مقال

“أميدو موديلياني”.. فنان قتله الحـُب والمرض

الفنان الفلسطيني عبد الهادي شلا | كندا
يوم وقعت عيني على كتاب ” الملاك الفاسد” لمؤلفه الفنان”يوسف فرانسيس” في أوائل السبعينيات لم يخطر في بالي أن هذا العنوان هو سيرة ذاتية وفنية لأحد عباقرة الفن في القرن العشرين،وأن صور هذه اللوحات لها تأثير قوي على العين والوجدان لا يمكن أن تتجاوزه أو المرور عليه كما يحدث مع أي لوحة لفنان أخر.

موديلياني
إحدى لوحات مودلياني

لم يفارقني هذا الكتاب حتى وقت قريب وحزنت لفقدانه لأن بيني وبين محتواه علاقة خاصة ومشوار طويل لم يغادرني فيه إحساس بعظمة الفنان ” أميدو موديلياني” ولوحات صاحبه .
“أميدو موديلياني “..الفنان الإيطالي إبن مدينة “ليفورنو” الذي مات عن ست وثلاثين عاما مخلفا روائع وهو في حالة فقر لازمه سنين عجز فيها كثيرا عن توفير أقل إحتياجاته.
ماذا سيكون شعوره لو علم أن إحدى لوحاته ” إمرأة عارية مستلقية” بيعت في العام 2015 بما يزيد عن 170 مليون دولار، و أخرى بمبلغ 150 مليون دولار ،وهو الذي قتله المرض والفقر لم يتوقف في سنوات عمره القليلة عن شيئين هما: الرسم والحب لزوجته “جين هيبوترن” التي اتخذ منها موديلا رسم لها 25 لوحة مختلفة وفي كل منها قيمة جمالية وفنية تربعت فوق عرش من الجمال ضاهى بها أعمال معاصرية من أمثال بيكاسو وغيره.
فمن هي “جين هيبوترن” التي أحبها وأنجب منها بنتا؟ هي طالبة تدرس الفنون بأكاديميه كولاروسي للفنونAcadémie Colarossi ورغم فارق العمر الكبير بينهما إلا أنها تحدت عائلتها الأرستقراطية و رافقته ثلاث سنوات منذ العام 1917 حتى مماته 24 يناير 1920 وهو العام(1917) الذي أقام فيه معرضا نظمه له صديقه الشاعر زبوروفسكي ومن بعده داهمه مرض إلتهاب الكلى وتدرن رئوي نقل على أثره إلى المستشفى التي مات فيها مما دفع زوجته إلى الإنتحار ورمت نفسها من الطابق الخامس إلا أنها بقيت حيه ونقلت إلى أحد الملاجئ مع إبنتهما التي رعتها أخته بعد ممات الأم..
وتمكنت “جين” بحبها له وحبه لها من محو تاريخه مع النساء والحب الأول للشاعرة الروسية “آنا أخماتوفا” وكذلك علاقته العاصفة “ببياتريس هاستينغس” ناهيك عن علاقاته المتعددة التي جعلت منه أميرا للبوهيميين وله تاريخ كبير مع بنات الهوى والساقطات والتي ربما من هنا جاء عنوان كتاب يوسف فرانسيس”الملاك الفاسد” حين جمع بن هدوء وحسن التصرف والعبقرية عند موديلياني وبين سلوكه المنحرف !!
في ذروة مرضه وهذيانه منذ كان صغيرا(1884-1920) كان يحلم بزيارة متحف الأوفيزي بفلورنسا وكان عشقه لفنانين عصر النهضة كبيرا وكأن إحساسه بأنه لن يعيش طويلا كان يدفعه للبحث والتعلم بسرعة مما عجل بأمه بأن تطلب من أفضل رسامي مدينتها “ليفورنو” الفنان” غولييلمو ميكيلّي” أن يعلمه أصول الرسم وهي تهيئه للذهاب إلى المدرسة الحرة للعراة بفلورنسا ومن بعدها إلى معهد الفنون الجميلة في فينيسيا.
مما كـُتب عنه أنه كان ميالا إلى فن الكلمة والفكر قبل جنوحه إلى فن الرسم وتعلق بالفلسفة حين جاء إلى فلورنسا في العام 1902 للإنتساب في المعهد الحر للرسم العاري،وكان قد تعرف على الأدب الرفيع عن طريق جده لأمه وتأثر بما قرأ من كتابات نيتشة واسبينوزا وبودلير وغيرهم، فأصبح لديه شعور بأن الإبداع الحقيقي يأتي من الفوضى والتحدي.
ويذكر أن “موديلياني” قد تأثر كثيرا بالشاعر الفرنسي “كومت دي لوتري آمو” الذي ألف أول كتاب سيريالي”أغاني مالديرور” الذي كان كتابه المفضل وحفظه عن ظهر قلب.
في باريس التي انتقل إليها في العام 1906 أقام في مرسم متواضع في شارع “كولنكور Caulaincourt ” ،وكان شابا جميل الطلعة بوجهه الحزين وقامته الطويلة، وعرف عنه الأناقة في المظهر والسلوك فكان علما من أعلام المنطقة التي أقام فيها حيث تعرف على شخصية هامة تقف بجانب الفنانين وهو الدكتور ” بول ألكسندر ” الذي ساعده ماديا وإقتنى بعضا من لوحاته وأصبح صديقا حميما له.
في هذا الأثناء من إقامته في باريس أصبح عضوا في جماعة “الفنانين الأحرار” وذلك في العام 1908 حيث عرض في المعرض الأول للجماعة خمس لوحات من بينها لوحته الشهيرة “إمرأة إيطالية” وهي موجودة في متحف المتروبوليتان وعرض لوحة “عازفوا الفيولنسيل”،وفي هذا الأثناء تعرف على النحات “برانكوزي” وتطورت علاقتهما حيث تفجر في داخله حبه للنحت فأنتج تماثيل من الحجر لرؤوس فريدة في أسلوبها جمعت بين الفن الأفريقي والفن الأتروسكي الأمر الذي دفعه إلى العودة إلى مقالع الحجارة في بلدته “ليفورن” وهذا إنعكس سلبا على صحته الضعيفة لأن العمل في المقالع كان شاقا عليه فعاد إلى باريس لينحت تماثيله على الخشب.
حين تمكن منه مرض السل الرئوي وأضناه، هرب إلى شرب الكحول وتعاطي المخدرات ورسم الكثير من اللوحات كان ذلك قبل أن يلتقي زوجته “جين هيبوترن” واستمر على ذلك رغم جهدها في إبعاده عن هذا الطريق.
كان بداية يميل غلى المدرسة التكعيبية ومحبا للفن الزنجي، بجانب عشقه لفن عصر النهضة ولم يكن يرى تناقضا بين الفن الكلاسيكي التقليدي والفن الحديث وظهر ذلك في تأثره بالفنان “سيزان” كما هو واضح في لوحة ” مدام بومبادور” حيث المساحات الواسعة بالألوان القاتمة واللمسات المرتجفة التي انبثق منها أسلوب موديلياني” الذي أعاد الأشكال الإنسانية إلى بساطتها التي ترتاح لها العين حين تقع على الإستطالة والخطوط التي تحدد الشخصيات في لوحاته الأمر الذي يوحي للمتلقي كما لو أن هذه الشخصيات ملصوقة على جدار اللوحة..
ولعل أهم ما يميز أعماله هو إلغاء حدقة العين في الوجوه التي رسمها صامتة وحزينة كما لو أنها تعكس حالته النفسية وضعف جسمة.
سر غريب يبدو في أعمال هذا الفنان حين ينظر إليها المتلقي يجد نفسه أسيرا لشئ غامض لكنه متوفر بكثرة في داخله ويستمر محدقا دون أن يحصل على إجابة لما يتردد من أسئلة بداخلة إلا أن سعادة تغمرة وهو يجد جزءا من روحه في العمل الذي أعجزه فهمه لبساطته وكأنه أمام عمل سهل ممتنع.
كان واضحا أن موديلياني قد تأثر بثقافات مختلفة ومتعددة، فمن الإيطاليين أخذ عنهم تقديسهم لجسد الأنثى، وعن اليونانيين البساطة والرمزية في التعبير، وعن الهنود الصخب والحسية المفرطة، وعن آلهة المصريين القدماء الأناقة والنبل في نظرة المرأة.
“سيمونيتا فراكلي”، المتخصصة في أعمال موديلياني، والتي شاركت في تنظيم معرض له ضم إثنى عشرة لوحة نادرًا ما يتم عرضها في الأماكن العامة، بسبب تقصيها لأدق تفاصيل جسد الأنثى بحسية مذهلة في متحف ” تيت مودرن” في العام الفترة من 23 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 2 نيسان/ إبريل 2018 قالت: “أتمنى أن يرى الزوار في أعماله المنتقاة أكثر مما يعرفونه أو يتصورنه عن الفنان، فعادة ما يتسرب إلى حس المتلقي لأعمال موديلياني أنها جميعها تدور حول الشيء نفسه؛ بمعنى أن موديلياني يكرر نفسه في أعماله، فالوجوه هي ذاتها والعري هو موضوعها الأساسي، ولكن في الواقع الأمر ليس كذلك”.
بعد وفاته، في 24 يناير 1920 و كانت له جنازة هائلة، حضرها العديد من الرموز الفنية في مونمارتر ومونتبارناس.
و نجد على قبره عبارة: ( قُضي عليه بالموت في لحظة المجد). و على قبر زوجته جين هيبوترن: (رفيق مخلص للتضحية القصوى).و ارتفعت سمعتة و كرست له تسع روايات، مسرحية، فيلم وثائقي، وثلاثة أفلام روائية لحياته وتبنت شقيقتة في فلورنسا ابنته جين (1918-1984) ، و كبالغه كتبت جين سيرة والدها بعنوان موديلياني: الرجل والأسطورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى