مقال

محنة رجل فضائي!

علي جبار عطية | رئيس تحرير صحيفة أوروك العراقية
هل تتمنى أن تُحلّق في الفضاء كالطيور ؟
إذا كنتَ مصراً على ذلك فامضِ معي إذنْ في هذا المقال !
لقد خاض رائد الفضاء الروسي الدكتور سيرغي كريكاليف (دكتوراه في علم النفس ومهندس طيران) تجربة التحليق المثيرة تلك فبقي في الفضاء ٣١١ يوماً من طيرانه في ١٩٩١/٥/١٨م إلى محطة (مير) الفضائية وتعني بالروسية (السلام) حتى عودته إلى الأرض في ١٩٩٢/٣/٢٥م.
بدأت الرحلة من (قاعدة بايكونور السوفيتية) التي تقع في كازاخستان، وكان من المفترض أن تستمر خمسة أشهر فقط لكنَّ حسابات البيدر ليست كحسابات الحقل فقد حدث ما لم يكن بالحسبان ففي أثناء الرحلة تفكك الاتحاد السوفيتي في ١٩٩١/١٢/٢٦م إلى خمس عشرة دولة، وقيل له :إنَّ الدولة ليس لديها أموال لإعادته إلى الأرض التي يبعد عنها بمسافة ٣٥٠ كيلو متراً فدار حولها خمسة آلاف مرة.
طلب من القاعدة الأرضية التي انطلق منها إرسال العسل له من أجل رفع معنوياته ولكنهم أرسلوا له الليمون والفجل !
هل تحول من طائر حر في الفضاء إلى سجين في مركبة فضائية ؟
وفقاً لمجلة (روسيا بيوند) (Russia Beyond) الروسية الصادرة الأسبوع الماضي (منتصف كانون الثاني)، فقد كان كريكاليف مهدداً مع مرور كل يوم بمخاطر ضمور العضلات، والتعرُّض للإشعاع، وارتفاع خطر الإصابة بالسرطانات، وضعف جهاز المناعة، واعتلال الدورة الدموية. وهي مخاطر محتملة على الإنسان الذي يقوم بمهمة فضائية أطول مما يجب.
هل عرفتم أهمية الشمس والهواء على كوكبنا الأرضي؟
يسأله صحفي عن المعلومات التي كانت تصله في الفضاء فيجيب: علاوة على المحادثات التقنية، كان هناك أناس أخبرونا عن انطباعاتهم عما كان يحدث (في الاتحاد السوفيتي). فضلاً عن ذلك، كانت لدينا قناة اتصال إضافية، وأتيحت لنا الفرصة للتواصل مع هواة الاتصال بالراديو. وكان بإمكاننا استقبال الرسائل والتحدث عبر الاتصالات الصوتية. لكن حتى على الأرض لا يمكنك قراءة جميع الصحف !
كان يمكن لكريكاليف أن ينجو من المخاطر، ويعود إلى الأرض بكبسولة عودة طوارىء متوفرة في المركبة بعد رجوع رفيقيه في الرحلة رائدي الفضاء أناتولي أرتسبارسكي، والبريطانية هيلين شارمان بسلام بعد أن أنهيا مهمتهما إلا أنَّ عودته هذه كانت بمثابة شهادة وفاة لمحطة مير الفضائية التي توصف بأنَّها مثالٌ للهندسة العملاقة التي تمكّن الاتحاد السوفيتي من تحقيقها فهي تتكون من وحدات استغرق تجميعها عشر سنوات وكانت أول محطة فضائية طويلة المدى مأهولة بالبشر على مدار فترة عملها، وهو غيور، ولا يريد أن يكون سبباً في فشل المحطة !
لكن صدقت الحكمة التي تقول : (الصبر مفتاح الفرج) فقد اضطرت روسيا الغارقة في مشكلات اقتصادية كبرى إلى بيع مقاعدها في صاروخ (سويوز) المتجه لمحطة الفضاء إلى دول أخرى فاشترت النمسا مقعداً مقابل سبعة ملايين دولار، واشترت اليابان مقعداً باثني عشر مليون دولار لتبعث مراسلاً تلفزيونياً إلى الفضاء(هل عرفتم أهمية عمل المراسل؟)
ووافقت ألمانيا على دفع مبلغ أربعة وعشرين مليون دولار لشراء تذكرة لاستبدال كريكاليف برائد الفضاء الألماني (كلاوس-ديتريش فليد).
أخيراً هبط كريكاليف في ضواحي أركاليخ، التي أصبحت الآن جزءاً من جمهورية كازاخستان المستقلة أما مدينة لينينغراد التي عاش فيها فقد صارت تدعى سانت بطرسبرغ.
والطامة الكبرى أنَّ راتبه الشهري الجيد البالغ ست مئة روبل روسي حين سافر (راتب رائد الفضاء) هبطت قيمته الشرائية كثيراً حين عاد، وصار يعادل نصف راتب سائق حافلة !
حين هبط كريكاليف لم يقوَ على الوقوف فهو ضعيف وشاحب فساعده أربعة رجال. ألقى أحدهم عليه معطفاً من الفرو، بينما أحضر الآخر له وعاءً من الحساء.
كان سعيداً بحسب تصريحاته وقتها لأنَّه يقف على أرض صلبة.
لكنَّه مع ذلك عُدّ بطلاً، وبعد عامين طار في مهمة فضائية أخرى، ليكون أول رائد فضاء روسي يسافر على متن مكوك تابع لناسا.
بقيت العبرة من هذه الحكاية التي مضى عليها أكثر من اثنتين وعشرين سنة أتركها لكم لتتأملوا كم نحنُ الأرضيين غارقون في نعم الله !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى