كرامة من كرامات الشريف سيدي العربي البقالي السميحي الغماري
نص إبداعي، تَم إخضاعه للدراسة للمؤلِف نفسه
بقلم: د. سفيان مغوز
أولا – النص
ومما حُكيَ عن الشريف سيدي العربي البقالي الغماري:” ذات مرة كان غاضبا فصار يسب ويشتم المسؤولين أمام ولاية الأمن بالجبهة أو بمارتيل (اختلاف في الرواية)، فقُبِض عليه، وزج به في سجن مؤقت، على أن يتم تقديمه صباح الغد إلى وكيل الملك، وفي الصباح الباكر وجدوه جالسا أمام باب الولاية، فاندهشوا من أمره، كيف خرج وباب السجن لايزال مغلقا ؟..فأعادوه إلى السجن مرة ثانية حيث كان، فاقتلع باب السجن وذهب بها إليهم وقال لهم: خذوا بابكم وخرج .
فعرفوا أنه شخص غير طبيعي، وأنه من الأولياء، فخلّوا سبيله، وجاء الأمر من الجهات العليا، بألاّ يقبضوا عليه ثانية مهما فعل! “. وقد حكيَ أيضا:” أن الشريف سيدي العربي، كان يتلو أحيانا كثيرة ما تيسر له من القرآن ” .
ثانيا – تحليل النصّ
لا تخلو أي ثقافة من مثل هذه الخوارق العجيبة، وقد يفترق الناس في تصنيفها إلى أطياف عديدة، أغلبها يعدون مثل هذا ضربا من الخرافات، والأباطيل، بل أخطر من هذا، هناك طائفة تتهم من يحكي مثل هذه الخوارق؛ بالجهل، والسذاجة، وهو في الحقيقة على العكس من ذلك، ما دمنا عربا، لنا أدبنا، وهو على أضرب متفرقة، بين نمط الشعر، ونمط النثر، إذ تتفرع من كليهما أنواع أدبية كثيرة، ففي النمط الشعري نجد: الشعر العمودي الغنائي، والشعر التعليمي، والموشحات…وفي النثر نجد: حكايات ألف ليلة وليلة، والمقامات، وكليلة ودمنة، وسرود الجاحظ،… والسرود عامة.
هذه إذن، هي الأنواع الأدبية التي عهدناها في الزمن القديم، لكن، هذا لا يعني أننا سنظل منغلقين على هذه الأنواع فحسب، بل لا بد أن تظهر أنواع أخرى، بفعل تغير الزمان، والثقافة، والتطور في جل المجالات، كل هذه العوامل قمينة، بتجديد الكتابة الإبداعية، لا على مستوى الشكل، ولا على مستوى المضمون .وبالتالي، فقد ظهرت مجموعة من الأشكال الأدبية الحديثة، في الشعر مثلا: الشعر الرومانسي، والشعر الحر، وما يسمى بقصيدة النثر. وفي النثر مثلا: الرواية، والسيرة، والسيرة الذاتية، والمسرح، والخواطر… وهناك أيضا جنس من نوع آخر، وهو جنس الأسطورة، فقد دافع عن أدبيتها الباحث المغربي، الدكتور جعفر بن الحاج السلمي، في كتابه:” الأسطورة المغربية: دراسة نقدية في المفهوم والجنس، حيث أخرجها من قفص الإهمال والاتهام إلى حيّز الوجود والإثبات، مثلما جعلها مادة أدبية يشتغل عليها النقد الأدبي، فلم تعدِ الأسطورة كما عرفت من ذي قبل بأنها:” حكاية خرافية “. بل أصبحت تعرف بأنها:” جنس أدبي، نثري، سردي، حكائي، خبري، يتميز بعنصريِ القداسة وخرق العادة، وهي من أقدم ما أبدع الإنسان، إذ كانت شديدة الارتباط بالسؤال الأنطولوجي، وتفسير مختَلِفَ الظواهر الكونية، لكن، السلمي، يثبت أدبيتها، متابعة منه لنظرية الأجناس الأدبية .
كما جعل الأسطورة ثلاثة أنواع وهي: الأسطورة التكوينية؛ وهي التي تتحدث عن قصص الخلق، وهي نوعان: كلية: تبحث في سؤال خلق العالم والكون من العدم. وجزئية: تبحث في سؤال خلق المدن مثلا، مما هو موجود، أي من الحجارة، والطين… وهي أوّل نوع من أنواع الأساطير وأقدمها .
الأسطورة العجائبية الغرائبية: هي التي تتسم بالعجب والغرابة، فهي تتحدث عمّا هو غريب وعجيب، خارق للعادة والمألوف، والبطل فيها شيطانيّ، أو جنّي، أو عفريت، أوما إلى ذلك .
الأسطورة الكرامية : وهي الأسطورة التي تتحدث عن كرامات الأولياء الصالحين، والبطل فيها يكون رجلا مقدسا، وليا من أولياء الله الذين اختصهم بالصلاح .
إذن، أين يمكن أن ندرجَ هذا النص، ضمن الأنواع الثلاثة السالفة الذكر؟، وكيف يمكن تحليلها؟ وما مضامينها المقدسة؟
إن النص الذي نحن بصدد تحليله ودراسته، يمكن أن ندرجه ضمن جنس الأسطورة العام، وبالضبط ضمن نوع الأسطورة الكرامية، تبين لنا هذا من خلال عدة آمارات في النصّ، منها، طبيعة الخرق الحاصلة فيه، إلى جانب الجملة الأخيرة من النص التي جاءت مستقلة عن الفقرة الأولى، تنبه القارىء بأن الشريف، كان يرتل ما تيسر له من القرآن، وهي صفة من إحدى صفات الخواص .
يتجلى الحدث الخارق للعادة في هذه الأسطورة في حدثين اثنين، الحدث الأوّل هو: خروج الشريف سيدي العربي البقالي، من الزنزانة دون انفتاح بابها، بعدما كان قد سجن فيها .
والحدث الثاني هو: القوة الخارقة للشريف سيدي العربي التي مكنته من اقتلاع باب الزنزانة وفراره منها، وتسليمه باب الزنزانة للأمن وقوله لهم:” خذوا بابكم “، ثم خروجه من الولاية بسهولة، دون خوف أو أي شيء، إنما كان الخوف منه ! .
فهذه الأحداث كافية لأن تكون الأسطورة أسطورة كرامية، لأنها تتحدث عن كرامة هذا الولي الصالح سيدي العربي البقالي الغماري، التي كانت سببا في انخراق العادة له .والكرامة كما لاحظنا في الأسطورة ليست متعلقة فقط باستجابة الدعاء، وشفاء المرضى، والاستحواذ على الأفاعي، والحيوانات الأليفة، فهذه الخوارق أيضا تحدث له هو الآخر، حيث كان يستحوذ على الأفاعي بشكل رهيب..إنما الكرامة كما رأينا قد تتجاوز هذه الأمور، وتتعداها إلى خوارق من نوع آخر، وهو هنا خارق متعلق بالتحكم في السلطة، التي لا يقوى عليها أحد، فقد خالف المألوف، وأرعب الأمن، وهو أمر قداسي بامتياز، لارتباط وقوعه بأعلى وأقوى مؤسسات الدولة، وركن من أركانها الذي تحتمي به جلّ المؤسسات الأخرى التي تشكل مفهوم الدولة، واستقرارها .
يتميز النص الأسطوري الكرامي هذا، بالفضاء الزمكاني، شأنه في ذلك، شأن سائر الأجناس الأدبية الأخرى .أما فيما يخص مكون الزمان في هذه الأسطورة، هو زمن الأولياء والصالحين، وهو الزمن الماضي كما هو عند مِرسيا إلياد، ويمكن حصر زمان وقوع هذه الكرامة، ما بين الستينات والتسعينات، هذا متعلق بحدوث الكرامة المشار إليها في النص، تلك التي حدثت لسيدي العربي البقالي الغماري، لأنه كان متنقلا بين قبيلته بني سميح، وبني رزين، وبني كرير، ومتيوة وباقي القبائل الشمالية في هذه الفترة، وما قبلها، إلى أن اختفى أثره في عام ألفين وستة 2006 على أغلب الظن. وقد يكون الزمن في الكرامات الأخرى، الزمن المضارع حالَه واستقبالَه، كما هو الشأن عند الدكتور السلمي، فزمان وقوع الكرامات غير متوقف، فهو باقٍ ومستمر، دائم الاستمرار، وهذه الاستمرارية متعلقة، باستمرار الأولياء، فهو أمر وراثي .
أما فيما يخص المكان فيها، فحسب ماذكر هو؛ إما مدينة مارتيل، وإما فيلاج الجبهة، لأن هناك اختلاف في الرواية عن مكان وقوع هذه الكرامة، هناك من يقول وقعت له في الجبهة، وهناك من يقول في مرتيل، وهما الاثنان يتموقعان في شمال المغرب، ولكن، الذي يُهمنا هو ثُبوت وُقوع هذه الكرامة، وهو أمر لم يختلفوا فيه .وقد لا يذكر المكان في بعض الكرامات، لأنه ليس شرطا فيها .
فقد تميزت شخصية البطل ” سيدي العربي “، بخوارق عليا، فلا نقول عنه بطلا، إلا بعدما تبينت لنا بطولتَه المتجلية في النص الأسطوري .
كما حضرت شخصيات أخرى من غير شخصية البطل، وهي شخصيات ثانوية، والمتمثلة في الأمن؛ والذي تحوّل في هذا النص إلى: رعب، والخوف، والهلع، والولع، بالمشهد المؤثر الذي وقع للشريف داخل الولاية، وهو ربما حدث يقع لأمر مرة، في المغرب، أو في العالم، فلم نسمع عن نظيره ولو في الحكايات الخرافية !.
ويمكن إحقاق الحق، وإبطال الباطل في هذه الأسطورة، انطلاقا من المقياس العلمي التجربي، فمسألة خروج وفرار الشريف سيدي العربي، من الزنزانة في المرة الأولى دون انفتاح الباب، واقتلاع الباب مع الخروج من السجن في المرة الثانية، أمر لا يعقل، ولا يقبله العقل البشري، لأنه مخالف للمألوف والمعتاد، وعندما نقوم بالتجربة، لأي شخص كان، أو مئات الأشخاص، أو حتى الآلاف، فلن يحدث لهم ما حدث للشريف، وليس لهم القدرة لاقتلاع باب الزنزالة، وبالتالي، على هذا الأساس، وانطلاقا من هذه التجربة، سنبطل ما حكي عن سيدي العربي، ونعده ضربا من الأباطيل والخرافات .ولكن، إذا رجعنا إلى تراثنا، وثقافتنا الإسلامية، نجد بأن ديننا يقر، بحدوث خروقات لأولياء الله الصالحين، لأن الكرامة لا تحدث إلا على يدي عبد ظاهر الصلاح، مستمسك بدينه وطاعته، وقد تحْدث بشكل أو بآخر لغير للمسلم العاص، على أن تكون تنبيها له، لاستقبال التوبة والخضوع لله تعالى، فتكون طريقا أوّليا لصلاحه، واستقامته .
كما تتحدد مادة هذه الأسطورة، من خلال الحَبكة السردية، فقد افتتح النصّ الأسطوري بمشهد سردي حكائي خبري، ” مما حُكيَ عن الشريف سيدي العربي..”، ثم طرح مشكلا أو شدّة، وهي دخول الشريف السجن، وفي الأخير عمل المسطر على إيجاد حل لهذا المشكل، أو ما يسمى بالانفراج، وما بين الافتتحاح والخروج من الشدّة، خرقان، وهما اللذان ميّزا نصَّ الأسطورة، وأثّرا في المتلقّين .
خلاصة القول
إن أهم استنتاج خرجنا به من خلال هذه الرحلة القصيرة التي، حاولنا أن نعالج فيها الحديث عن الأسطورة الكرامية، هو أن نص الأسطورة على الرغم من كونه نصا نثريا، هو كذلك كان بحق ما يسمى بالإجناس الأدبي أو التجنيس، فمن خلال التحليل الذي أجريناه على نص من نصوصها، تبين لنا أنه جنس أدبي سردي، خبري، حكائي، وذلك لتوافره على شرط الأدبية، لأنه حافل بمجموعة من مكونات البنية السردية المعروفة في الأجناس الأخرى، بل أكثر من هذا، فإن نص الأسطورة أكثرها أدبية من حيث العناصر، وأغناها من حيث مادته الأبية، والذي يجعله متميزا هو عنصرا: خرق العادة، والقداسة .
فلا بد إذن، أن نهتم بالأساطير بكل أنواعها، لأنها ثرية من حيث أدبيتها، ومن حيث الأفكار التي تمررها لنا وهي تفسر مختلف الظواهر الكونية وغيرها، لذلك وجب تحليلها من مختلف المناهج والمقاربات التي لا شك، ستحييها من جديد .
ثم أخيرا: أنبه على أن مثل هذه النصوص، ليس الغرض منها، هو الانتقاد الجاهل، ولا الحكم السريع، كما أنها ليست للتصديق، ولا للتكذيب، ولا للتشكيك، بقدر ما هي نصوص للتحليل، والدراسة العلمية، فيجب إخضاعها للنقد الأدبي الموضوعي، لا للنقد الإيديولوجي الذاتي، فهي للتأويل وتفكيك ألغازها، ورموزها، وإبراز أنساقها وثقافتها المضمرة أو المعلنة .
ملحوظة
هذا التحليل أجراه: سفيان مغوز، على النص الذي كتبه هو بنفسه عن الشريف سيدي العربي البقالي .وقد أجراه يوم الأحد الحادي عشر من رمضان، بعد صلاة التراويح.
التفاتة جميلة من الأستاذ سفيان أمغوز، بإخراجه هذا الموروث الشعبي المغربي الشفهي للغماريين إلى صيغة التدوين، وإصباغه طابعا أدبيا إبداعيا إمتاعيا .. ولعل ما يزيد هذه الحكاية متانة، كثرة استشهادات الأستاذ النقدية والتحليلية التي راكمها من أبحاثه بسلك الإجازة والماستر في رحاب جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، واطلاعه على أبحاث الدكتور جعفر بن الحاج السلمي الذي يسعى دائما وأبدا إلى رد الاعتبار “للأدب الشعبي الشفهي”، وإبراز قيمته الفنية داخل نظرية الأدب…
على العموم الشكر موصول لصديقي سفيان أمغوز الذي أبدع في نقل النص من طابعه الشفهي إلى طابع الكتابة، وعلى غنى تحليلاته واستشهاداته.. والشكر موصول كذلك لمجلة عالم الثقافة الالكترونية.