مقال

قراءة في رواية “غواية ظل” للكاتب محمد عطية محمود

فتنة اللغة بين الرحلة والوصول

د. إسراء بدوي | القاهرة 

كيف تصبح لغة السرد صلة جوهرية بين الإشراق الصوفى وحداثة النص؟

تسعى رواية “غواية ظل” منذ عتبة الرواية التى تمنحنا الدهشة والحقيقة فى تأويلية الحلاج.

فى زواية للزمن الاستباقي للحدث وهو ينطلق لحبكة الرواية بين شخصيتين (حلمى- زهرة) كاشفين عن غياب التسلسل التقليدى , فمع مرور الأحداث نكتشف بنية تتابع سردى تخفيه الشخصيات متأثرة ببنية الحلم أو الذاكرة .

فتلك الرؤي المتعددة من أحلام يقظة, منولوجات داخلية ترسمها اللغة كانبعاث ضوء يمتد من سياق الحدث إلى سرمدية اللقاء وانفعالاته بين الشخصيات المحورية.

تنطلق شعرية الحدث فى حركة دائرية  تبدأ من السطح ثم تتسامى فى الأعالى, وتعبر من الثبات إلى الحركة.

فلقاء حلمى بزهرة وحضور كل منهما من سفر طويل,فعل من أفعال الخلق يكشف عن قدرة اللغة الإشراقية على اختراق الحدود من خلال قانون خاص لهذه اللغة القادرة على أن تحيد من معناها العادى وتبهرنا دائما.

كذلك تحمل لغة النص البنى الفكرية والنفسية للبطلين, التى تنفتح على عوالم لامتناهية ,تتسم بالتداخل والانعتاق عن زمنية المكان والزمن ,فلغة  العشق المقدس الذى ينتمى النص إليها ,تمنح السرد ميزة هدم الحواجز بين الروح والمادة ,والحياة والموت ,البعث والفناء .

“ان لم يكن هناك انتظار, فان هناك من يهيم على اجنحة الشوق, يجعل كل هذا الفيضان من البشر محيطا يتحلق حول مركز دائرة تسلب كل الاضواء, وتقتنص البقعة المضيئة , وهى تتهادى قادمة إليك أيضا من علم الغيب”ص16

الراوى كذلك منح السرد زمكانية الرحلة منذ اللقاء (بزهرة) التى سمى ابنته على اسمها, ومساحة التشابه بينها وبين شقيقتها( أمل),فهذا اللقاء هو عتبة كبرى تنطوى على عتبات صغرى بنوع من التزامن, يضع الشخصيتين إزاء مفترق طرق .

فشخصية (حلمى) العتبة الكبرى المتاحة لولوج الماضى والحاضر كما يضعه الراوى, أمام شخصية ( زهرة) الطريق أو الرحلة التى يسعى الراوى إلى سبر أغوارها.

ومن خلال تتابع النص نلحظ النداء الصامت لكل من الشخصيتين بوصفة الظل الذى يمنح للغة غوايتها , فاللغة هنا تطرح كمالاً للذات  المؤنثة فى طقسية عبوديته لحبها,وهنا يحمل إشارة خفية لكشف الحلاج فى عتبة النص عن محبته, تلك المحبة التى أودت به إلى الفناء فى ساحات الحب ,فالبوح بأسرار حبه لمحبوبته قتلاً يحمل نسيج الفناء للأنا عند حلمى ,ولكن الكتمان عند زهرة أيضاً موت أخر.

وهنا تتمثل الدلالة اللغوية فى سياق صوفى خاضع لسلسة من تقاطعات زمنية سردية تجعل وقائع الرواية محصورة فى زمن قصير لكن الماضى ماثل فى الرواية دائما ,فالزمن القصير هى تقنيات واقعية فى الخطاب التقليدى ,لكن الزمن  فى الخطاب الروحى  لهذه الرواية هة لحظة لا ديمومة لها .

كما انها تمثل حضور الشخصيات فى عوالم تكسر حواجز ذلك الواقع وشرائعه وفى لغة تعيد هيكلة التجربة الصوفية فى نموذج دلالى صوفى يخضع لميتاقيزيقا الكلمة.

وهناك منظور آخر للغة فى السرد هى دلالات الأسماء( زهرة, حلمى , أمل ) والشخصيات الثانوية التى ساعدت على ترابط الحدث ( رشيدة, جلال) فهذه السميوطيقية فى عنوانة الأسماء هى ظل آخر للسرد فابالإضافة إلى كونه رؤية (إدراكية) للحدث, فهى تقدم من خلال الراوى النفس المدركة التى ترى الأشياء وتستقبلها برؤيتها الخاصة سواء  على البعد ( الأيدلوجى, أو السيكولوجي).

وهنا تتوحد الدلالة والنسق اللغوى عند الراوى مما  يحمل تطابق من العودة من الأعماق إلى الافاق وتمثل كذلك رحلة العودة من الباطن إلى الظاهر.

 ويلعب الراوى لعبة المخايلة لشخصية (زهرة) فهى ترى من فقد من قبل فيما فقد من بعد فما بين ابنته أمل وابن اختها حلمى الصغير فهى عقل باطن  يمحى المسافة بين الذكرى المتمثلة فى (مختار, جلال) الزوجين السابقين, والحدث المشهود نفسه (حلمى),وهذا الوعى لذات منقسمة على نفسها يمنح الحدث راوى لا يتكلم بصوته ولكنه يفوض راوى باطن يأخذ على عاتقه عملية القص (الأنا الثانية للكاتب) وهو ما يشير إليه الراوى عبر (شيخه) فى الحلم والذى بدوره  يمثل الظل الثاني  فى الرواية.

وبنا على ذلك تمثل اللغة  هنا برزخاً جامعاً بين فاعلية الاستحضار لصوفية العشق ,وبين مفرادت الدلالة (التباسى فى ظل انفلت ليغيب فى أحد الزوايا لشيخى الذى يتراءى لى كثيرا فى أحلامي… فكان تطهرى ودخولى فى حضرة روحى منفردا,وصلاتى المؤجلة التى تراءت لى بعدها زهرة فى كامل بهائها”ص170.

والتقنية الأخرى التى لعب لها الراوى العليم هى صياغة السؤال فى السرد كدلالة زمانية لفظية جعلت العلاقة بين حلمى وزهرة اختزالا لتجربة مقرونة دائما بين الشك واليقين, الحضور والغياب فهو سؤال مفتوح دائما فى النص”فهل كانت علامة جديدة,أم فتنة جديدة ,أم استمرار لغواية لاتزال تعيد إنتاج نفسها”,”هل كان جنونا منها ,أم خروج استثنائيا عن نمط حياتها التى لم تهتم فيها بأحد أيا كان إلا بمعيار مادى صرف؟ فماذا الذي كان يحركها نحو حلمى بهذه القوة”ص173

اذا يتراءى لنا زمن خارج الزمن وتمثل ذلك فى السرد عبر تراتب المشاهد الحوارية بين زهرة وحلمى وكذلك عبر تيار الوعى ولغته التى تمنحنا زمن السرد المتواتر. وكأن شخصيات الحدث لا يملكون سوى الأمل الذى انبثق فجأة, وانفتح على طريق مثقل بالاحتمالات وفى نفس الوقت هناك سعى فى طريق غامض ربما لا مفر من الخروج إليه والمضي فيه.

كذلك اقتباس الدلالة القرآنية من سورة الكهف وظفها الراوى بحنكة شديدة “أنا هى من لن تستطيع معك صبرا. وعليك أن تعى أننى أضعف من أن أقف فى وجه القدر الذي يجبرنى على كل شىء”ص202.

هذا التوظيف الدلالى يرتبط بتناثر السؤال حول الفعل الأول الذى يثير الشكوك, لكنه يؤكد على يقين الفاعل فى نفس اللحظة .

وبناء على ذلك يصبح السرد ظل ينتمى إلى هذا العالم ويعلق عليه من خارجه فى آن.

وفى نهاية السرد(وعد المتاهة ) نظرة بانورامية عن تجسيد حلم محبط بالخلود عاريا ومصلوبا على فراغ متأجج بنار هذا الحب ,فأصبحت اللغة ثنائيات القريب والبعيد,المتاح والمستحيل “يزداد يقينك وسكينتك حين ترى نفسك تملأ فراغات الحكاية التى نشدت الحقيقة الخالصة,لتكتمل بمجرد وصولك إلى هذه الغاية”ص234.

اذا باتت علامات ظل السرد التى تتبعنها من أول الحدث نقطة زمنية أخيرة فى الرواية تنهض بزهرة من سرير المرض, وتُلحق حلمى بطائرته, لكن يظل ظل الحدث بأزمنته المتراكبة لغة غواية قادرة على أن تجتاز المسافات وتختبر الحلم فى متصل دلالى لا ينتهى ابدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى