مقال

جماليات قصيدة التفعيلة في شعر محمود عقاب

ديوان "بردية العشق الأولى" أنموذجا

د. رضا عبد الرحيم
   تنطبق تماما مقولة ت. س. إليوت على ديوان بردية العشق الأولى للشاعر محمود عقاب، والحائز على جائزة أفضل ديوان شعرى من اتحاد كتاب مصر عام 2022م ،يقول إليوت: “إن الشعر خلاصة المعرفة الإنسانية واكتشاف حقائق عبر أداة تفوق أداة العلم والتاريخ والأديان،تلك الأداة هى رؤية الشاعر الثاقبة النادرة”(فى الشعر والشعراء،ترجمة محمد جديد،1991م)… فالديوان يحمل تجارب شعرية ليست أحادية الدلالة ولكنها تبوح بدلالات عديدة رامزة من خلال الشعرات الأسلوبية والمفردات اللغوية والإحالات التراثية والإضاءات التناصية.
فإلى جانب الرومانسية المفرطة التى تذكرنا بالشعراء الرومانسيين الإنجليز فى القرن الثامن عشر مثل: وليم بليك،وردز ورث،وكولردج. نجد محمود عقابيتنسم تياراتها ،ويُعيد إلينا هذه الأصوات من جديد ، ففى قصيدته “كى أؤرخ أمنياتى القادمة” يقول:
إنى أتيتُ/أعيشُ فى كوخ بسيط /يطردُ الفئران بالقطط الوديعه/.أبيتُ أنفضُعن جبين الليل بُوما / لن يدوم على وضُوء عدةُ فجر جديد /سوف يغسلُ وجهه فى النيل/ إذا نظرت لهُ الشمسُ البديعه/إنى أتيتُك/بىً تفاؤلُ قادم/لأؤرخ الغيب المطل على نوافذ مهجتى بالأمنيات/أطلقتُ شعرى هودجا/يمشى لينقُش أمة فوق الرمال/بغير سيف أو نبال/لأرى قوامك بازغا من هودجى/كالعود بين الأغنيات/فالشعرُ همش/ كيف يُمليه المدى يوما على أذن الرعُود/وأنا أُسافرُ نحو أحلامى البعيدة/كالرماد مع الرياح/ ولا أعود.
وتأتى الإضاءات التناصية فى ديوان “برديةالعشق الأولى” لتبرز الوظيفة الجوهرية للنص ،الذى يقوم على استحضار النصوص الأخرى وتُوظيفها لتحقيق رؤية معاصرة تتجسد فى أشكال متطورة من المنجز الأدبى والتعبير الدلالى لبلوغ هدف التواصل الجمالى مع السوابق من النصوص،كما تحقق التجاوز حرصا على الإبداع وخبراته المتراكمة عبر العصور،وهذا لا يتحقق للنص المركزى إلا بتحويل المتناصات والمقتطفات من النصوص السوابق والمعاصرة ،إلى عالم جديد ورؤية جديدة تراكم الخبرات الجمالية فى التاريخ الإنسانى(أحمد جبر شعث،جماليات التناص) ففى قصيدة “السجل الأخير” يظهر جليا التناص الكلى مع النصوص الوطنية فى الشعر العربى وخاصة قصيدة شاعر المقاومة، الشاعر الفلسطينى /محمود درويش “سجل أنا عربى “- وهى من أهم القصائد الوطنية ،نشرت فى ديوانه الثانى”أوراق الزيتون”،عام 1964م- ،يقول محمود عقاب: سجل..تختالُ فى عُشبها بغداد/منذُ رأى/شريان دجلة/يُجرىالفكر فى الكتب/………./تُظله تونس الخضراء /نت قلم الشابى؛”إذا الشعب يوما”فى السجل أبى/تطل فيروز من إيقاع هودجه/كأن بيروت /معزوف بها لقبى/فى خطوه صار ليبى الصمود/على صحراء/يصهرها المختارُ بالذهب/يرويه درويش/من أقصى قصائده كرامة/أنضجت زيتونة العرب/غنى”بلادى” على نيل/فأصبح من ألحان درويشه/”سجل أنا عربى” .
كما يأت التناص مع النص القرآنى فى قصة سليمان عليه السلام وقصة بنات شعيب مع موسى عليه السلام فى قصيدة “العالمُ فى فطرة مجذوب” يقول:لو لاح العالمُ فى فطرة مجذوب/لمشى فى جُند سُليمان مُهابا/لا يتنمرُ/أو يسخرُ من نمله………/لتعفف عن مهن النار/بدكان مزجحم بالشحناء/وومشى فى استحياء/كبنات شعيب إلى مهنة ظمآن للماء..وفى قصة قابيل وهابيل فى قصيدة”نشيد العطر للدُخان” يقول:دارت الأرضُ/حول قابيل..كيف الشمسُ سُهدى لها الغُرابُ رُجوعا؟! وقصة يوسف عليه السلام فى قصيدة”يراوُ الأرض عن أزهارها” يقول:براءة ما..رأى إثبات الذئبُ/وصرتُ ألهو ويحمى حُلمى الجُب/هل ألهموا الناب طُهرا من قميص مُسالم؟/وحبى استحت/من لحمه الحربُ/الدمعُ فى الصخر خدش فى مهابته/وعند بحر دمى/هل يُخدش الذئبُ؟!، كذا استلهام مشاهد من سيرة موسى عليه السلام وقصة السنين العجاف في قصيدة “أزورُ حياء الجُوع” يقول:أمرُ على السبع العجاف مؤولا/أزورُ حياء الجوع/لستُ بخادش/وكم حنطوا قلبى لخُلد محبة/وفى جسدى المُخضر/قبضةُ نابش. واستلهام قصة الخضر عليه السلام فى قصيدة” متحف يليقُ بجسد” يقول:فلم أتخذ للملح/درب سفينة/لإنقاذها؛بالخرق؛لم تتصوف/ أعجلُ ساعات اللقاء لأننى/أرى عقرب الفقدان/غير مسوف /فليست حياتى غير سرد صحيفة/أنقحُها قبل الممات بمُصحف.
ويتجلى أيضا الجانب الفكرى للشاعر ،ولا أقول الجانب الفلسفى،فالشاعر هنا مفكرا وليس فيلسوفا ،- ليس مطلوبع من الشعر أن يكون مجرد تسجيل للأفكار فقط ،وإنما يراد به نقل تجربة الفنان إلى قارئه بحيث تنفذ إلى نفسه فينفعل بها وتستقر فى وجدانه فتؤثر على نظرته إلى الحياة وإداكه للأشياء(مصطفى السحرتى،شعر اليوم 1957م) – فكلماته البسيطة القريبة من الاستعمال اليومى لا تبعث عن الحلم فقط بل على التفكير دونما تنظير-فالتنظير يضع حدودا تجريدية فى حين إن التفكير هو فى ذاته امتداد لفعل الخلق والإبداع(برنار مازو ،2005م)- فإذا كان جانبه الشعرى الرومانسى يذكرنا بالشعراء ،فجانبه الفكرى يذكرنا بآباء الاشتراكية مثل: شكسبير،وفولتير.وشو.. وخاصة فى دعوته للعدالة الإجتماعية ،حيث نجد الشاعر مُلتصق بالأرض ،شاهدا على عصره كما قال الشاعر التركى الكبير ناظم حكمت ،فإن الشعراء الذين صمدوا عبر القرون هم أولئك الذين تغنوا بمحبة الوطن ،بآلالم المقهورين،ورفضوا مهانة الإنسان والتفاوت الطبقى. ففى قصيدته “ما تبقى من رصيد الورد” يقول:
ما تبقى من رصيد الورد/ بعد الحرب/إلا نكهة للحُب/تُهدى الخُبز دربا آمنا فى حلق كُل الجائعين/تُكسبُ الأوطان طعما طازجا/كم يشتهيه النازحون/نكهة للعدل/تُزجى مُزنة تُلقى لأفواه الصحارى/حيثُ لا تنسى لُعابا ظامئا/لم يتهجى أى نبع للحياه/تمنحُ الملح لأرض/ لم تكُن كالبحر يوما/ حين أعطى بالتساوى الملح فى كف المياه/لم تكُن كاللحن يوما/حين يمشى ضاحكا فى كُل أذن/هكذا قد صار يمشى عادلا فى لهوه لحنُ الكمان!
وقد وفق الشاعر محمود عقاب فى ديوانه”بردية العشق الأولى”فى تقديم شعر التفعيلة (قصيدة التفعيلة التى تعتمد فى أغلبها على وحدة التفعيلة أساسا وزنيا بديلا للعمود الخليلى بقافيته ورويه.غالى شكرى،شعرنا الحديث 1968م ) ،الذى يجمع ما بين الاصالة والتجديد.كما أحسن فى اختيارالبحور الشعرية المناسبة لموضوعات الديوان المفعمة بالدلالات والإشارات المجسدة للهوية العربية والحضارة الإسلامية ،لاسيما تلك البحور المعتبرة عند العرب فى عصور الاحتجاج وغيرها(غازى تموُت، 1992م)من مثل (والبسيط ) و(الوافر) ،البسيط مثل قصيدته “للطين لون واحد”،والوافر مثل قصيدته”ظل لم ينتهكهُ اللهيب” وهذه البحور أعمدة راسخة يتكىء عليها فحول الشعراء،لأنها تستوعب آهاتهم وزفرتهم ،واحاسيسهم ،كما أن المتلقى أستأنسها ووجد فيها ضالته (عتيق 1987م)،كما استخدم بحر (المنسرح) فى قصيدة “تلاوةُ الماء للرمل”،وهو من الأوزان التى شاعت فى بعض العصور،لاسيما العصر العباسى،وذلك لأسباب الغناء والرقص،ومنها ما يشابه (المجزوء)،لأنها تقوم على تفعيلتين فى كل شطر.
كما أولى الشاعر القوافى اهتماما كبيرا -التمسك بالشكل التراثى الرصين الملتزم بالوزن والقافية- إذ إن تنوعها أعطى بعض القصائد جرسا موسيقيا واضحا،تضفى على الوزن طاقة متجددة تطرب له الآذان وتنسجم معه القلوب ،ويُعد هنا من أهم معطيات التجديد فى العصر الحديث.
وبهذا يقدم لنا الشاعر المُجيد محمود عقاب أسس لجماليات شعر التفعيلة التى رآى د.محمود أمين العالم أنها الفارس المنقذ للشعر العربى من الرتابة والإملال والجمود(أين الجديد فى الشعر الحديث،المصور 1966م) .والتى ينظم فيها الشاعر قصائده على ميزان الشعر القديم وبحوره الأصيلة،ويجمع بين عراقة هذه البحور القديمة،ورونق الشعر الحديث-شعر البحر التفعيلى- ذلك الشعر الذى لم يخرج عن ضوابط الشعر العربى فى بحوره الأصيله،ولا فى قوافيه،إنما جمع بين عذوبة الحاضر ورونقه ،وأصالة الماضى وجزالته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى