها (بيجاما) كانت تنشر بالتناوب مع زاوية (دلالات)، وكل ذلك كان ينشر بحدود المسموح به فلا يمكن تجاوز الخطوط الحمر كما هو معروف.
بقي عباس فاضل يدور في دائرة الشخصية التي عرف بها، وهي شخصية الدلالة (أم ستوري)، التي خصص لها زاوية أسبوعية ثابتة في مجلة (ألف باء) بعنوان (دلالات)، وقد سألته عنها ـ في لقائي اليتيم معه ـ وعن إصراره على رسمها على مدى عشر سنوات برغم أنها امرأة كادحة تحاول أن تعيش حالها حال بقية الله ففاجأني بالقول : إنَّه لم يتخذ هذه الشخصية إلا رمزاً لسراق البلد الكبار وليس الصغار، والغريب أنَّ رموز النظام يعرفون ذلك جيداً والدليل ـ حسب ما قال عباس فاضل ـ أنَّ وزير الثقافة والإعلام حامد يوسف حمادي (١٩٣٥ ـ ٢٠٢٢) الذي استوزر بين سنوات (١٩٩١ ـ ١٩٩٦) عبر عن امتعاضه واستيائه من تكرار رسوماته عنها ذات مرة في أثناء حضوره أحد المعارض في الوزارة ،فعمل مناورة، وابتكر شخصية أخرى هي شخصية (أبو فرهود) !
لكنَّ هذه الشخصية الملخِصة لتاريخ ظاهرة الفرهود في العراق (النهب المستمر للمال السائب) لم تدم طويلاً فقد صدر أمر من الوزارة بإيقاف الرسومات عنها أما مصير مبتكرها فهو أن يكون خارج المجلة.
هل ضاقت به البناية أو ضاق بها؟
خرج عباس فاضل من (ألف باء) سنة ١٩٩٢ليجرب العمل في جريدة (الجمهورية) لكنَّه لم يوفق بالاستمرار فيها فقد كان خطابها رسمياً جاداً لا يحتمل السخرية،كما أنه بخروجه من مجلة ألف باء كمن فقد وطنه لكنَّه وجد شيئاً من العزاء في جريدة (العراق) التي كانت منفتحةً بحذر مع رأي الشارع فكانت رسوماته تجد طريقها إلى النشر مع بعض التحقيقات التي تحتمل النقد والسخرية المسموح بها، وبعد تركه الجريدة انقطعت رسوماته عن الظهور، وتناهى إلى الأسماع أنَّه يبيع السكائر في الباب المعظم، وأنَّ ملامحه قد تغيرت، وأصبح شخصاً آخر.
في شهر آيار وقع العراق على مذكرة تفاهم مع الأمم المتحدة بشأن ترتيبات تنفيذ قرار ٩٨٦ الخاص ببرنامج النفط مقابل الغذاء والدواء فكنّا نترقب انتعاشاً في الوضع الاقتصادي، لكنَّ طائر الفرح لم يأتِ في أوانه فبعد نحو شهرين، وفي الثامن من تموز سنة ١٩٩٦ مات عباس فاضل تاركاً أسئلةً ظمأى : هل أنَّ سبب وفاته هو الفشل الكلوي كما قيل أو أنَّ هناك عملاً جنائياً مدبراً ، والأهم من ذلك هو ما مصير عائلته بعده ؟
ولعلَّ في هذه الوقفة رثاءً متأخراً له، ولكل ضحايا الرصيف