مقال

الأصنام الفكرية في متاهة سراب العبقرية

ظهير طريف فالح | العراق

      إذا نظرنا إلى من يتولون زمام الفكر عندنا، نجدهم لا يزالون يعيشون في ظلمات المنطق القديم، فهم يحسبون الناس من طبيعة واحدة وعقل متشابه، فإذا سيطرت على أحدهم فكرة أو عقدة حسب الناس كلهم مثله، وتراه مبحوح الصوت يهيب بالناس أن يشبعوا رغباتهم كما يريد هو أن يشبعها، فلا يجد من يسمع له أو يجيب .
فقد يكتب أحدهم المقالة، وهو معجب بها ويعتقد أن الناس سيعجبون بها أيضًا، ثم يفتح عينه أخيرًا ليرى الناس مشغولين عنه وعن مقالته بهمومهم وعقدهم الخاصة، عند هذا يصفق صاحبنا يدا بيد ويتأفف من ضياع العبقرية بين أولئك الأغبياء .
وفي الواقع إذا تلوت قصيدة غرامية على عاشق وجدته يهتز لها طربًا، ولكنك حين تتلوها على مسكين جائع تراه يحرق عليك الألم و لعله يريد منك أن تتغزل بالطعام بدلًا من التغزل بالحسناء ، أما إذا تلوت القصيدة على دهقان من دهاقنة السياسة فقد تجده مشغولًا عنك وعنها بمشاكله مع القوى السياسية.
ويحلو لبعض الناس أن يتصنعوا العبقرية ويتكلفوها تكلفًا، ويظهر هذا بصفة خاصة لدى الصبيان المدللين من أبناء الترف، فقد نالوا من دنياهم ما يشتهون من مال وجاه، فخُيل لهم أنهم قادرون على نيل العبقرية كذلك، كأن العبقرية حاجة تُكسب بالمال كما تكسب به مرهفة الجمال و القصر الباذخ .
وقد يسمع هؤلاء عن ذهول العباقرة فيحاولون التشبه بهم، فتراهم يتصنعون النظرات العميقة، ثم يسندون رؤوسهم على أكفهم ويطلقون الحسرات تلو الحسرات ، وإذا جلسوا إلى الناس أخذوا يخرجون الكلام من أنوفهم ويملأونه بالمصطلحات الرنانة، و ليس من النادر أن يلتف حولهم أناس متزلفون يمدحونهم ويصفقون لهم ، فيظنون أنهم أصبحوا عباقرة حقًا .

وهناك أناس آخرون يشتهون العبقرية دون أن يكونوا من أولي الجاه والمال، ولعلهم يشتهونها ليسدوا بها النقص الذي يشعرون به من جراء الحرمان والمذلة، فيحسبون أن باب العبقرية مفتوح بين أيديهم وأنهم واصلون إليها حتمًا إذا عملوا من أجلها واستخدموا التفكير الصحيح .
إنّ مشكلة هؤلاء أنهم لا يصلون إلى غاياتهم المنشودة، ولكنهم يتخيلون أنهم وصلوا إليها. وحين يجدون الناس لا يقدرون عبقريتهم حق قدرها، ينطوون على أنفسهم حانقين وينسبون إلى الناس الغباء أوالحسد، ثم يملأون الدنيا صراخًا وأسفًا على موت العبقريات!
والعيب في أنهم يقلدون أكثر مما يبدعون، فإذا أعجبهم أديب مشهور مثلاً، يحاولون تقليد أسلوبه وبعض عباراته، وما دام ذلك الأديب قد سار عبقريًا، فلماذا لا يصيرون هم كذلك؟ أليسوا بشرًا مثله؟ عند ذلك يبدأون بنشر جواهرهم المقلدة على رؤوس الناس، والويل للناس إذا امتنعوا عن الاقتناع بتلك الجواهر.
والمشكلة تتفاقم حين نرى أن بعض الناس يتبنون أي شخص ينتقد كل شيء حوله، ويحسبونه مفكرًا ومتحررًا فكريًا، بسبب كثرة انتقاداته يصل إلى التناقض، لذا هؤلاء المنتقدون لا يهمهم النقد الهادف، بل هم ينفثون عن مكبوتات أنفسهم تحت ستار الفكر الحر، هذا التوجه يجعلنا بحاجة ماسة إلى تعديل معاييرنا تجاه العباقرة والمفكرين، لأن ليس كل من يدعي أنه عبقري أو مفكر هو كذلك.
إن هؤلاء الذين يتصنعون العبقرية أو يحاولون تقليد أصحابها يجهلون شيئًا هامًا، وهو أن العبقرية لا تنال بالتصنع والتقليد، وفي الواقع، الإبداع والتقليد أمران متعاكسان ، حيث لا ينجح الإنسان في أحدهما إلا حين يفشل في الآخر .
فمن خصائص العبقري المبدع أنه يمقت التقليد مقتًا شديدًا، فهو لا يحب أن يأتي بشيء إلا بعد أن ينفخ فيه من روحه ويطبعه بطابعه الخاص، لا أنكر أن العبقري يستمد جذور إبداعه من عبقريات سابقة ، لكنه يلاقح بينها و يعيد النظر فيها حتى ينتج منها شيئًا جديدًا يختلف عما أنتجه السابقون، تنبعث الفكرة الجديدة من مخه كما تنبعث الشرارة ، هي لا تخرج عند ذلك للعبقري لكي يتباهى بها، إنما هي تخرج له لكي يقدح بها النار الملتهبة في أعماقه، فهو لا يبالي أن يحترق بتلك النار أو يستضيء بها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى