آفة الرأي الهوى، وآفة الحلم الغضب
بقلم: خالد رمضان | كاتب مصري
قِيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم ؟
قال: من قيس بن عاصم المقري؛ كان محتفيا بجدار داره يعلم الناس العلم، إذ دخلوا عليه بشابين شاب مقتول، وشاب مكتوف، وقالوا: هذا ابن أخيك قد قتل ابنك.
فو الله ما حل حبوته، وما قطع حديثه، ثم فجأة توقف عن الكلام، ونظر إلى ابن أخيه وقال: يا ابن أخي لقد أسأت إلى نفسك، وعققتَ رحمك، وقتلت ابن عمك لحمك ودمك، ثم نظر إلى أحد أبنائه وقال: قم يا بني فحلّ وثاق ابن عمك، وخذه معك حتى نواريه التراب.
هل هناك حلمٌ مثل هذا؟!
وفي الاتجاه المقابل يقبع الغضب مشعلا نيرانه المتأججة التي تلتهم صاحبها التهاما، ولا تدعه حتى تتركه صفر اليدين لا أنيس ولا جليس، فينفض الناس من حوله باغضين قوله وفعله، متمثلين الشيطان في صورته، والبهيمية في فعلته.
إن اندفاعة الغضب المشينة تودي بك إلى ذلة الاعتذار المهينة، فالغاضب حين يستثيره الغضب فقد أسلم نفسه تسليما رائعا للشيطان ليتحكم فيه تحكم الرجل في خاتمه، فيسب ويضرب ويؤذي ويُؤلم، وقد يقتل وهو لا يدري.
لذلك إذا سألت أحدا: من أقوى الرجال ؟
لقد أجابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ” ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب “
الغضب جمرة تتقد في جوف ابن ٱدم ولا يطفئها إلا الماء .
قديما قال عنترة ذاما الغضب :
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
فلتعلم صديقي الغالي أن النفوس أربعة:
– سريع الغضب سريع الفئ،وذلك أحمق يغضب لا لشئ، ثم يعود معتذرا مهانا.
– سريع الغضب بطئ الفئ، وذلك شر الناس، يستثار لأتفه الأسباب ، وتصعب عودته واعترافه بخطئه، فتراه أهوجا متعجرفا يحتقر الناس ويملؤه الكبر شديد، العداوة، ألدّ الخصام .
– بطئ الغضب بطئ الفئ، وذلك إن كان محمودا في صعوبة إغضابه إلا أنه مذموم في صعوبة عودته فنفسه لا تغفر ولا تتسامح بسعة صدر ولا بليونة، فقد يطول الأمر إلى ما لا يُحمد عقباه .
– أما النفس الأخيرة فهي النفس الزكية النقية التي لا تحمل إلا الصفح والغفران، وهو بطئ الغضب، سريع الفئ، متمثلا قوله تعالى : ” وإذا ما غضبوا هم يغفرون ”
أسوق إليك قصة في الحلم لن تسمع لها مثيلا، وهي قصة الأمير معن بن زائدة الذي كان رجلا بسيطا مواطنا فقيرا فٱتاه الله الإمارة، فدخل عليه رجل أعرابي رث الهيئة، جلف الطبيعة حاد الكلمة، فقال للأمير :
أتذكر إذ لحافك جلد شاة
وإذ نعلاك من جلد البعير؟
فقال الأمير : نعم والله أذكره ولا أنساه أبدا.
فقال الرجل :
فسبحان الذي ولاك ملكا
وعلّمك الجلوس على السرير
فقال الأمير : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
فقال الرجل : فلستُ مسلما ما عشت يوما
على معنٍ بتسليم الأمير
فقال الأمير: السلام سنة
فقال الرجل: سأرحل عن بلاد أنت فيها
وإن جار الزمان على الفقير
فقال الأمير: إن شئت جوارنا فمرحبا، وإن شئت الرحيل فأنت وهواك.
فقال الرجل:
أمير يأكل الشياةَ سرّا
ويطعم غيره خبز الشعير
فقال الأمير: المال مالنا نأكل ما نشاء، ونتصدق بما نشاء
فقال الرجل:
فجد لي يا ابن ناقصة بشئ
فإني قد عزمت على الرحيل
وهنا حبس الحاضرون أنفاسهم، إذ بلغت الوقاحة بالرجل مبلغها، فعكس اسم الأمير ( زائدة ) إلى ناقصة .
فقال الأمير:
أعطوه ألف دينار
فقال الرجل:
قليل ما أتيت به وإني
لأطمع منك في المال الكثير
فقال الأمير: أعطوه ألفا أخرى
وهنا أهوى الرجل على قدم الأمير يقبلها، ثم ارتفع يقبل رأسه ويديه، والأمير يمنعه، فقال الرجل: والله ما أردت إغضابك ولا إهانتك، ولكني سمعت عن حلمك وكرمك فأردت أن أختبر ذلك بنفسي، فما رأيته فوق ما سمعته، ثم اختتم كلامه ببيت يقول فيه :
سألت الله أن يبقيك ذخرا
فمالك في الخليقة من نظير
فقال الأمير: أعطيناه على هجائنا ألفين، نعطيه على مدحنا أربعة.
إن امتلاك نفسك عند الغضب مرتبة عظمى ترفع شأنك، وتعلي قدرك، وتخلد ذكرك وتجنبك فتنة قد لا تحمد عاقبتها .
نختم بالحكمة القائلة : ثلاثة لا يُعرفون إلا في ثلاثة، لا يعرف الشجاع إلا عند الحرب، ولا الأخ إلا عند الكرب، ولا الحليم إلا عند الغضب .
وقانا الله تعالى وإياكم شر الغضب وبؤس الغاضبين .